الفتاح
كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...
العربية
المؤلف | محمد بن سليمان المهوس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دِينُ الإِسْلاَمِ دِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، لاَ غُلُوَّ فِيهِ وَلاَ جَفَاءَ، وَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، شَرِيعَةٌ أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا بِأَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَأَعْرَاقِهِم. وَهَذِهِ الْوَسَطِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صِدْقِ التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَمَنْ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسْلاَمِ، وَالْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ الْهَادِي إِلَى الْحَقِّ وَالْبَيَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ آلِ عَدْنَانَ، عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وَالأَزْمَانِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دِينُ الإِسْلاَمِ دِينُ الْوَسَطِيَّةِ وَالاِعْتِدَالِ، لاَ غُلُوَّ فِيهِ وَلاَ جَفَاءَ، وَلاَ إِفْرَاطَ وَلاَ تَفْرِيطَ، شَرِيعَةٌ أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى النَّاسِ جَمِيعًا بِأَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَأَعْرَاقِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]، ثُمَّ مَيَّزَ رَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مَنْ يَحْمِلُ هَذِهِ الْوَسَطِيَّةَ بَيْنَ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ وَطَوَائِفِهِمْ، فَقَالَ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، قالَ: "فَيَنْزِلُ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لاَ، إِنَّ بَعْضَكُمْ علَى بَعْضٍ أُمَراءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الأُمَّةَ"(رواه مسلم).
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّهُ سَتَظَلُّ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَّةِ الإِسْلاَمِ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ نُصْرَةِ الْحَقِّ، وَهُمْ مُنْتَصِرُونَ غَالِبُونَ، وَسَيَظَلُّونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ طَائِفَةً بَعْدَ طَائِفَةٍ، وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لاَ يَنْقَطِعُ فِي أُمَّةِ الإِسْلاَمِ، فَهُنَاكَ مَنْ يَتَوَارَثُهُ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ، حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَهَذِهِ الْوَسَطِيَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صِدْقِ التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59]، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ"(رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني)، وَقَالَ تَعَالَى: (والسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)[التوبة: 100]، فَالرِّضَا الْمُطْلَقُ لِلسَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، وَالرِّضَا الْمَشْرُوطُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ بِمُتَابَعَةِ سُنَّتِهِمْ وَمَنْهَجِهِمْ.
وقَالَ تَعَالَى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ)[النساء: 115] فَمَشَاقَّةُ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: الْبُعْدُ عَنْ دِينِهِ وَمَنْهَجِهِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَيْ: طَرِيقَةِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ..."الْحَدِيثُ (متفق عليه).
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا فَبَعَثَهُ بِرِسَالَاتِهِ وَانْتَخَبَهُ بِعِلْمِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ بَعْدَهُ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابَهُ فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ"(أخرجه الطيالسي في مسنده، وصححه عدد من العلماء وبعضهم حسنه).
وقَالَ حُذَيْفَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَلاَ تَعَبَّدُوهَا؛ فَإِنَّ الأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلآخِرِ مَقَالاً، فَاتَّقُوا اللهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"(رواه ابن المبارك في الزهد).
وقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: "اصْبِرْ نَفْسَكَ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَاسْلُكْ سَبِيلَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَإِنَّهُ يَسَعُكَ مَا وَسِعَهُمْ".
وَيَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ: "أُصُولُ السُّنَّةِ عِنْدَنَا: التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالاِقْتِدَاءُ بِهِمْ".
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَالِمِينَ عَامِلِينَ، وَبِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُتَّبِعِينَ مُقْتَدِينَ، وَبِمَنْهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مُسْتَمْسِكِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى-، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْمَأْمَنَ الأَمِينَ وَالْحِصْنَ الْحَصِينَ مِنْ فِتَنِ هَذَا الزَّمَانِ وَمُغْرِيَاتِهِ، إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ، وَهُوَ الْمُخْرِجُ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ، وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ مِحْنَةٍ، وَالرُّقِيُّ بِكُلِّ مَجَالٍ، وَالتَّطَوُّرُ بِكُلِّ الأَحْوَالِ؛ فَلاَ رُسُوخَ لِقَدَمٍ، وَلاَ ثَبَاتَ لِمُعْتَقَدٍ، وَلاَ بَقَاءَ لِفِكْرٍ، وَلاَ تَحَقُّقَ لِوَعْدٍ، وَلاَ أَمْنَ مِنْ عِقَابٍ، إِلاَّ بِالتَّمَسُّكِ الشَّدِيدِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَمَا عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمَّةِ؛ يَقُولُ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ فِي وَصِيَّتِهِ لأَهْلِ الْبَصْرَةِ: "عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هُدَى النَّهَارِ، وَنُورُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فَاعْمَلُوا بِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَفَاقَةٍ، فَإِنْ عَرَضَ بَلاَءٌ فَقَدِّمُوا أَمْوَالَكُمْ دُونَ دِينِكُمْ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا الْبَلاَءُ فَقَدِّمُوا دِمَاءَكُمْ دُونَ دِينِكُمْ، فَإِنَّ الْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ دِينَهُ، وَإِنَّ الْمَسْلُوبَ مَنْ سُلِبَ دِينَهُ، وَإِنَّهُ لاَ فَقْرَ بَعْدَ الْجَنَّةِ، وَلاَ غِنًى بَعْدَ النَّارِ"(أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد).
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا"(رَوَاهُ مُسْلِم).