البحث

عبارات مقترحة:

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

الخالق

كلمة (خالق) في اللغة هي اسمُ فاعلٍ من (الخَلْقِ)، وهو يَرجِع إلى...

الفتوى بغير علم وبعض أحكام المفتي والمستفتي

العربية

المؤلف سعد آل مجري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. أهمية الإفتاء في الدين وحكمه .
  2. تورع السلف عن الفتوى .
  3. خطورة الفتوى والتسرع فيها .
  4. آداب المفتي والمستفتي. .

اقتباس

فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي أَنْ يَحْمِل النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلاَ يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلاَ يَمِيل بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الاِنْحِلاَل،.. فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ..، وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ، بِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَسْهَل مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ وَيُفْتِيَ بِهِ،

الخطبة الأولى:

إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ -تَعَالَى-، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

عِبَادَ اللهِ: لاَ بُدَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَ دِينِهِمْ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ، وَلاَ يُحْسِنُ ذَلِكَ كُل أَحَدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَقُومَ بِهِ مَنْ لَدَيْهِ الْقُدْرَةُ على الْفَتْوَى، وَهي مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. وَمِمَّا يَدُل عَلَى فَرْضِيَّتِهَا قَوْل اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)[آل عمران:187]، وَقَوْل النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سُئِل عَنْ عِلْمٍ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ"(أخرجه الترمذي).

وتَتَبَيَّنُ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَفْتَى عِبَادَهُ، وَقَال: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ)[النساء:127]، وَقَال: (يَسْتَفْتُونَكَ قُل اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ)[النساء:176]؛ وكَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَتَوَلَّى هَذَا الْمَنْصِبَ فِي حَيَاتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى رِسَالَتِهِ، وَقَدْ كَلَّفَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِذَلِكَ حَيْثُ قَال: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّل إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل:44]؛ فَالْمُفْتِي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَدَاءِ وَظِيفَةِ الْبَيَانِ، وَقَدْ تَوَلَّى هَذِهِ الْخِلاَفَةَ بَعْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَصْحَابُهُ الْكِرَامُ، ثُمَّ أَهْل الْعِلْمِ بَعْدَهُمْ.

عِبَادَ اللهِ: إن الْفَتْوَى بَيَانُ لأَحْكَامِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَتَطْبِيقُهَا عَلَى أَفْعَال النَّاسِ، فَهِيَ قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى-، فالْمُفْتِيَ يَقُول لِلْمُسْتَفْتِي: حُقَّ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، أَوْ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَل، وَلِذَا شَبَّهَ الْقَرَافِيُّ الْمُفْتِيَ بِالتُّرْجُمَانِ عَنْ مُرَادِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ الْمُوَقِّعِ عَنِ الْمَلِكِ فقَال: "إِذَا كَانَ مَنْصِبُ التَّوْقِيعِ عَنِ الْمُلُوكِ بِالْمَحَل الَّذِي لاَ يُنْكَرُ فَضْلُهُ، وَلاَ يُجْهَل قَدْرُهُ، وَهُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّاتِ، فَكَيْفَ بِمَنْصِبِ التَّوْقِيعِ عَنْ رَبِّ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَنُقِل عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَال: الْعَالِمُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، فَلْيَنْظُرْ كَيْفَ يَدْخُل بَيْنَهُمْ؟

لذا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَوْلُهُ: "أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ"(أخرجه الدارمي)، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: "أَدْرَكْتُ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدَّهَا هَذَا إلَى هَذَا وَهَذَا إلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْأَوَّلِ، وَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ أَوْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ".

وَنُقِل عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَال: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، وَنُقِل عَنِ الإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ يُسْأَل عَنْ خَمْسِينَ مَسْأَلَةً فَلاَ يُجِيبُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا، وَكَانَ يَقُول: "مَنْ أَجَابَ فَيَنْبَغِي قَبْل الْجَوَابِ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ". وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَسَكَتَ، فَقِيلَ: أَلَا تُجِيبُ؟ فَقَالَ: حَتَّى أَدْرِيَ الْفَضْلُ فِي سُكُوتِي أَوْ فِي الْجَوَابِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لَيُفْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ لَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.

إِخْوَةَ الإِيمَانِ: إِنَّ الإِفْتَاءَ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَرَسُولِهِ، وَيَتَضَمَّنُ إِضْلاَل النَّاسِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النحل:116-117]، وقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف:33]، فَقَرَنَهُ بِالْفَوَاحِشِ وَالْبَغْيِ وَالشِّرْكِ، وَلِقَوْل النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(أخرجه البخاري).

مِنْ أَجْل ذَلِكَ كَثُرَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ إِذَا سُئِل أَحَدُهُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ أَنْ يَقُول لِلسَّائِل: لاَ أَدْرِي. وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقِيلَ لَهُ: أَلَا تَسْتَحْيِي مِنْ قَوْلِكَ لَا أَدْرِي وَأَنْتَ فَقِيهُ أَهْلِ الْعِرَاقِ؟ فَقَالَ: "لَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَسْتَحِي حِينَ قَالُوا: (لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)"، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "تَعَلَّمْ لَا أَدْرِي فَإِنَّكَ إنْ قُلْتَ لَا أَدْرِي عَلَّمُوكَ حَتَّى تَدْرِيَ، وَإِنْ قُلْتُ: أَدْرِي سَأَلُوكَ حَتَّى لَا تَدْرِيَ".

فإِنْ الْمُسْتَفْتِيَ إِنْ فَعَل بِنَاءً عَلَى الْفَتْوَى، أَمْرًا مُحَرَّمًا أَوْ أَدَّى الْعِبَادَةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى وَجْهٍ فَاسِدٍ، حَمَل الْمُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ إِثْمَهُ؛ لِقَوْل النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ"(أخرجه الحاكم وصححه).

فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمسلم أَنْ يَكُونَ مُتَهَيِّبًا لِلإِفْتَاءِ، لاَ يَتَجَرَّأُ عَلَيْهِ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ الْحُكْمُ جَلِيًّا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ يَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، أَمَّا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا تَعَارَضَتْ فِيهِ الأَقْوَال وَالْوُجُوهُ وَخَفِيَ حُكْمُهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَرَيَّثَ حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ وَجْهُ الْجَوَابِ، فَإِنْ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَوَقَّفَ.

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، الهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّهَا الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَاحْذَرُوا الْمَعَاصِيَ فَإِنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةُ الإِسْلاَمِيَّةُ شَرِيعَةٌ تَتَمَيَّزُ بِالْوَسَطِيَّةِ وَالْيُسْرِ، وَلِذَا فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْمُفْتِي -وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى- أَنْ يَحْمِل النَّاسَ عَلَى الْوَسَطِ الْمَعْهُودِ فِيمَا يَلِيقُ بِالْجُمْهُورِ، فَلاَ يَذْهَبُ بِهِمْ مَذْهَبَ الشِّدَّةِ، وَلاَ يَمِيل بِهِمْ إِلَى طَرَفِ الاِنْحِلاَل، وَهَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، وَمَا خَرَجَ عَنِ الْوَسَطِ مَذْمُومٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَلَيْسَ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ، بِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الأَسْهَل مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْوَجْهَيْنِ وَيُفْتِيَ بِهِ، وَقَدْ نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَابْنُ الْقَيِّمِ عَلَى فِسْقِ مَنْ يَفْعَل ذَلِكَ؛ لأَنَّ الرَّاجِحَ فِي نَظَرِ الْمُفْتِي هُوَ فِي ظَنِّهِ حُكْمُ اللَّهِ -تَعَالَى-، فَتَرْكُهُ وَالأَخْذُ بِغَيْرِهِ لِمُجَرَّدِ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ اسْتِهَانَةٌ بِالدِّينِ.

ولِلْمُفْتِي أَنْ يُحِيل الْمُسْتَفْتِيَ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُفْتِينَ، إِمَّا بِقَصْدِ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ عُهْدَةِ الْفَتْوَى، وَإِمَّا لِكَوْنِ الآْخَرِ أَعْلَمَ.

وإِذَا تَبَيَّنَ لِلْمُفْتِي أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الْفُتْيَا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنِ الْخَطَأِ إِذَا أَفْتَى فِي وَاقِعَةٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ، لِكِتَابِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "وَلاَ يَمْنَعَنَّكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَ فِيهِ الْيَوْمَ، فَرَاجَعْتَ فِيهِ رَأْيَكَ، فَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ فِيهِ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لاَ يُبْطِلُهُ شَيْءٌ، وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِل".

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ نَزَلَتْ بِهِ حَادِثَةٌ لاَ يَعْلَمُ حُكْمَها وَجَبَ عَلَيْهِ سُؤَال الْعُلَمَاءِ، لِوُجُوبِ الْعَمَل حَسَبَ حُكْمِ الشَّرْعِ، وَلأَنَّهُ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَل بغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ يَرْتَكِبُ الْحَرَامَ، أَوْ يَتْرُكُ فِي الْعِبَادَةِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ، قَال النَّوَوِيُّ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ بِبَلَدِهِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّحِيل إِلَى مَنْ يُفْتِيهِ وَإِنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، وَقَدْ رَحَل خَلاَئِقُ مِنَ السَّلَفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ اللَّيَالِيَ وَالأَيَّامَ".

ويَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي إِنْ وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةٌ أَنْ يَسْأَل مَنْ عُرِفَ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ بِالاِجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ، أَوْ رَآهُ مُنْتَصِبًا وَالنَّاسُ يَسْتَفْتُونَهُ مُعَظِّمِينَ لَهُ، قَال النَّوَوِيُّ: وَلاَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِي: اسْتِفْتَاءُ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى الْعِلْمِ، وَانْتَصَبَ لِلتَّدْرِيسِ بِمُجَرَّدِ انْتِسَابِهِ وَانْتِصَابِهِ لِذَلِكَ.

فإِنْ سَأَل الْمُسْتَفْتِي أَكْثَرَ مِنْ مُفْتٍ، فَاتَّفَقَتْ أَجْوِبَتُهُمْ، فَعَلَيْهِ الْعَمَل بِذَلِكَ إِنِ اطْمَأَنَّ إِلَى فَتْوَاهُمْ.

وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ يَأْخُذُ بِمَا شَاءَ وَيَتْرُكُ مَا شَاءَ، قَال الشَّاطِبِيُّ: "لاَ يَتَخَيَّرُ؛ لأَنَّ فِي التَّخْيِيرِ إِسْقَاطَ التَّكْلِيفِ، وَمَتَى خَيَّرْنَا الْمُقَلِّدِينَ فِي اتِّبَاعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَرْجِعٌ إِلاَّ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْهَوَى فِي الاِخْتِيَارِ، وَلأَنَّ مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الأَمْرِ".

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا الحَجَّ هَذَا العَامَ، وَاكْتُبْ لَنَا حَجَّةً لَا سُمْعَةَ فِيهَا وَلَا رِيَاءَ، وَارْزُقْنَا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الكَرِيمِ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْنَا، وَبِكَ آمَنَّا، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَبِكَ خَاصَمْنَا، وَإِلَيْكَ حَاكَمْنَا، فَاغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ إِلَهُنَا لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْ َوَلِيَّ أَمرنَا لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.