البر
البِرُّ في اللغة معناه الإحسان، و(البَرُّ) صفةٌ منه، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
ولذا جاءت الشريعة داعية إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومحبته في الله تعالى ، ومولاته ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، والبراءة من كل مذهب أو دين سوى دينه.
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله...
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: من حكمة الله تعالى في عباده أن ابتلى بعضهم ببعض ، وجعل بعضهم لبعض فتنة ؛ لينظر كيف يعملون ، ويحاسبهم بما عملوا (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ) [الفرقان: من الآية20] ولما زاغ أهل الكفر والنفاق عن الصراط المستقيم ، وكذبوا المرسلين ؛ أخبر الله تعالى أن ذلك كان بسبب فتنتهم ، واغترارهم بالصورة الظاهرة للرسل وأتباعهم ، وكونهم من ضعفة الناس وليسوا من أشرافهم (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ) [الأنعام: من الآية53].
وهكذا أهل الكفر والاستكبار لا ينظرون إلى الحق بصفائه ونقائه ، وإنما ينظرون إلى حال أتباعه من الضعف والاستكانة، ويجعلون ذلك سببا لرده وعدم قبوله. إنهم يحاكمون الحق بمقاييسهم الفاسدة من الثراء والجاه والقوة ، ويظنون أن الله عز وجل يصطفي رسلا وأتباعا لهم بموجب هذا القانون الفاسد (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ) [الاحقاف: من الآية11] وقال المشركون في النبي صلى الله عليه وسلم (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) [صّ: من الآية8] (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31] وأخبر الله سبحانه عنهم (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة: من الآية212] ولو شاء الرب جل جلاله لسخر البشر كلهم لعبادته كما كان الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء:19-20] وكما كانوا أيضا (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: من الآية6] ولو شاء سبحانه لجعل الدنيا مع رسله وأتباعهم ، ولكنه أراد ابتلاء الرسل بالعباد ، وابتلاء العباد بالرسل ؛ كما قال الله تعالى في الحديث القدسي مخاطبا خاتم رسله عليه الصلاة والسلام "إنما بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وأبتلى بِكَ" رواه مسلم.
إذا كانت تلك سنة الله تعالى في عباده ؛ فلا بد أن يكون الناس على فريقين : عباد لله تعالى ، يدينون بما أنزل من الحق، ويؤمنون بالكتاب ، ويتبعون الرسول ، ويلقون الله تعالى على ذلك, والفريق الآخر: عبيد لأهوائهم وشياطينهم ، لا يؤمنون بالكتاب ، ولا يتبعون الرسول ، ولا يدينون دين الحق. ولا بد أن يقع الصدام بين الفريقين ، ولا التقاء بينهما بحال من الأحوال ؛ إذ لا يمكن المواءمة بين الإيمان والكفر ، ويستحيل الجمع بين الحق والباطل ، ولا مؤاخاة بين أتباع الرسل عليهم السلام وبين أعدائهم ؛ بل هي عداوة ثابتة إلى يوم الدين ، ومن خرج عن هذا الحكم الشرعي المقتضي للسنة الربانيه ، والحكمة الإلهية ، فإنما يضر نفسه ، وينسلخ من دينه ، ولن يغير من الحقيقة شيئا (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة:98] ولذا جاءت الشريعة داعية إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومحبته في الله تعالى ، ومولاته ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، والبراءة من كل مذهب أو دين سوى دينه.
إن من أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نوالي أولياءه ، ونعادي أعداءه ، فمن والاه فهو ولينا ، ومن عاداه فهو عدونا (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:55-56] وموالاة المؤمنين قد أبدى فيها القرآن وأعاد ، وأكد وجوبها في آيات كثيرات (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال: من الآية72] (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال: من الآية75] (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: من الآية71] وإذا كان ذلك حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يواليه فكيف بحق أفضل المؤمنين ، وخاتم الأنبياء والمرسلين، عليه الصلاة والسلام؟! فمحبته ونصرته ، وتوليه والولاء فيه فرض على كل مؤمن ومؤمنة.
ومن لوازم هذه المحبة والتولي للنبي صلى الله عليه وسلم معاداة من استكبر عن طاعته ، ولم يؤمن بما جاء به ، فهو عدو له ولمن آمن به ، لكنه قد يكون عدو سلم كمن كف أذاه عن المسلمين ، ولم يعن عليهم ، وقد يكون حربا عليهم.
وكلا الفريقين أعداء للمسلمين ؛ لأنهم أعداء لله تعالى ولرسله عليهم السلام ، ومن حارب منهم حورب ، ومن سالم وخضع لسلطان المسلمين أو صالحهم قبل منه حسب مصلحة المسلمين ، ولا تنتفي عداوته ، ولا يجوز أن يواليه المسلمون ما دام على الكفر ، هذا هو دين الله تعالى ، وهذا حكمه الذي أنزله في القرآن ، وإن شرق به من شرق ، وأغضب من أغضب (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ) [آل عمران: من الآية28] وفي المائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51] وفي التوبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة:23] وفي الممتحنة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) [الممتحنة: من الآية1] فبين سبحانه أن سبب النهي عن موالاتهم هو كفرهم بالحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
بل إن هذه القضية العظيمة جاءت المفاصلة فيها بين الآباء والأبناء ، والإخوان والقرابة والعشيرة ؛ فالأخوة في الدين أعظم وأولى بالمراعاة من الأخوة في النسب ؛ فضلا عن القرابة والعشيرة والوطن والعروبة التي أريد لها أن تحتل مكان الأخوة في الدين (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].
وبما قررته هذه الآيات المحكمات عمل الصحابة رضي الله عنهم ؛ فعادوا آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم ، وانخلعوا من عصباتهم وعشائرهم موالاة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وقدموا على قرابتهم العبيد والموالي ، فوالوا سلمان وبلالا وصهيبا وعمارا ؛ لا لشيء إلا لأنهم والوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل إنهم رفعوا سيوفهم في وجوه الآباء والإخوان والعشيرة حتى أظهر الله الحق وأزهق الباطل ، وقد روي أن أبا عبيدة رضي الله عنه قتل أباه على الشرك في بدر ، وجاء عن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا" ولما شاعت مقالة أبيه (لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: من الآية8] يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقف ابنه عبد الله على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه فلما جاء أبوه قال له ابنه: وراءك فقال: مالك ويلك ، فقال: والله لا تجوز من ها هنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ، فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه أجبر أباه على أن ينطق بأنه هو الذليل وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العزيز.
وقال الصديق أبو بكر رضي الله عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بيده لَقَرَابَةُ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إلي أَنْ أَصِلَ من قَرَابَتِي) رواه الشيخان.
وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله تعالى عنهما: "فَوَالله لإِسِلامُكَ يوم أَسْلَمْتَ كان أَحَبَّ إلى من إِسْلامِ الْخَطَّابِ لو أَسْلَمَ وما بِي إِلا أَنِّي قد عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلامَكَ كان أَحَبَّ إلى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وَسَلَّمْ من إِسْلامِ الْخَطَّابِ" ولما قدم أبو سفيان المدينة قبل إسلامه ليزيد في هدنة الحديبية دخل على ابنته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: (يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر).
هكذا أخلص الصحابة رضي الله عنهم دينهم لله تعالى ، وجردوا ولاءهم له سبحانه ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولدينه ، ولمن دان بدينه ، وأعلنوا البراءة من الكفر وأهله ، وبارزوهم بالعداوة والبغضاء في الله تعالى ، متأسين في ذلك بخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وبأتباعه المؤمنين برسالته ؛ إذ جعلهم الله تعالى أسوة في البراءة من الكفر وأهله (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: من الآية4] وإبراهيم عليه السلام هو الذي أعلن العداوة لهم (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:75-77] وتأسى به النبي صلى الله عليه وسلم حين نابذ المشركين فيما يعبدون فقال (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون:1-2] وهكذا ينبغي للمسلم التأسي بالخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في اتخاذ المؤمنين أولياء والكافرين أعداء.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من أوليائه وأولياء رسله ، وأن يكفينا شر أعدائه وأعداء رسله ، إنه على كل شيء قدير والحمد لله رب العالمين ،
وأقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى ، ووالوا أولياءه ، وعادوا أعداءه ؛ فإن ولاية الله تعالى تنال بذلك (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63-64] وأعظم ولاية يجب أن تصرف لرسل الله عليهم السلام ، وهي من ولاية الله تعالى ، والإنسان مفطور على ولاية من أحسن إليه بإيصال نفع أو دفع ضر ؛ ولذا فهو يوالي والديه وإخوانه وعشيرته ، ويعادي أعداءهم ، وأعظم إحسان حازه المسلم إنما كان بسبب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ أوصل إليه أعظم نفع وهو الإسلام ، ودفع عنه أعظم ضرر وهو الكفر ؛ فكان له من الحق والمحبة والنصرة والولاية ما ليس للآباء والأمهات، بل هو أولى بكل مؤمن من نفسه ؛ كما قال الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) [الأحزاب: من الآية6] وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مُؤْمِنٍ إلا وأنا أَوْلَى بِهِ في الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اقرؤوا إن شِئْتُمْ النبي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أَنْفُسِهِمْ" رواه البخاري .
وفي السنن قال صلى الله عليه وسلم: "أنا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ من نَفْسِهِ فَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أو ضَيْعَةً فَإِلَيَّ وَمَنْ تَرَكَ مَالا فَلِوَرَثَتِهِ وأنا مولى من لا مولى له أَرِثُ مَالَهُ وَأَفُكُّ عَانَهُ" أي أسيره.
وقال عليه الصلاة والسلام: "إنما أنا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ" رواه أبو داود , والعوام تقول : "عدو أبيك عدوك" ولا زال الناس يعادون أعداء آبائهم ، وينكرون على من والى أعداء أبيه ، ويعدونه عقوقا وظلما ، فإذا كان الأمر كذلك فكيف بمن عادى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو الأب الحقيقي لكل مؤمن ومؤمنة ، وحقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى ؟!
إنه يجب إحياء الولاء للرسول صلى الله عليه وسلم في القلوب ، ومعاداة أعدائه من الكفار والمنافقين والمرتدين ، الذين يسخرون منه ومن دينه ، ويكذبون بوعده ووعيده ؛ فهم الأعداء وإن أظهروا النصح ، وتظاهروا بالصداقة.
وهم الأعداء ولو قال المنافقون والجاهلون من أهل السياسة والصحافة غير ذلك ، ولو أظهروهم على خلاف ما وصف القرآن العظيم ، فكذبوا وصدق الله العظيم (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) [النساء: من الآية87].
إن الله تعالى هو خالق الخلق ، وهو أعلم بدخائل النفوس ، ومطلع على مكنون الصدور ، وقد بين لنا أعداءنا من إخواننا، وفصل لنا أحوال أعدائنا وأنواعهم من مشركين ومنافقين وأهل كتاب ؛ وذكر شيئا من حسدهم وعداوتهم لنا فقال سبحانه في المشركين : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاً وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) [التوبة:9-10].
وفي الآية الأخرى (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة:2] وقال سبحانه في المنافقين: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء: من الآية89] وخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه في المنافقين: ( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون: من الآية4].
وقال سبحانه في اليهود والنصارى (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) بالبقرة: من الآية109] وأخبر سبحانه أنهم ساعون في إضلالنا (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) [آل عمران: من الآية69] وبين عز وجل أننا إن أطعناهم فيما يريدون ، ووافقنا على مشاريعهم التغريبية خرجنا من ديننا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) [آل عمران:100] وأخبر سبحانه عنهم وعن المشركين أنهم يكرهون وصول الخير لنا فقال سبحانه: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) [البقرة: من الآية105] أفبعد هذه الآيات المحكمات الواضحات في حقيقة أعدائنا يشك بعض الناس في عداوتهم ؛ لأن فريقا من الجهلة والمنافقين يصورونهم على غير حقيقتهم ، ويظهرونهم بغير مظهرهم ؛ تلبيسا على الناس ، ومخادعة لهم. أيترك الناس كلام من خلقهم وهو أعلم بهم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] إلى كلام جهلة ومنافقين ؟! كيف والله تعالى يخاطبنا فيقول عز من قائل عليما: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً) [النساء:45].
وما هذا التآلب الغربي عقب هذه الرسوم الفاجرة ، وإعادة نشرها مرات وكرات ، والتلويح بإعادة الحروب الصليبية من جديد إلا دلائل واقعية تدحض أقوال الجهلة والمنافقين الذين خدعوا كثيرا من الناس بتحسين صورة الأعداء في نفوسهم حتى كان ما كان ، ولعل من كان نائما أن يفيق ، ومن كان جاهلا أن يعلم ، ومن كان مغررا به من قبل الإعلام المضلل أن يتبصر ؛ فما بعد هذا الوضوح من وضوح ، ولا عداوة أشد من تلك العداوة التي يعتدى فيها على من محبته في قلوبنا فاقت محبة الآباء والأمهات والأولاد والزوجات ، بآبائنا هو وأمهاتنا صلى الله عليه وسلم.
والمؤمن لا يحتاج لمثل هذه الوقائع حتى يعلم حقيقة الأعداء ، ويوقن بعداوتهم الدينية لنا ؛ لأن المؤمن يسترشد في ذلك بكتاب الله تعالى الذي بين حقيقتهم أبلغ بيان، وفصلها أحسن تفصيل.
ورب ضارة نافعة ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ؛ فلعل هذه النازلة العظيمة تزي
د المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم ، وتقطع الريبة ممن في قلبه شك وريبة ، وتفضح المنافق الذي يلتمس المعاذير ، أو يفلسف القضية محاولا احتواءها والتقليل من آثارها.
ولا يقضي الله تعالى قضاء إلا كان فيه خير بوجه من الوجوه فاحمدوا الله تعالى على نعمه ، واستمسكوا بدينكم ، واعرفوا حقيقة أعدائكم ، واجعلوا ولاءكم لله تعالى ، وتولوا رسله وصالح المؤمنين ، وتبرأوا من الكافرين والمنافقين ، وربوا أولادكم على عقيدة الولاء والبراء ؛ فإنها مما يحفظ على المرء دينه وعقيدته ، والمحافظة عليها من أكبر أسباب إغاظة الكافرين والمنافقين.
وصلوا وسلموا....