العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أسماء الله |
الرافع والخافض للميزان بأعمال العباد الصالحة أو الطالحة؛ فعن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: "إن الله -عز وجل- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
عباد الله: ما من عبدين مستويين في كل شيء أبدًا؛ بل لا بد أن يرفع الله أحدهما عن الآخر في مال أو وسامة أو منصب أو ذكاء أو إيمان... وهذا الثاني تجده أيضًا مرفوعًا فوق الأول في أشياء أخرى ربما في طول أو كثرة أولاد أو قوة أو راحة بال أو صبر... لكنهما لا يستويان في كل شيء، وإنك لتجد المؤمن والعاصي، والذكي والغبي، والرئيس والمرؤوس، والقوي والضعيف؛ فتُرى من الذي رفع هؤلاء وخفض أولئك؟ الجواب: هو واحد لا شريك له الذي من أسمائه الحسنى الخافض والرافع -سبحانه وتعالى-.
أيها المسلمون: إن الخافض والرافع من أسماء الله المتقابلة التي ينبغي ألا يُذكر أحدهما دون الآخر، بل يكونان دومًا مقترنين، ومعنى اسم الله الخافض: هو الواضع من الأقدار؛ أي الذي يخفض المتجبرين ويذل المتكبرين.
ومعنى اسم الله الرافع: هو المعلي للأقدار؛ الذي يرفع درجات أوليائه بتوفيقهم إلى طاعته، ويجعل لهم النصر والعاقبة.
فهو -سبحانه- الخافض؛ يخفض من يشاء من عباده فينزل مرتبته ويضع قدره ويحط من شأنه، وهو -عز وجل- الرافع؛ يرفع من يشاء من خلقه فيعلي مكانته ويزكي قدره ويقدم ذكره... فلا يرتفع إلا من رفعه الله، ولا ينخفض إلا من وضعه الله -تعالى-، هذا هو المعنى الأول لاسمي الله الرافع الخافض.
أما المعنى الثاني: فهو الرافع والخافض للميزان بأعمال العباد الصالحة أو الطالحة؛ فعن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: "إن الله -عز وجل- لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل" (رواه مسلم)، قال ابن قتيبة: "القسط الميزان، وسمي قسطًا؛ لأن القسط العدل وبالميزان يقع العدل، قال: والمراد أن الله -تعالى- يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة ويوزن من أرزاقهم النازلة، وهذا تمثيل لما يقدر تنزيله فشبه بوزن الميزان.
وقيل: المراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق، يخفضه فيقتره، ويرفعه فيوسعه" (شرح النووي على صحيح مسلم)، وهذا هو المعنى الثالث لاسم الله الرافع الخافض؛ فهو الرافع لأرزاق بعض العباد بالزيادة والنماء، وهو -سبحانه وتعالى- الخافض لأرزاق آخرين بالحجب والتضييق.
وأما المعنى الرابع لاسمي الله الرافع الخافض فهو المنزل للعدل فيعم الأرض، والرافع له من الأرض فيعم الجور والظلم؛ كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المهدي: "يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما ملئت جورًا وظلمًا" (رواه مسلم).
فقد ملئت جورًا وظلمًا حين رفع الله العدل من الأرض، وتملأ قسطًا وعدلًا حين ينزلهما الله على الأرض، وهذا أيضًا مما قاله العلماء في معنى حديث: "يخفض القسط ويرفعه"، قالوا: "ومعنى يخفض القسط ويرفعه، يخفض العدل بتسليطه ذا الجور، ويرفع العدل بإظهاره العدل، يخفض القسط بأهل الجور، ويرفع العدل بأئمة العدل، وهو في خفضه العدل مرة ورفعه أخرى، يبتلي عباده؛ لينظر كيف صبرهم على ما يسوئهم وشكرهم على ما يسرهم".
يقول ابن القيم في نونيته:
هو قابض هو باسط هو خافض | هو رافع بالعدل والإحسان |
أيها المؤمنون: إن الرافع الخافض -سبحانه وتعالى- قد جعل لرفع أقدار العباد وخفضها أسبابًا وسبلًا تجتلب بها وفق مشيئته -عز وجل-؛ فما من عبد يأخذ بأسباب الرفعة إلا رفعه الرافع -عز وجل- فهو القائل: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) [الأنعام: 83]، وما من عبد يتنكب أسباب الضعة والذلة والهوان إلا خفضه الله، قال -تعالى-: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18].
وفيما يلي بعضًا من أسباب رفع الله -تعالى- للعبد أو خفضه له:
فالأول: الإيمان والعلم؛ وهو سبب رفع الله لعباده، قال -تعالى-: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة: 11]، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القرآن: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين" (رواه مسلم)؛ فمن آمن به وعمل بمقتضاه رفعه الرافع -عز وجل- به، ومن كفر به وجحده أو نسيه وأعرضه عنه خفضه الخافض ووضعه.
والثاني: الكلمة الطيبة من الخير؛ فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات" (متفق عليه)؛ فتكون الكلمة الطيبة سببًا في رفع الرافع –سبحانه- للعبد، والعكس بالعكس؛ فإن الكلمة الخبيثة سبب في إهانة الله للعبد وخفضه له، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في رواية مسلم لنفس الحديث السابق: "إن العبد ليتكلم بالكلمة، ينزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب".
الثالث: السعي إلى صلاة الجماعة في المسجد؛ فعن أبي هريرة -أيضًا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "... فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة" (متفق عليه).
الرابع: التواضع لله: فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله" (رواه مسلم)، وفي لفظ: "من تواضع لأخيه المسلم رفعه الله، ومن ارتفع عليه وضعه الله" (الطبراني في الأوسط)، فالتواضع سبب الرفع عند الله، والتكبر والتعاظم والغرور أسباب لخفض العبد عند ربه.
الخامس: الصبر على ابتلاءات ومصائب الدنيا: فعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة" (متفق عليه واللفظ لمسلم)، فهذا من صبر كان صبره سببًا في أن يرفعه الرافع -سبحانه-، أما من ابتلي فجزع فذاك الذي يخفضه الخافض -عز وجل-، فعن أنس بن مالك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" (رواه ابن ماجه).
السادس: سد الفُرج في صفوف الصلاة؛ فعن أم المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة" (رواه ابن ماجه).
السابع: كثرة الصلاة والسجود؛ فعن ثوبان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة" (رواه مسلم)، أما من أعرض عن الله فذلك الذي له المعيشة الضنك، وهو المخفوض غير المرفوع.
الثامن: نكأ العدو وإصابته في الجهاد؛ فعن كعب بن مرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ارموا من بلغ العدو بسهم رفعه الله به درجة" (رواه النسائي)، أما من ترك الجهاد فإن أحل بنفسه غضب الله عليه وخفضه له؛ فعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (رواه أبو داود).
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: ما أكبر البركات التي تحل على العبد إذا ما وعى وعايش اسمي الله الرافع الخافض، ومن تلك البركات:
عدم طلب الرفعة إلا من الرافع -عز وجل- وحده؛ وذلك ليقين المؤمن أنه ما من رافع بحق ولا خافض بحق إلا الله -سبحانه وتعالى- الذي قال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) [فاطر: 10]؛ فمن طلب الرفعة من الله وأخذ بأسبابها رفعه الله، ومن ابتغى الرفعة من عند غيره -تعالى- أذله الله وخفضه.
ومنها: ترك التكبر والعجب والبطر: فإنها من موانع رفع الله للعبد، بل هي من مسببات خفضه، وهذا الفطن اللبيب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قد خرج إلى الشام ومعه أبو عبيدة فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه وأخذ بزمام ناقته فخاض، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أنت تفعل هذا؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال: أوه لو يقول هذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالًا لأمة محمد، إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله" (الزواجر عن اقتراف الكبائر).
ومنها: التمسك بطاعة الله والبعد عن معاصيه؛ فالطاعات والقربات أسباب لرفع الله للعبد، كما أن المعاصي والذنوب طريق إلى الخفض والذلة والصغار.
ومنها: الاهتمام بالجوهر لا بالمظهر؛ فقد يلبس أفخر الثياب من خفضه الله وهو عنده هين ذليل وضيع، وقد يرتدي الثياب المتواضعة من هو من أولياء الله الصالحين؛ فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره" (رواه الترمذي).
وعن سهل قال: مر رجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا" (رواه البخاري)، والله هو من يعلم من المرفوع ومن المخفوض!
فاللهم يا رافع يا خافض اجعلنا ممن رفعت مقامهم عنك، فارفعنا وارفع المؤمنين، واخفض اللهم العصاة والكفار والمنافقين.
وصل اللهم على محمد وعلى آل محمد.