القدير
كلمة (القدير) في اللغة صيغة مبالغة من القدرة، أو من التقدير،...
العربية
المؤلف | منصور محمد الصقعوب |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
سفينة المجتمع تسير بركابها, والعواصف والأمواج من حولها, والمياه المغرقة تحيط بها, فإن ظلت السفينة متينة وركابُها متماسكين, عبرت البحر بأمان, وإن أصابها الخلل فلن يسلم من الغرق إلا مَن رحم الله! ولكنّ ثمة أناس يحاولون خرقها, ويسعون جهدهم لإتلافها, نظروا لمصلحتهم وغفلوا عن هلاكهم وهلاك غيرهم؛ وحين يترك القوم هؤلاء يغرق الجميع, إنها سفينة ..
سفينة المجتمع تسير بركابها, والعواصف والأمواج من حولها, والمياه المغرقة تحيط بها, فإن ظلت السفينة متينة وركابُها متماسكين, عبرت البحر بأمان, وإن أصابها الخلل فلن يسلم من الغرق إلا مَن رحم الله! ولكنّ ثمة أناس يحاولون خرقها, ويسعون جهدهم لإتلافها, نظروا لمصلحتهم وغفلوا عن هلاكهم وهلاك غيرهم؛ وحين يترك القوم هؤلاء يغرق الجميع, إنها سفينة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ضرب لها النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلاً معبِّراً فقال: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا" رواه البخاري.
معشر الكرام: الناس في المجتمع أبناء بيت واحد، ورُكَّاب مركب واحدٍ، الخلل من أحدهم قد يلحق الهلاك بجميعهم, فالفتنة لا تصيب الظالمين خاصة, والهلاك على الجميع يحيق حين يكثر الخبث, وهنا تأتي أهمية الاحتساب.
قال الشيخ صالح بن حميد: إذا فشا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تميزت السنة من البدعة، وعرف الحلال من الحرام، وأدرك الناس الواجب والمسنون، والمباح والمكروه، ونشأت الناشئة على المعروف، وَأَلِفَتْهُ، وابتعدت عن المنكر واشمأزت منه.
وإذا تعطلت هذه الشعيرة، ودُكَّ هذا الحصن، وحُطِّم هذا السياج، فعلى معالم الإسلام السلام، وويلٌ يومئذٍ للفضيلة من الرذيلة، وويلٌ لأهل الحق من المبطلين، وويلٌ للصالحين من سفه الجاهلين، وتطاول الفاسقين.
فالأمر بالمعروف هو القطب الأعظم في الدّين، وهو المهمّ الّذي ابتعث اللّه له النّبيّين أجمعين، ولو طوي بساطه، وأهمل علمه وعمله لتعطّلت النّبوّة، واضمحلّت الدّيانة، وعمّت الفترة، وفشت الضّلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتّسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد. اهـ.
الاحتساب مهمة يقوم بها الكرام من النساء والرجال, وهمّ تترجمه الأقوال والأفعال, له فضيلة وفي تركه وبال, ففي فضله: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:114]، وفي الحديث: "وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة"، وفي عقوبة تركه: "والّذي نفسي بيده! لتأْمُرُنَّ بالمعروف، وَلَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، أو ليوشِكَنَّ اللّهُ أن يبعث عليكم عقابا منه، ثمّ تدعونه فلا يستجاب لكم" اهـ.
وأبو بكر –رضي الله عنه- قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ -وَفِي لَفْظٍ: إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ- أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ" اهـ.
ولكن؛ ومع كل هذا الفضل وهذا الذم في الترك فأنت راءٍ في المجتمع تقاعساً عن الاحتساب, وتخاذلاً من البعض تجاه الأمر بالمعروف، فلماذا هذا الإحجام؟ ما بالنا نرى أنفسنا نقصر فيه, ولربما رأينا الواقع في المعاصي المجاهر بالذنب فلم نحرك له ساكناً بالنصح والاحتساب, ولم نأمر ولم ننهَ؟.
إن من الناس من يترك الاحتساب لظنه أنه وظيفة قوم لا تتجاوزهم, فهو مهمة رجالات الهيئة دون غيرهم, والظانُّ هذا قد غاب عنه أن الاحتساب والأمر بالمعروف ليس مهمة شخص له صفة، بل هو وظيفة الأمة كلها, وهو فرض على الكفاية, يأثم الجميع حين يترك, ويسقط الإثم حين يوجد من يقوم به.
فاقرأ في القرآن في صفة أهل الإيمان: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) [التوبة:71]، ثم في صفة أهل النفاق: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) [التوبة:67]، بل ولا تتحقق الخيرية في الأمة حتى تقوم بالأمر: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَن الــمُنْكَرِ) [آل عمران:110].
عباد الله: ومن الناس من يدع الأمر بالمعروف لأنه يرى في نفسه تقصيراً، فكيف يأمر ولربما كان واقعاً فيما يُنكر؟ ولو أجرينا هذا الفهم لما وعظ إلا الكُمَّلُ من الناس, وأين هم؟ وقد قرر العلماء الأفاضل أن التقصير ليس بعذر أن يقعد بالمرء عن مهمته, ولو شرب الخمر اثنان كان على أحدهما أن ينكر على الآخر.
ومن الناس من يتركه خوفاً على رزقه أو نفسه, والمؤمن لا ينبغي أن يخاف في ربه لوم لائم, قال العمري: إِنَّ مِنْ غَفْلَتِكَ عَنْ نَفْسِكَ، وَإِعْرَاضِكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ تَرَى مَا يُسْخِطُ اللَّهَ فَتَتَجَاوَزَهُ، وَلَا تَأْمُرُ فِيهِ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ، خَوْفًا مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا. وَقَالَ: مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، مَخَافَةً مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، نُزِعَتْ مِنْهُ الطَّاعَةُ، وَلَوْ أَمَرَ وَلَدَهُ أَوْ بَعْضَ مَوَالِيهِ لَاسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ.
كل هذه أعذار, ولكن البلية حين يظن البعض أن تركه الناس على حالهم يعصون ربهم وهو لا يأمرهم بمعروف ولا ينهى عن منكر أن هذا هو العقل والحكمة, وأن هذا من حسن الإسلام, وهذا لعمري منكر من الفهم, وخلل في التفكير, فمتى كان الأمر بالمعروف تطفلاً؟ ومتى كان الاحتساب والدعوة فضولاً؟ ومتى كان التواصي بالخير وترك المنكر تعدياً على الحريات؟ فما أبعد هذا الفهم!.
وفي ذلك يقول ابن النحاس: وألقى الشيطان في قلوب الناس أنه لا يطالَب أحدٌ بغير عمله يوم الدين, وصار إنكار المنكر زلة عند العامة لا تقال, ومزلة لا يثبت عليها إلا أرجل الرجال, فمَن أنكر قيل: ما أكثر فضوله! ومَن داهن قيل: ما أحسن عشرته المعقولة! فعمت الخطوب العظائم, إذ لم يبق من لا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال الأمام أحمد: صار المؤمن بين الناس معزولاً، لأن المنافق يصمت عن المنكر وأهله فيصفه الناس بالكياسة، والبعد عن الفضول، ويسمون المؤمن فضولياً!.
معشر الكرام: والمؤمن يدفعه للأمر بالمعروف طلبه الأجر من ربه, فهو دعوة إلى الخير, ومن دعا إلى هدى كان له مثل أُجُور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً؛ يدفعه خوف العقوبة والعذاب بترك الإنكار والأمر, وماله لا يخاف وهو يقرأ في التنزيل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
قال الزمخشري:لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان سبب المسخ إِلّا لأجْل المعصية والاعتداء، لا لشيء آخر، ثم فسَّر هذه المعصية والاعتداء بقوله: (كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ): لا ينهي بعضهم بعضاً، ثم قال: فيا حسرةً على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلة عبئهم به! وكأنه ليس من مِلَّة الإِسلام في شيء، مع ما يتلون من كلام الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب. اهـ.
ومالنا لا نخاف ونحن نقرأ في القرآن: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25]، قال الكلبي: أي لا تصيب الظالمين، بل تصيب معهم مَن لم يغير المنكر، ولم ينهَ عن الظلم وإن كان لم يظلم.
يدفع المرء -أيها الكرام- للأمر بالمعروف ودفع المنكرات إجلاله لربه، وتعظيمه له أن يُعصَى في الأرض, فالمؤمن الحق لا يرضى أن يُعصى الله، ثم هو ينظر للعاصي ولا يحرك ساكناً, وفي مثل هذا يقول ابن القيم: وأيُّ دِينٍ وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تُضيَّع، ودينه يُتْرك، وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُرغب عنها، وهو بارد القلب! ساكت اللسان! شيطانٌ أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بَليَّة الدِّين إلا مِن هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة لما جرى على الدين, وخيارُهم المتحزِّن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بَذَلَ وتَبَذَّل، وجَدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. اهـ.
يدفعنا للاحتساب النصح للعاصي، والرحمة به, وحماية للأمة من الهلكة والعذاب, وتلك حال الموفقين المبادرين للأمر بالمعروف, فهم يريدون للناس الخير وإن ظُن بهم غير ذلك, ويقودون الناس للجنة وإن تنكرت لهم القلوب.
عباد الله: وفي زمن فتحت أبواب الشهوات، وتنوعت طرائق الشبهات؛ ما أحوج الناس إلى الهمة في الاحتساب! وكم تَشِيع الشرور بسكوت القادر، وإحجام العارف، وتخاذل المطيع! وكم من منكر يزول حين يشيع الاحتساب! فهل من عودة إلى ذلك الأمر؟.
وإلى أن يحمل الجميع -رجالهم ونساؤهم, صالحوهم والمقصرون منهم- ذلك الدور، ويرفعوا تلك الراية, ليدرأ الله عن المجتمع شروراً تحلّ حين يموت الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فالهلاك يحلّ حين يكثر الخبث, والخبث يكثر حين يُرى فلا يُغيَّر, وفي الصحيح: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث".
الخطبة الثانية:
يتبادر إلى ذهن الكثير حين يذكر الأمر بالمعروف أنه دعوة العصاة في الأسواق والطرقات والمتنزهات, والحقيقة أن ذلك قصر لمفهوم الاحتساب, بل هو أوسع من ذلك بكثير, فهو الدعوة للخير عبر كل مجال، وفي سائر الأماكن والمحالّ.
ونظرة إلى كتب المتقدمين تبين لك المفهوم الشامل للاحتساب الذي غاب عن كثيرٍ منا, وخذ على ذلك المثال: ففي كتاب "نهاية الرتبة الظريفة في طلب الحسبة الشريفة" للإمام الشيزري الشافعي (المتوفى: نحو590هـ) ذكر فيه الاحتساب على الخبازين والجزارين والشوَّائين والطباخين والصيادلة والبزازين والعطارين والخياطين والصاغة والصرافين وعلى مؤدبي الصبيان وغير ذلك, وعقد لكل مهنة من هذه كيف يحتسب عليهم، وبماذا يؤمرون, كل هذا لتعلم أن الحسبة أوسع من الأمر بالصلاة، والنهي عن التبرج والفواحش؛ بل إن ابن القيم قال: وَجَمِيعُ الْوِلَايَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَقْصُودُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.
أنت يا رجل الأمن محتسب تجاه كل معصية تقع في نطاق عملك, ورجال الأمانة والقضاء والتعليم ومكافحة الفساد المالي والإداري، وغيرهم، كُلٌّ محتسب في مجالٍ، فليرع ذلك، وليأت به على وجهه؛ وبهذه النظرة الواسعة للاحتساب تعلم أنه واجب على الجميع.
أيها الكرام: فلئن آن للحديث أن ينتهي, فإن الموضوع لم ينتهِ بعد, فالحديث عن طرائق الاحتساب وهدي المحتسب, وعن هيئات الأمر بالمعروف وحقها, وكشف زيف الشانئين لها, حديث نتناوله في الخطبة القادمة بإذن الله.
اللهم اجعلنا ممن وفقتهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.