الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | سعد بن عبد الله العجمة الغامدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة |
فمن خضع لله -تعالى- وأطاعه وتحاكم إلى شرعه فهو العابد له، ومن خضع لغير الله وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبد الطاغوت وانقاد له، والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن مما لا يخفى على كل ذي بصيرة أن الله خلق الجن والإنس لعبادته -سبحانه وتعالى-، ويعلم كثير منهم تعريف العبادة بأنها: اِسْمٌ جَامِعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. ولكن الغالبية العظمى من المسلمين قد يجهلون أو يتجاهلون أن العبادة الْحَقَّةَ تشمل جميع مناحي الحياة؛ دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها، وتقتضي الانقياد التَّامَّ لله -تعالى-؛ أمرًا ونهيًا، اعتقادًا وقولاً وعملاً، وأن تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله بحيث يُحِلّ ما أحل الله ورسوله ويُحرِّم ما حرم الله ورسوله، ويخضع في سلوكه وأعماله وتصرفاته كلها لشرع الله.
ولا يتمّ إيمان المسلم إلا إذا آمن بالله ورضي بحكمه في القليل والكثير، وتحاكم إلى شريعته وحدها في كل شأن من شؤون حياته؛ في الأنفس والأموال والأعراض، وإلا كان عابدًا لغير الله -تعالى-، قال سبحانه: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء:65].
فمن خضع لله -تعالى- وأطاعه وتحاكم إلى شرعه فهو العابد له، ومن خضع لغير الله وتحاكم إلى غير شرعه فقد عبَد الطاغوت وانقاد له، والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والقوانين الوضعية التي يتحاكم إليها الناس اليوم ينافي الإيمان بالله -عز وجل-، وهو كفر وظلم وفسق.
ولقد حرم الله -عز وجل- الْحُكْمَ بغير ما أنزل كما حرم الكفر والظلم والفسوق والنفاق والعصيان، وجعل مَنْ لا يحكم بما أنزل الله كافرًا وظالمًا وفاسقًا، والظلم والفسق بمعنى الكفر كما ورد ذلك في آيات عديدة، فيكون فِسْقُ من لم يحكم بما أنزل الله وظلمه هو الكفر، ويكون من لم يحكم بما أنزل الله كافرًا بِنَصِّ القرآن على تفصيلٍ في ذلك لبعض العلماء والمفسرين من جهة الاعتقاد والرضا بالقوانين الوضعية وغيرها من الأعراف والأحكام القبلية والعشائرية مما يخالف تعاليم الإسلام.
ولكن علينا أولاً أن نتدبّر الأدلة من الكتاب والسنة ونعلم أن الأمر خطير وليس بالأمر الْهَيِّنِ، فالدليل على أن الظلم كفر قول الله -عز وجل-: (إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لقمان:13]، وقوله -تعالى-: (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[البقرة:254]، وغير ذلك من الآيات؛ أما الدليل في التعبير عن الكفر والظلم بالفسق فقول الله -عز وجل-: (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ)[البقرة:99]، وقوله -تعالى-: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ)[الأعراف:165]، وقال -تعالى- عن المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[التوبة:67].
ويتبين من هذه الأدلة وغيرها مما سيأتي أن الحكم بغير ما أنزل الله ظلم وفسق، وأن ذلك كفر بالله -عز وجل- وعدم إيمان به -تعالى-، ولكنه يختلف كلّ بحسب حاله، فظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، كما ورد ذلك في آيات أخرى من القرآن الكريم.
وقد ذكر الله -عز وجل- في سورة المائدة في آيات متتاليات وجوب تَحْكِيمِ ما أنزل الله -عز وجل- وَتَرْك ما سواه، ورد ذلك في أكثر من عشرين آية، وفي نهاية كل آية من الآيات الثلاث قول الله -عز وجل-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)[المائدة:44]، (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[المائدة:45]. وقال -سبحانه-: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[المائدة:47]، وفي الآية التي تلي هذه الأخيرة قول الله -عز وجل-: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقّ)[المائدة:48]، وفي الآيتين اللتين بعدها قال -عز وجل-: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:49-50].
فقد قال الله -عز وجل- فيما أنزله على رسوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)[النساء:105]، وقال -عز وجل-: (وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ)[الرعد:37].
فممّا تقدّم من الأدلة يتبين لكلّ مسلم أنّ تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه من مقتضى العبودية لله والشهادة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تُعامِل به أية دولة رعيتها أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل زمان ومكان، وفي حال الاختلاف والتنازع العام والخاص، سواء أكان بين دولة وأخرى أم بين جماعة وجماعة أم بين مسلم وآخر، فالحكم في ذلك كله سواء، فالله -سبحانه- له الخلق والأمر وهو أحكم الحاكمين، وهو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم وما يصلحهم، فالحكم لله -عزّ وجل- في الدنيا وفي الآخرة؛ كما قال -تعالى-: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَلآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص:70].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
أيها المسلمون: لا إيمان لمن يعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو أنها تماثلها وتشابهها، أو من تركها وأحلّ محلها الأحكام والقوانين الوضعية والأنظمة البشرية وإن كان معتقدًا أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل، كما أنه لا يجوز الإيمان والعمل بما يهوى الإنسان ويترك ما لا يهواه، فهو بذلك يكفر ببعض الكتاب ويؤمن ببعضه، ويناله الخزي في الدنيا والآخرة والعذاب الشديد؛ كما قال -تعالى-: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)[البقرة:85]، وقال -عز وجل-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِينًا)[الأحزاب:36].
فالواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم وأهل الحل والعقد فيهم أن يتقوا الله -عز وجل- ويحكّموا شريعته في بلدانهم، ويقوا أنفسهم ومن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وعلى عامة المسلمين في كل بلادِ العالم وطالبِ العلمِ والجاهل أن يطالبوا حكامهم بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وعليهم أن يعتبروا بما حلّ في بلادهم وغيرها من بلاد المسلمين التي أعرضت عن حكم الله، وينظروا ما حصل فيها من الاختلاف والتفرق والفساد وضروب الفتن وقلة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضًا وينتهك حرمة وعرض غيره ولا يطبق بحقه شرع الله.
ولا يزال الأمر في البلاد المعرضة عن تطبيق شرع الله في شدة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عنهم سياسيًا وفكريًا واقتصاديًا إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه، وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه الله لعباده وأمرهم به ووعدهم عليه جنات النعيم.
إن من لم يحكم بدين الإسلام فهو في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء وإن كانوا يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري الموافق للقرن الواحد والعشرين الميلادي، كما قال -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50]، وقال -عز وجل-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى)[طه:124].
إن الواجب على علماء المسلمين اليوم كبير، ومن بعدهم طلبة العلم حول بيان وشرح أحكام الإسلام ونشرها بين المسلمين، وإن واجبهم أن يقولوا كلمة الحق ولا يخافوا في الله لَوْمَةَ لاَئِمٍ.
إن سبب جهل المسلمين بإسلامهم هو كتمان العلم وعدم البيان من قبل العلماء، والرضا بالحياة الدنيا ومتعها الزائلة، وطلب رضا الناس بسخط الله -عز وجل-، حتى اتخذ الناسُ رُؤُوسًا ورُؤَسَاءَ جُهَّالاً بدين الله، فضلوا وأضلوا، وأحلوا كثيرًا مما حرم الله؛ مثل الربا والغناء والحكم بغير ما أنزل الله وإيجاد المبررات لذلك في مجتمعات المسلمين، وغير ذلك كثير، حتى استساغ المسلمون تلك الأوضاع وعاشوا في الأوحال، وعندما يُطَبَّقُ شَرْعُ الله أو يُطَالِبُ أَحَدٌ بتطبيق شرع الله أو حَدٍّ من الحدود عندها يَتَّضِحُ انتساب المسلمين إلى الإسلام فقط، ولا ينفعهم الانتساب؛ خاصة الذين يستنكرون تطبيق أي حد من حدود الله، أو يُنَدِّدُونَ بمن يفعل ذلك، أو يستهزئون بالإسلام وتعاليمه، أو ينطقون بعبارات الشرك والكفر من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
وعلى المسلمين جميعًا أن يتأملوا ويتدبروا وأن يعملوا بهذه الآية التالية المحكمة وبغيرها؛ لكونها كافية شافية لمن أراد النجاة لنفسه في الدنيا والآخرة؛ حيث أقسم رب العزة والجلال بربوبيته -تبارك وتعالى- بِنَفْيِ الإيمان عن أَيِّ مُدَّعٍ لذلك حتى يستوفي ثلاثة شروط متضمنة لتحكيم الكتاب والسنة في أي خلاف واختلاف ومشاجرة، وعدم وجود الحرج، والرضا بذلك بعد الحكم والتسليم والاستسلام لأحكام الله -عز وجل-، قال -تعالى-: (فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا)[النساء:65].
هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...