الواحد
كلمة (الواحد) في اللغة لها معنيان، أحدهما: أول العدد، والثاني:...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
هذه الأيام الفاضلة منذ أول يوم من هذا الشهر الحرام إلى يومنا هذا كانت موسمًا من مواسم الأعمال الصالحة، وزمن حرث لمن أراد الدار الآخرة، وكان التجار ولا يزالون يهتبلون المواسم لتنمية أموالهم، وزيادة أرباحهم، وتوسيع تجاراتهم، والتجارة مع الله تعالى ليست كالتجارة مع غيره؛ إذ هي تعامل مع الكريم القادر الغني الوهاب: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) [الحجر: 21]، (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)...
الحمد لله رب العالمين: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، لا إله إلا هو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالدنيا والآخرة، فجعل الدنيا محفوفة بالشهوات، وجعل الآخرة محفوفة بالمكاره، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ خيَّره الله تعالى بين ملك الدنيا والزهد فيها، فاختار الزهد على الملك، وآثر الآخرة على الدنيا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا من ذكره وتكبيره في هذا اليوم العظيم؛ فإنه خاتمة أيام التشريق التي قال الله تعالى فيها: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [البقرة: 203]، وقال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ لله -عز وجل-". رواه مسلم. فلا يحل صيامه.
وقد اجتمع في يومكم هذا فضلان: كونه من أيام التشريق، وكونه يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام، وفيه ساعة مستجابة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه، ويمتد التكبير وذبح الأضاحي إلى غروب شمس هذا اليوم المبارك، فاستثمروا ما بقي منه؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، واعملوا في يومكم ما يكون زادًا لكم في غدكم: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أيها الناس: كانت الأيام السالفة إلى هذا اليوم أيامَ أداء المناسك، والتقرب لله تعالى بأنواع العبادات، وكل عمل صالح فيها فهو خير وأحب إلى الله تعالى منه في غيرها، وشُرع فيها من الأعمال والشعائر ما لم يشرع في غيرها، وفيها العيد الكبير.
هذه الأيام الفاضلة منذ أول يوم من هذا الشهر الحرام إلى يومنا هذا كانت موسمًا من مواسم الأعمال الصالحة، وزمن حرث لمن أراد الدار الآخرة، وكان التجار ولا يزالون يهتبلون المواسم لتنمية أموالهم، وزيادة أرباحهم، وتوسيع تجاراتهم، والتجارة مع الله تعالى ليست كالتجارة مع غيره؛ إذ هي تعامل مع الكريم القادر الغني الوهاب: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) [الحجر: 21]، (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ) [النحل: 96]، (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [المنافقون: 7]، وأما التعامل مع من لا يملك ولا يقدر فإنه لا ينفع.
إن الله تعالى جعل للدنيا حرثًا وزرعًا، وجعل للآخرة حرثًا وغرسًا؛ فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا، بل تأتيه دنياه وهي راغمة.
ومن حسنة حرث الآخرة أنه حرث مضاعف مبارك، ويبقى أثره ونفعه لصاحبه؛ لأنه تعامل مع الله تعالى، بخلاف حرث الدنيا فإنه غير مبارك ولا مضاعف ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة: (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 17]، (وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى) [الضحى: 4].
إن زيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى: 20]، وفي آية أخرى: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء: 19].
ومن فوائد إرادة حرث الآخرة أن الله تعالى يوفّق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به، فكلما عمل عملاً صالحًا قاده إلى غيره، وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه: (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى: 20]، أي: نفتح له أبوابًا أخرى من الخير، وندله على أعمال صالحة ما كان يعملها، ونعينه على عملها، ولا يوفَّق لذلك إلا أصحاب الإرادة الجازمة، أما من يتمنى ولا يعمل فهو غير مريد حقيقة.
وتأملوا التعبير القرآني بالحرث؛ لأن الحارث يتعب في حرثه وزرعه وغرسه لما يرجو من غلته وثمرته، ولما كان حرث الأرض أصلاً من أصول المكاسب استعير لكل متكسب، ومنه قول ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وسمي الإنسان حارثًا لعمله وكسبه، وورد في الحديث أن أصدق الأسماء همام وحارث؛ لأنهما يعبران عن حقيقة الإنسان.
وبقدر صواب حرثه في أرضه، وزرعه في وقته، وجده في عمله، تؤتيه الأرض أكلها، وقد يجتهد ويتعب في حرثه وزرعه ولا تنتج أرضه؛ وذلك كمن زرع الزرع في غير أوانه، أو بذر البذر في غير مكانه، وهذا كمن دان بغير الإسلام، أو خالف السنة في عمله، فكم يتعب أحبار اليهود ورهبان النصارى، وسدنة المعابد الوثنية، ويوقفون حياتهم كلها على معبوداتهم، وينقطعون لها في معابدهم، ولكن ليس لهم من عبادتهم نصيب، لأنها عبودية صرفت لغير من يستحقها، وذلك كمن حرث في غير أرض الزرع، فليس له من حرثه زرع ولا ثمر مهما تعب، قال الله تعالى فيهم: (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف: 104]، وفي آية أخرى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان: 23]، فأخبر الله تعالى أن لهم سعيًا وعملاً وحرثًا وزرعًا، ولكنه لا ينفعهم، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [المجادلة: 18].
فلا ينفع عمل الآخرة إلا بتحقيق الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإيمان والإخلاص في العمل واتباع السنة، وإلا كان عملاً في غير محله، فلا ينفع صاحبه مهما اجتهد فيه، كما لا ينفع الحارث زرعه مهما اجتهد إن وضعه في غير أرضه أو زرعه في غير وقته.
وأما من أراد حرث الدنيا فإن الله تعالى لا يعطيه منها إلا ما قُدِّر له: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى: 20]، فأخبر سبحانه أنه مبخوس الحظ في الآخرة، ليس له فيها أي نصيب. وجاء هذا المعنى في قول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء: 18]، وفي آية أخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15، 16].
قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله تعالى له نصيبًا في الآخرة إلا النار، ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئًا إلا رزقًا قد فرغ منه وقسم له".
وجاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ، ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له". رواه الترمذي وابن ماجه.
ألا فاتقوا الله ربكم، واحرثوا لآخرتكم ما تجدونه بعد موتكم، وخذوا من سرعة انتهاء هذا الموسم العظيم –وهذا آخر يوم منه- عبرة لمرور الدنيا وانقضاء العمر، فإنه يذهب سريعًا كما ذهبت العشر ويوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، ولم يبق منها إلا سويعات معدودة.
نسأل الله تعالى أن يقبل منا ومن المسلمين، وأن يسلم الحجاج ويردهم إلى أهلهم سالمين غانمين الأجر والثواب، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [الحشر:18-19].
أيها الناس: من تأمل الآية القرآنية التي فيها ذكر حرث الآخرة وحرث الدنيا وجد أن حرث الآخرة رُجِّح على حرث الدنيا بأنواع من الترجيح؛ فقدم الله تعالى ذكر مريد حرث الآخرة على مريد حرث الدنيا، مع أن الدنيا قبلها في الحياة والزمن، وما ذاك إلا لشرف الآخرة وحقارة الدنيا.
وقال في مريد حرث الآخرة: (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) [الشورى: 20]، فأثبت الزيادة له على ما عمل، بينما قال في مريد حرث الدنيا: (نُؤْتِهِ مِنْهَا) [آل عمران: 145]، وكلمة (من) للتبعيض، والمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يُعطى كله، وفي طالب حرث الآخرة لما أخبر بالزيادة له سكت عن الدنيا في حقه، وفي آيات أخرى بيَّن أنه يأتيه رزقه منها ولا يحرم منها بالكلية كقوله تعالى: (كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) [الإسراء: 20]، وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى نص على أنه لا يعطيه شيئًا من نصيب الآخرة، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول: الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجدًا للتبع بقدر الحاجة.
والآية دالَّة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة، بل لا بد في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاقّ في البذر والسقي والتعاهد والحصد والتنقية، فلما سمى الله تعالى كلا القسمين حرثًا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق، ثم بيّن تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال، وأن مصير الدنيا إلى النقص والخسران.
فلنعمل -عباد الله- في حرث الآخرة حتى يكون لنا فيها نصيب، ولنحذر من إرادة حرث الدنيا فنحرم ثواب الآخرة، ولن ننال من الدنيا إلا ما قدر لنا: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) [الزلزلة: 7، 8].
وصلوا وسلموا...