الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | هشام عبد القادر آل عقدة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
وهكذا اقترفت تلك الفعلة الشنعاء الآثمة بيد الذين كتب عليهم الشقاوة، وهم كما قال ابن العربي: ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر، فقتلوا هذه النفس الزكية ظلمًا وعدوانًا، في الشهر الحرام، والبلد الحرام، لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت أول فتنة، وأول فتح للشر والشقاق بين المسلمين. عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: سبق أن تحدثنا عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، ومر علينا من سيرتهما العطرة ما تأثرت له النفوس، وانفعلت به القلوب، وامتلأت محبة وشوقًا لهما؛ حتى إن المرء لا يظن أن أحدًا يبغض مثل أبي بكر وعمر، ولكن العجب أنهما لم يخلصا من أعداء يبغضونهما، وهم أعداء يدعون الإسلام، ولا يزال فيمن ينتسبون اليوم إلى الإسلام من يبغض أبا بكر وعمر، في إيران وفي العراق والكويت وفي المنطقة الشرقية في الجزيرة العربية وفي سوريا وفي لبنان وفي غيرها، إنهم الشيعة الرافضة الذين يمثل أبو بكر وعمر عندهما الجبت والطاغوت، أو كما يسمونهما أيضًا صنمي قريش: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا) [الكهف: 5].
وكما لم يسلم أبو بكر وعمر من الطعن عليهما، كذلك لم يسلم عثمان بن عفان -رضي الله عنه- شهيد الدار، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي مات من سيف ابن ملجم الخارجي، حيث كفره الخوارج المتنطعون، وأما الأول فقد اتهم بأنه أخذ مكانًا ليس له، وما كان ينبغي أن يكون خليفة، ولقد كان عثمان -رضي الله عنه- لا يرغب في الدنيا ومناصبها، ولولا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليه أن لا يترك مكان الخلافة إن ولاه الله أمر الأمة لكان أيسر وأحب إلى عثمان أن يتركها، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عثمان: إنه لعل الله أن يقمِّصك قميصًا -يعني بذلك الخلافة- فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم". وفي رواية: "يا عثمان: إن ولاك الله هذا الأمر يومًا فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه". يقول ذلك ثلاث مرات.
وعن مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر الفتن فقربها، فمر رجل مقنع في ثوب فقال: "هذا يومئذ على الهدى"، فقمت إليه فإذا هو عثمان بن عفان. قال: فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟! قال: "نعم". ومن ثم فإن الحديث عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أصبح مرتبطًا بالعقيدة، وترى العلماء يذكرون أمر حب هؤلاء الخلفاء في العقيدة، ويذكرون مسألة سب الصحابة في العقيدة، فمما تتميز به عقيدة أهل السنة والجماعة عن عقيدة الشيعة عن عقيدة الخوارج موقف كل منهم من هؤلاء الصحابة؛ إذ الشيعة الرافضة يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان، ويبالغون في علي ويقدسونه، والخوارج يكفرون عليًّا -رضي الله عنه-.
أما أهل السنة والجماعة أصحاب العقيدة الصحيحة الذين لم يبدلوا ولم يحرفوا، فإنهم يحبون جميع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويترضون عليهم، دون إفراط ولا تفريط.
وفي الحديث عن هؤلاء الخلفاء الراشدين فائدة أخرى ودرس آخر، فإن أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان ينبغي أن لا يختلف اثنان في فضلهم ومكانتهم ووجوب محبتهم، ومع ذلك وجد من يطعن فيهم باسم الإسلام، ويشنع عليهم باسم الدين، وفي ذلك عبرة أي عبرة، وتسلية أي تسلية للدعاة إلى الله من بعدهم.
فإن كان هؤلاء الخلفاء الراشدون لم يسلموا من ألسنة من يدّعون الإسلام، فإن مَنْ دونهم أحرى أن لا يسلم من عدو يطعن عليه باسم الإسلام (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46]، وما أكثر أصحاب الأهواء ممن لديهم الجرأة على تشويه الحق مهما كان جليًّا واضحًا، وسب أهل العلم والفضل مهما كان فضلهم بيِّنًا ظاهرًا، وكيف لا يحدث ذلك وقد حدث لأفضل خلق الله من الأنبياء والمرسلين: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا) [الأنعام: 34].
وإذا كنا قد ذكرنا فيمن سبق طرفًا من سيرة أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلا بأس أن نتحدث اليوم بشيء عن أصدق الأمة حياءً، الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- صاحب الفضائل العظيمة، والمقام الرفيع.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مضطجعًا في بيته كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه -وهذا الشك من الراوي- فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسوَّى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك!! فقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة".
وفي رواية أنه قال: "إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته"، أي أخاف أن يرجع حياءً مني عندما يراني على تلك الهيئة ولا يعرض عليّ حاجته.
وقد بشره -صلى الله عليه وسلم- بالجنة مرات كثيرة، كما بشره بالشهادة في سبيل الله؛ فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فضربه برجله فقال: "اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان".
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "افتح له وبشره بالجنة"، ففتحت له فإذا هو أبو بكر، فبشرته بما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "افتح له وبشره بالجنة"، ففتحت له فإذا عمر، فأخبرته بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: "افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه"، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حفر بئر معونة فله الجنة"، فحفرها عثمان، وقال: "من جهز جيش العسرة -وهو الخارج إلى تبوك- فله الجنة"، فجهزه عثمان -رضي الله عنه-، فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ومن السابقين الأولين، وأول من هاجر من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فكان أول المهاجرين إلى الحبشة، وهو ذو النورين؛ إذ إنه تزوج رقية بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة، وماتت عنده في ليالي غزوة بدر، فتأخر عن بدر لتمريضها بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وضرب له بسهمه وأجره، فهو معدود في البدريين بذلك، وجاء البشير بنصر المسلمين ببدر يوم دفنوها بالمدينة، فزوجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدها أختها أم كلثوم، وتوفيت عنده سنة تسع من الهجرة، وكان هذا من بعض أنواع البلاء الذي ابتلى الله بها نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فقد مات أكثر أولاده في حياته، منهم من مات في طفولته، ومنهم من مات عروسًا في سن الشباب، وحتى فاطمة التي ماتت بعده كان قد علم -صلى الله عليه وسلم- من ربه أنها تلحقه عن قريب، ومع ذلك كان -صلى الله عليه وسلم- لا يُرَى إلا هادئًا طليق الوجه مطمئنًّا سمحًا سهلاً، لا كما يصنعه بعض المسلمين اليوم إن أصيب ببلاء، فيسير ضاقت نفسه، وساء خلقه، وتحجج أنه معقد لما أصابه في دنياه، وأنه رأى الكثير، وغير ذلك مما نسمعه كثيرًا.
رحم الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما كان رحمة للعالمين: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
ونعود فنقول: إن عثمان بن عفان هو ذو النورين؛ لأنه تزوج ابنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واحدة تلو الأخرى؛ قال الحسن: إنما سُمِّي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحدًا أغلق بابه على ابنتي نبي غيره.
ولي الخلافة بعد عمر بثلاث ليال، وكان عبد الرحمن بن عوف يشاور الناس فيها، فما من أحد شاوره إلا اختار عثمان -رضي الله عنه-، وقام عثمان بالأمر جادًّا ناصحًا مخلصًا، وازداد المسلمون في عهده قوة وتمكنًا، ففتح في عهده من الروم حصونًا كثيرة، وغزا عبد الله بن أبي السرح في عهده إفريقيا، فافتتحها سهلاً وجبلاً، وفتحت مرو ونيسابور وبلاد كثيرة من أرض خراسان، وامتدت الفتوحات إلى جزيرة قبرص، وقد كان معاوية يلحّ على عمر بن الخطاب في غزو قبرص وركوب البحر لها، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص والي مصر أن: صف لي البحر وراكبه، فكتب إليه: إني رأيت خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك راع العقول، تزداد فيه العقول قلةً، والسيئات كثرةً، وهم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا فرق. فلما قرأ عمر الكتاب كتب إلى معاوية: والله لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا. فلما كان عهد عثمان -رضي الله عنه- أذن عثمان، فغزا معاوية قبرص، وصار أهلها يدفعون الجزية للمسلمين.
وكان عثمان -رضي الله عنه- إلى جانب الفتوحات الكثيرة قوّامًا بالليل، متواضعًا رقيقًا؛ عن عبد الله الرومي قال: كان عثمان يلي وضوء الليل بنفسه، فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.
واستمرت الأمور تجري على خير وجه، حتى كانت فتنة عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث الذي ادعى الإسلام كذبًا، ثم لم يلبث أن حرَّك الفتن، فقام بالدعوة لعلي بن أبي طالب زاعمًا أنه وصي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أظلم ممن لم يجز وصيته، فتبع مذهبه كثير من أهل الأهواء وأصحاب الأغراض وضعاف العقول، الذين لهم قلوب لا يفقهون بها، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فإن عثمان أخذه بغير حق، وأخذ يشكك في كثير من تصرفات عثمان، ويثير حوله التهم الباطلة، وكتب إلى أهل بعض البلاد يحمسهم لرأيه، فتبعه واغتر بكلامه كثير من أهل مصر وغيرها، حتى أتى أهل مصر عليًّا -رضي الله عنه- فسلَّموا عليه، وعرضوا عليه أمرهم أن يعينوه على أخذ الخلافة من عثمان، فصاح بهم وطردهم -رضي الله عنه وأرضاه- وقال: لقد علم الصالحون أنكم ملعونون على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم-، أي لأنهم يريدون التفرقة بين المسلمين وإثارة الفتن بينهم، ولكن هؤلاء الضلال ظلوا على انحرافهم، وأخذوا يتوافدون على المدينة، ويجتمعون من بلدان شتى، استعدادًا لمحاصرة عثمان -رضي الله عنه- وقتله إن لم يترك الخلافة، في مأساة رهيبة، كان عثمان -رضي الله عنه- فيها شهيدًا مظلومًا، ولقي الله ثابتًا صابرًا، رحمة الله عليه ورضوانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلما عزم أهل الضلال على قتل عثمان إن لم يستجب لهم في ترك الخلافة تستروا بموسم الحج، وقدموا إلى المدينة في اثنتي عشرة فرقة: أربع فرق من مصر، وأربع من البصرة، وأربع من الكوفة، وفي كل فرقة نحو مائة وخمسين مفتونًا، أي من كل بلد نحو ستمائة رجل، وخرجوا من بلادهم كما يخرج الحجيج ونيتهم البقاء في المدينة لقتل عثمان، بينما يكون الناس في طاعة الله في مكة المكرمة، وبالفعل تجمعوا في المدينة، ثم حاصروا دار عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولم يكن أحد من الصحابة قد ناصرهم في ذلك، بل لم يقعد الصحابة عن نصرة عثمان -رضي الله عنه-، بل قد اجتمعوا على الفور وأرسلوا شبابهم ليكونوا فداءً له، ولكنه -رضي الله عنه- نهى الصحابة عن مناصرته، ونهاهم عن قتال هؤلاء الضُلاَّل، ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفًا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه -رحمه الله وأعلى مقامه في دار الخلود- ألقى بيده إلى المصيبة لمصلحة الإسلام، فإنه اختار بذلك أهون الشرَّين، فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين، وعثمان افتدى دماء أمته بدمه مختارًا، فما أحسن الكثيرون منا جزاءه.
ورحم الله كعب بن مالك إذ يقول:
فكفّ يديه ثم أغلق بـابـه | وأيقـن أن الله ليـس بغافلِ |
وقال لأهل الدار لا تقتلوهمُ | عفا الله عن كل امرئ لم يقاتلِ |
قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه. ثم قال: قم -ا ابن عمر-فأخبر به الناس.
وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال عثمان: لا حاجة لي في ذلك، كفوا. ودخل عليه الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان -رضي الله عنهم- بأسلحتهم، فأمرهم أن يخرجوا، ويضعوا أسلحتهم، ويلزموا بيوتهم.
وقال سَليط بن أبي سليط: نهانا عثمان عن قتالهم. وكان يقول وهو في ذلك البلاء: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عهد إليّ عهدًا وأنا صابر عليه. وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أمره ألا يترك الخلافة إن أراد المنافقون ذلك منه، وأن يستمسك بها، فعزم عثمان على ذلك حتى يلقى الله محافظًا على وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومنع الثوار الماء عن عثمان -رضي الله عنه-، وكان شيخًا كبيرًا ومعه امرأته نائلة -رضي الله عنها- في داخل الدار، فأشرف عثمان على الناس فقال: أفيكم علي؟! فقالوا: لا، قال: أفيكم سعد؟! قالوا: لا، فسكت ثم قال: ألا أحد يبلغ عليًّا فيسقينا ماءً؟! فبلغ ذلك عليًّا، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماءً، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل الماء إليه، وأمر علي ابنيه الحسن والحسين أن يقفا بسيفيهما على باب عثمان حتى لا يدعا أحدًا يصل إليه، وأتى عليّ إلى أولئك الثوار يحذرهم ويذكّرهم وينكر عليهم قسوة قلوبهم، فقال لهم: يا أيها الناس: إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عنه الماء، فإن الروم والفرس لتأسر فتطعم وتسقي. فقالوا: لا والله، وأصروا على قسوتهم وضلالهم.
وكان البديل عن القتال عند عثمان -رضي الله عنه- أن يخاطبهم ويراسلهم ويحاورهم، مرة يرسل إليهم عليًّا، ومرة يتطاول إليهم ليكلمهم. أشرف عليهم فقال: أنشدكم بالله، ولا أنشد إلا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جهَّز جيش العسرة فله الجنة"، فجهزتهم؟! ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر بئر رومة فله الجنة"، فحفرتها؟! فمهلاً لا تقتلوني، فإنه لا يحل إلا قتل ثلاث: رجل زنى بعد إحصان، أو كفر بعد إيمان، أو قتل نفسًا بغير حق. فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم، ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبدًا.
فقال الثوار: إن الذين قاموا دونك ومنعوك إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك. فلم يجبهم عثمان، وقال لابن عمر: انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. فقال له ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟! قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟! قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟! قال : لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك فتكون سُنَّة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه.
ثم كتب عثمان -رضي الله عنه- كتابًا أعطاه لابن عباس، وأمر أن يخرج إلى الحج ويقرأه على الناس، فكان فيما كتب: بسم الله الرحمن الرحيم.. من عبد الله عثمان بن عفان أمير المؤمنين. سلام عليكم. فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني أذكركم بالله -عز وجل- الذي أنعم علينا وعليكم بالإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، وأراكم البينات، وأوسع عليكم من الرزق، ونصركم على العدو، وأسبغ عليكم نعمه، فإن الله -عز وجل- يقول وقوله الحق: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [ابراهيم: 34]، وقال -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 102 ـ 105]، وقال -عز وجل- وقوله الحق: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [المائدة: 7]، وقال وقوله الحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات: 6 ـ 8].
وقال -وقوله الحق-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]، وقال -وقوله الحق-: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح: 10].
أما بعد: فإن الله -عز وجل- رضي لكم السمع والطاعة والجماعة، وحذركم من المعصية والفرقة والاختلاف، ونبأكم ما قد فعله الذين من قبلكم، وتقدم إليكم فيه ليكون له الحجة عليكم إن عصيتموه، فاقبلوا نصيحة الله -عز وجل- واحذروا عذابه؛ فإنكم لن تجدوا أمة هلكت إلا من بعد أن تختلف، إلا أن يكون لها رأس يجمعها، ومتى ما تفعلوا ذلك لا تقيموا الصلاة جميعًا، وسلط عليكم عدوكم، ويستحل بعضكم حرم بعض، ومتى يفعل ذلك لا يقم لله -سبحانه وتعالى- دين، وتكونوا شيعًا، وقد قال الله -عز وجل- لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام:159]، وإني أوصيكم بما أوصاكم الله، وأحذركم عذابه، فإن شعيبًا -صلى الله عليه وسلم- قال لقومه: (وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود: 89، 90].
ومن يكن منكم إنما يبتغي الدنيا فليس بنائل منها إلا ما كتب الله -عز وجل- له، ومن يكن إنما يريد وجه الله، والدار الآخرة، وصلاح الأمة، وابتغاء مرضاة الله -عز وجل-، والسنة الحسنة، التي استنّ بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخليفتان من بعده -رضي الله عنهما-، فإنما يجزي بذلكم الله وليس بيدي جزاؤكم، ولو أعطيتكم الدنيا كلها لم يكن في ذلك ثمن لدينكم، ولم يغنِ عنكم شيئًا، فاتقوا الله واحتسبوا ما عنده، فمن يرضى بالنكث منكم فإني لا أرضاه له، ولا يرضى الله -سبحانه وتعالى- أن تنكثوا عهده، فإن الله سبحانه قال -وقوله الحق-: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئولاً) [الإسراء: 34]، فإن هذه معذرة إلى ربكم ولعلكم تذكرون.
أما بعد: فإني لا أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي غفور رحيم، وإن عاقبت أقوامًا فما ابتغيت بذلك إلا الخير، وإني أتوب إلى الله -عز وجل- من كل ما عملته، وأستغفره، إنه لا يغفر الذنوب إلا هو، إن رحمة ربي وسعت كل شيء، إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الضالون، وإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون.
وأنا أسأل الله -عز وجل- أن يغفر لي ولكم، وأن يؤلف قلوب هذه الأمة على الخير، ويكرّه إليها الفسق.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها المؤمنون والمسلمون. اهـ.
أما الثوار فمنعوا الناس عن مخالطة عثمان ومكالمته، ورموا باب عثمان بالسهام، وكان الحسن بن علي على الباب كما أوصاه أبوه، فأصيب وتخضب وجهه بالدم، فخاف الثوار أن لا يصبر الصحابة إن طار الخبر أن الحسن بن علي قد تخضب وجهه بالدم، وخافوا إن طال الأمر قبل أن يقتلوا عثمان أن ينهض المسلمون لقتالهم، ويتحللوا من نهي عثمان لهم عن ذلك، فقالوا: اذهبوا بنا حتى نتسور عليه الدار فنقتله من غير أن يعلم به أحد.
وقد كان عثمان -رضي الله عنه- قبل مقتله بيوم صائمًا، فلما كان عند إفطاره سألهم الماء العذب فلم يعطوه، فنام ولم يفطر، فلما كان وقت السحر أتت بعض جارات لزوجه نائلة على سطوح متصلة، فسألتهم الماء العذب، فأعطوها كوزًا من ماء، فذهبت إلى عثمان -رضي الله عنه- فحركته فاستيقظ، فقالت: هذا ماء عذب، فرفع رأسه فنظر إلى الفجر فقال: إني قد أصبحت صائمًا، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اطلع عليَّ من هذا السقف ومعه ماء عذب، فقال: اشرب يا عثمان، فشربت حتى رويت، ثم قال: ازدد، فشربت حتى نهلت، ثم قال: إن القوم سينكرون عليك، فإن قاتلتهم ظفرت، وإن تركتهم أفطرت عندنا.
وفي رواية أنه قال: إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا لي: اصبر فإنك تفطر عندنا القابلة، ثم دعا بالمصحف فنشره بين يديه وأخذ يقرأ فيه.
فمن قائل: إن عثمان فتح باب الدار فدخلوا عليه، ومِن قائل: إن بعض الثوار أشعل النار ليحرق باب الدار، وعثمان لا يشغله ذلك عن التلاوة، ومن قائل: إن بعض الثوار تسوَّر دار بني حزم المجاورة لدار عثمان، فخلوا به هو وزوجته نائلة -رضي الله عنهما-، فقال قائل له: اخلعها ونَدَعك. أي اسحب نفسك من الخلافة ونتركك. فقال عثمان -رضي الله عنه-: لست خالعًا قميصًا كسانيه الله، حتى يكرم الله أهل السعادة، ويهين أهل الشقاوة. فاخترط أحدهم سيفه -وهو رجل من أهل مصر اسمه بشر بن كنانة التجيبي أحد الضلال المفتونين- ليضعه في بطن أمير المؤمنين، فوقته زوجته نائلة فقطع يدها، فصرخت -رضي الله عنها- فلم يسمع صوتها من كثرة الضجيج وجلبة الناس، وأخذ أحدهم بلحية عثمان -وقد كان رضي الله عنه شيخًا كبيرًا بلغ من العمر اثنين وثمانين سنة- وذبحه بشر بن كنانة، واتكأ بالسيف عليه في صدره، وصدعت امرأته إلى الناس فقالت: إن أمير المؤمنين قد قتل، فدخل الناس فوجدوه مذبوحًا.
وهكذا اقترفت تلك الفعلة الشنعاء الآثمة بيد الذين كتب عليهم الشقاوة، وهم كما قال ابن العربي: ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر، فقتلوا هذه النفس الزكية ظلمًا وعدوانًا، في الشهر الحرام، والبلد الحرام، لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت أول فتنة، وأول فتح للشر والشقاق بين المسلمين. عن حذيفة قال: أول الفتن قتل عثمان، وآخر الفتن خروج الدجال.
وصلى عليه الزبير ودفنه، وكان عثمان قد أوصى بذلك إليه.. رحمة الله على عثمان، الرجل السخي الحيي، الذي تستحي منه الملائكة، الشهيد الذي اختار موته أمام عينه على موت غيره من المسلمين.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، واصرف عنا الشر والشقاق والنفاق والرياء وسوء الأخلاق، واكفنا شر كل منافق وكل مشاق، وكل مفتاح فرقة وفتنة بين المسلمين، وأرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وتوفنا على ملة خاتم الأنبياء والمرسلين، ونهج خلفائه المهديين الراشدين، واجمعنا به في جناتك جنات النعيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.