الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | إسماعيل القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه |
القرآن الكريم مفهوم الخطاب، مناسب للمخاطَب، خَاطَبَ المشركين بمكة بعبارات التوحيد والبعث وإقامة الحجة، وخَاطَبَ أهلَ الإيمان في المدينة بتفاصيلِ الشرائع وأحكامِ المعاملات وذِكْرِ نعيم الجنة وأهوالِ النار. وكان نزوله في ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا،...
الخطبة الأولى:
من مِنّة الله على هذه الأمة أن أرسل إليها خيرَ رسله -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليها خيرَ كتبه، وهو القرآن الكريم، فهو حبل الله المتين، مَنْ قال به صدق، ومن عمل به رَشَد، ومن اعتصم به هُدي إلى صراط مستقيم، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، هو كلام الله منزّلٌ غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، تكلّم الله به حقيقة، آياته مُحكَمة، وأخباره مُتقنة، أحكامه فصلٌ، وألفاظه جزل، يَنال به العبدُ رفعتَه في الدارين.
قال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "كان الرجل مِنّا إذا قرأ البقرةَ وآلَ عمران جَدَّ فينا -أي: عَظُم-"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ فإذا أُشير له إلى أحدهما، قَدَّمه في اللحد وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يُغسَّلوا، ولم يُصَلِّ عليهم(رواه البخاري).
وإذا نزل الروحُ الأمينُ جبريلُ -عليه السلام- بالوحي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في وصف ذلك: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيُفْصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملَك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"، قالت عائشة -رضي الله عنها- ولقد رأيته ينزل عليه، الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا"(متفق عليه).
وإذا نزل عليه الوحي "كَربَ لذلك وتربَّد وجهُه" -أي: عَلتَه غبرة وتغيّر من البياض إلى السواد-(رواه مسلم)، "وإذا نزل عليه الوحي وهو على راحلته تضرب بِجِرانها"(رواه أحمد)، والجران: باطن العنق، والبعير إذا استراح مدَّ عُنقَه على الأرض.
القرآن الكريم مفهوم الخطاب، مناسب للمخاطَب، خَاطَبَ المشركين بمكة بعبارات التوحيد والبعث وإقامة الحجة، وخَاطَبَ أهلَ الإيمان في المدينة بتفاصيلِ الشرائع وأحكامِ المعاملات وذِكْرِ نعيم الجنة وأهوالِ النار.
وكان نزوله في ليلة القدر جملةً واحدة إلى السماء الدنيا، قال -سبحانه-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[القَدر: 1].
ثم صار ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منجمًا حسب الوقائع، قال السيوطي -رحمه الله-: "قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيمُ أمره وأمرِ من نزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخرُ الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم".
وفي إنزاله مفرقًا، تثبيت قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال -سبحانه-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)[الفُرقان: 32]، فالمخاطبون أمّة أُمّية، فما كان لهذه الأمة أن تحفظ القرآن بيُسْرٍ لو نزل جملة واحدة، وأن تفهم معانيَه، وتتدبر آياتِه، لذا تسابق الصحابةُ -رضي الله عنهم- إلى جَمْعِه، وحفظه في الصدور، وتلاوتِه، وتعليمِه، والعمل به، والوقوف عند أحكامه، فقد كان عثمان وابن مسعود وغيرُهما -رضي الله عنهما- إذا تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: "فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا".
وكان نزول آياتِ القرآن الكريم، إما لحادثةٍ تَحْدث، فينزل القرآن الكريم بشأنها، مثلُ قولِه -تعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)[الشُّعَرَاء: 214]، فَصعِد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصفا، وجَمَع الناس، وخطب بهم، فقال أبو لهب تبًا لك، فأنزل الله -تعالى-: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)[المَسَد: 1].
وإما أن يُسألَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن شيء فينزلَ القرآنُ في بيان حكمه، كقصة ظِهارِ زوجِ خولةَ بنتِ ثعلبةَ -رضي الله عنها- حين شكت للنبي -صلى الله عليه وسلم- حال زوجها فأنزل الله -سبحانه وتعالى-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ)[المجَادلة: 1]، ولا يعني من هذا أن يُلتمس لكل آية سبب، بل القرآن ينزل أحيانًا ابتداء بعقائد الإيمان، وواجبات الإسلام.
واتخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كُتَّابًا للوحي من أَجِلاّء الصحابة، كعليٍّ ومعاويةَ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وزيدِ بنِ ثابت -رضي الله عنهم-، كانت الآية إذا نزلت يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بكتابتها، ويرشدُهم إلى موضع سورتها، كما كان بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يكتبون ما نزل من القرآن ابتداءً من أنفسهم دون أن يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيخطونه محفوظًا في عَسْبِ النخل، وصفائحِ الحجارة، والرِّقاعِ، والأَقْتابِ، والأكْتافِ، ولم يكن جمعه في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مصحف واحد، بل كان متفرقًا بين يدي الصحابة -رضي الله عنهم-.
وامتازت سورُ القرآن وآياتُه بأنها ذاتُ منظومةٍ متكاملةٍ في البلاغة والقوة والإحْكام، قال -سبحانه-: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)[هُود: 1]، قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: "ارتباط آي القرآنِ بعضها ببعض حتى تكون بها الكلمة الواحدة منسقة المعاني مُنتظمة المباني".
وفقنا الله لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
لما كانت غزوة اليمامة واستُشهد ستون قارئًا، هالت هذه الحادثةُ عمرَ بنَ الخطاب -رضي الله عنه- فأشار إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بجمع القرآن، لئلا يَضيْعَ بموت الحفّاظ، فأمر زيدَ بنَ ثابتٍ -رضي الله عنه- بجمعه، قال زيد -رضي الله عنه-: "فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقلَ مما أمرني به من جمع القرآن"، فجمعه من الرقاع، والأكتاف، والعُسُب، في مصحفٍ واحدٍ مرتبِ الآيات والسور، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع آيات الله".
ولما اتسعت الفتوحات في عهد عثمانَ بنِ عفانَ -رضي الله عنه- وتفرق القرَّاءُ في الأمصار، وحين غزا حذيفةُ بنُ اليمان -رضي الله عنه- غزوةَ أرمينيةَ وأذربيجان، رأى اختلافًا كثيرًا في وجوه القراءة، وبعضُ ذلك مشوبٌ باللحن، وعدمِ إدراك البعض بتلك القراءة، ففزع حذيفة -رضي الله عنه- إلى عثمان -رضي الله عنه- وأخبره بما رأى وقال: "أدْرِك الأمة قبل أن تختلف كاختلاف اليهود والنصارى"، فأجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن ينسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، ويَحْمِلوا الناسَ عليها، فنسخوها، وأرسل إلى كل أُفقٍ بمصحفٍ مما نسخوه، وأمر بما سواه في كل صحيفةٍ أو مصحف أن يُحرق. وقد عُرف المصحف بالرسم العثماني، نسبةً إلى عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
ولما كثرت الفتوحات، واختلط اللسانُ العربيُّ بغيره، دَبَّ الفسادُ اللغويُّ في نطق القرآن، يُروى أن قارئًا سمعه أبو الأسودِ الدؤليُّ يقرأ: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ)[التّوبَة: 3]، فقرأها بجر اللام، في كلمة (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) اللحن، وقال: وعزةِ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم ذهب إلى والي البصرةِ وقال له: قد أجبتُكَ إلى ما سألتَ، فأظهرَ حركاتِ الأحرف.
ثم في خلافة عبدِ الملكِ بن مروانَ -رحمه الله- كثرت التصحيفات، ففكر الولاة في النُّقَطِ والتشكيل، ثم كان الضبطُ بالحركات الحالية، التي أخرجها الخليل بنُ أحمدَ -رحمه الله-.
وحفظًا للقرآن وسبرًا لعددِ كلماته وأحْرُفِه بعث الحجاجُ بنُ يوسفَ إلى قُرَّاءِ البصرة، فجمعهم، واختار منهم الحسنَ البصريَّ وغيرَه، وقال عُدُّوا حروف القرآن، فبقوا أربعةَ أشهر يعدون بالشَّعْر، فأجمعوا أن كلماتِه سبعٌ وسبعون ألفًا وأربعُمائةٍ وتسع وثلاثون كلمة، ولا خلاف بين المسلمين بأن عددَ سُور القرآن مائةٌ وأربعَ عَشْرةَ سورة.
وبعد هذه الخلاصة في المراحل التي مرت بكتاب الله، إلى أن وصل لنا بهذه التحفة كتابةً وضبطًا، قد أفلح من زين قلبه بكتاب الله، ورطَّب لسانه، وأبهج نفسَه، وأسعد قلبَه به. قال بِشْرُ بنُ السَّريِّ -رحمه الله-: "إنما الآية مثلُ التمرة، كلما مضغتها استخرجت حلاوتها، فحدَّث بها أبو سليمان فقال: صَدَق، إنما يؤتى أحدُكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها"، وقد ختم عثمانُ بنُ عفانَ -رضي الله عنه- القرآنَ في ليلة واحدة، فاحْرِص على تلاوته والعمل به.
قال الفضيلُ بنُ عياضٍ -رحمه الله-: "حاملُ القرآن حاملُ لواء الإسلام لا ينبغي أن يلهوَ مع من يلهو، ولا يغلو مع من يغلو، ولا يسهو مع من يسهو".
وعلى قارئه الإخلاصُ وقيامُ الليل به، واجعل في يومك وليلتك وشُغْلك وفراغِك ودارِك نصيبًا من القرآن الكريم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَل البيت الذي يُذكر الله فيه، والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مَثَلُ الحيِّ والميت"(رواه مسلم).
وعلى قارئ كلام رب العالمين أن يكون متطهرًا لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يمس القرآن إلا طاهر"(رواه الإمام مالك)، وأن يستحضر معانيَ كلامِ الله عند تلاوته، قال -سبحانه-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)[ص: 29]، ويجب أن يستشعر قارؤه بأن كلام الله عظيم، فيعظمَه، قال -سبحانه-: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)[الحَشر: 21].
فرطِّب لسانَك بكلام الله في يومك وليلتك، واجعل لك وردًا تقرؤه لكي تنالَ ثوابه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فصلوا عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.