العفو
كلمة (عفو) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعول) وتعني الاتصاف بصفة...
العربية
المؤلف | عبدالعزيز بن محمد النغيمشي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
أما وإن شهرَ رمضان قد هَبَّت نسائمُه، وأقبلَت سحائِبُهُ تَبْرُقُ بالبُشرى، فإن على المسلم أن يَسْتَقْبِلَه بما يَلِيِقُ به مِن نيةٍ خالِصةٍ، وإرادةٍ صادقةٍ، وعزمٍ أكيد. فإن من نوى الخير أعين عليه، ومَن صدَق في قصدِ الطاعةِ يُسِّرَت له أسبابُها، ومن عَزَمَ على المسارعةِ في الخيراتِ، صَفَّ ركابه في ميدان المتنافسين....
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أيها المسلمون: حياة المسلم كلُّها لله.. في سبيل الله يحي، وفي سبيل الله يموت، في سبيل الله يسعى، وفي سبيل الله يتقلب (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)[الأنعام:162-163]، حياةُ المسلمِ لله وقفٌ.. فلا يُصرفُ منها شيءٌ لغير الله (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)[الزمر:64].
والمسلمُ في هذه الحياةِ.. يسعى إلى ربه سعياً حثيثاً، ويسير إليه سيراً مستقيماً، وقد تعتريه غفلةٌ تُثْقِلُه، وقد تصيبُه سآمةٌ.. وقد يُبَطِّئُ به كسل، وقد تَفْتِنَه الدنيا ببعضِ فتنها.
ومن رحمةِ اللهِ بعباده، ومن إحسانه إليهم، ومن فضله عليهم، ومن كرمه بهم، أن جعل لهم مواسم خيرٍ، وأيام بِرٍّ ومضاعفةٍ وإحسان؛ لتتجددَ طاقاتُهم، ولتعلو هممهُم، وليقوى إيمانُهم، وليزدادوا من ربهم تَقَرُّباً وزُلفى.
وشهر رمضانَ شهرٌ عظيمٌ اصطفاه الله على سائر الشهور، فأنزل فيه القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)[البقرة:185]، وجعل فيه الليلةَ العظمى ليلةَ القدر (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر:1-5].
وجعله شهراً يستوعب بأكمله ركناً من أركان لإسلام (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة:185].
شهرُ رمضان هو الشهر الذي سمى اللهُ في القرآن، فلم يُسَمِ الله في القرآنِ شهراً غيره، فيه تفتح أبواب الرحمة، وفيه تغلق أبواب النار.. عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ"(متفقٌ عَلَيْهِ).
شهرٌ تُكَفَّر فيه خطايا العبادِ، وتغفر لهم فيه الذنوب، نهارُه بالصيامِ يُقضى، وليله بالصلاةِ يُقام؛ "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(متفقٌ عَلَيْهِ)، "مَنْ قام رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(متفقٌ عَلَيْهِ).
شهرٌ.. فيه يدرك العبدُ مقام التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:183]، فيه تضاعفُ الأجورُ، وتزكو النفوس، وتُهذب الأخلاقُ، وتستقيم الجوارح، عن أبي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "قَالَ اللَّهُ: كل عملِ ابْنِ آدَمَ لهُ إِلاَّ الصِّيام، فَإِنَّهُ لِي وأَنَا أَجْزِي بِهِ. والصِّيام جُنَّةٌ فَإِذا كَانَ يوْمُ صوْمِ أَحدِكُمْ فَلاَ يرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أَوْ قاتَلَهُ، فَلْيقُلْ: إِنِّي صَائمٌ. والَّذِي نَفْس محَمَّدٍ بِيدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطْيبُ عِنْد اللَّهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ. للصَّائمِ فَرْحَتَانِ يفْرحُهُما: إِذا أَفْطرَ فَرِحَ بفِطْرِهِ، وإذَا لَقي ربَّهُ فرِح بِصوْمِهِ"(متفق عليه).
شهرٌ فيه من القرباتٍ ما يجمعُ اللهُ فيه شتات الأرواحِ، ويَلُمُّ فيه شعثَ قلوبِ، ويُطهرُّ فيه خفايا النفوس؛ فالقلوبُ تُشَتِّتُها الأهواءُ، وتُمَزِّقُها الشهواتُ، وتُقَسِّيها الذنوب. وبالقرب من اللهِ تبقى القلوبُ منشرحةٌ عامرة.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "فِي الْقَلْبِ شَعَثٌ، لَا يَلُمُّهُ إِلَّا الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ. وَفِيهِ وَحْشَةٌ، لَا يُزِيلُهَا إِلَّا الْأُنْسُ بِهِ فِي خَلْوَتِهِ. وَفِيهِ حُزْنٌ لَا يُذْهِبُهُ إِلَّا السُّرُورُ بِمَعْرِفَتِهِ وَصِدْقِ مُعَامَلَتِهِ. وَفِيهِ قَلَقٌ لَا يُسَكِّنُهُ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ، وَالْفِرَارُ مِنْهُ إِلَيْهِ. وَفِيهِ نِيرَانُ حَسَرَاتٍ: لَا يُطْفِئُهَا إِلَّا الرِّضَا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَمُعَانَقَةُ الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ إِلَى وَقْتِ لِقَائِهِ. وَفِيهِ طَلَبٌ شَدِيدٌ: لَا يَقِفُ دُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَحْدَهُ مَطْلُوبَهُ. وَفِيهِ فَاقَةٌ: لَا يَسُدُّهَا إِلَّا مَحَبَّتُهُ، وَالْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَدَوَامُ ذِكْرِهِ، وَصِدْقُ الْإِخْلَاصِ لَهُ. وَلَوْ أُعْطِيَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَمْ تَسُدَّ تِلْكَ الْفَاقَةَ مِنْهُ أَبَدًا".
إن شهرَ رمضان مِنْحَةٌ من الله لعباده المؤمنين، تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهِم، وحُقَّ لعبدٍ أدرك الفَضْلَ أن يفرحْ، فما فَرحَ عبدٌ فَرَحاً.. أصدقَ من فَرحِه بفضل ورحمته عليه (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)[يونس:58].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آل عمران:132].
أيها المسلمون: أما وإن شهرَ رمضان قد هَبَّت نسائمُه، وأقبلَت سحائِبُهُ تَبْرُقُ بالبُشرى، فإن على المسلم أن يَسْتَقْبِلَه بما يَلِيِقُ به مِن نيةٍ خالِصةٍ، وإرادةٍ صادقةٍ، وعزمٍ أكيد. فإن من نوى الخير أعين عليه، ومَن صدَق في قصدِ الطاعةِ يُسِّرَت له أسبابُها، ومن عَزَمَ على المسارعةِ في الخيراتِ، صَفَّ ركابه في ميدان المتنافسين.
إنَّ على المسلم أن يستقبل شَهرَه بالتوبة الصادقة النصوح، وأن يُنَقيَ نَفْسَهُ بكثرة الاستغفار، فإن للذنوبِ عقوباتٌ.. ومن أعظم عقوباتها أنها تُعيقُ القلبَ عن السير إلى الله.
وإنَّ على المسلمِ أنْ يستقبلَ شَهرَهُ بتهيئةِ النفسِ لعمل الخير، بالتَّخَلُّصِ مِن العوائقِ والملهيات، فيبْتَعِدُ عن مجالس الغفلة، ويحذرُ مِن الانهماكِ في استخدامِ الأجهزةِ التي تسرقُ أثْمَنَ أوقاتِه، وتختلِسُ أنفسَ ساعاتِه، فإذا ما أراد المسلمُ أن يتقرب إلى ربِه بنافلةٍ من صلاةٍ أو ذكرٍ أو قراءةٍ أو غيرها. انصرف عنها بنظرةٍ خاطفةٍ على جهازٍ يُقَلِّبُه بين يديه.
وقنواتُ السوءِ التي تَبُثُّ المنكرَ، وتَنْفُثُ في الناسِ سمومهَا، فتُضاعِفُ في مواسِم الخيرِات شَرَّها، وتنشرُ مَكْرَها وضُرَّها، فلا تقف عند حدودِ شرعٍ، ولا تحفظُ لدين الله حرمة، ولا تحترم في النفوس عفةً، ولا تُراعي في الناس فضيلة. إن اقتناء هذه القنواتِ -في كلِّ الأزمان- إثْمٌ، وفي شهر الفضيلة إثمٌ وَجُرمٌ وحِرمان.
عباد الله: وإن مما ينبغي للمسلم أن يعلمَهُ أن صيامَ شهرِ رمضانَ يَجِبُ أن يكون مُقْتَرناً بالحفاظ على سائر الفرائض والواجبات، لا أن يكونَ سبباً لإضاعة الجُمعِ والجماعات، والتخلفٌ عن الفرائض والصلوات. ولئن ثبتَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"(رواه البخاري). فما الظن إذاً بمن ضيع الصلواتِ؟! وفي التنزيل قال ربُنا (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون:4-5].
اللهم أقبِل بقلوبِنا في رمضانَ، ومُنَّ علينا فيه بالرضوانِ. اللهم ارحمْنا ولا تحرِمنا، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا. اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون.
اللهم واحفظْ علينا دينَنا، وأعراضَنا، وباركْ في أرزاقِنا واقضِ ديونَنا. اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.