الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | سامي بن خالد الحمود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
أخي الصائم: اجعل شهرَ صومك جهاداً متواصلاً ضدَّ شهوات النفس، وانقطاعاً إلى الله بالعبادة والطاعة، فهو موسم التوبة والإنابة، وباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ الدّنيا حُلوةٌ خَضِرة، جَميلة نضِرةٌ، نعيمٌ لولا أنّه عديم، ومحمودٌ لولا أنّه مفقود، وغِناء لولا أنّ مصيره الفنَاء، المستقِرُّ فيها يزول، والمقيمُ عنها منقول، والأحوال تحول، وكلُّ عبدٍ مسؤول.
معاشرَ الصائمين: أيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعوها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تُدركون رمضان الآخَر أو لا تدركونه؟ وإن اللبيبَ العاقلَ مَن نظَر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ ثم إلى دار الحساب.
أيّها المسلمون: مواسمُ الخيرات، أيّامٌ معدودات، مصيرها الزوال والفوَات، فاقصُروا عن التّقصير في الشّهر القصير، وقوموا بشعائره التعبّدية، وواجباتِه الشرعيّة، وسننِه المرويّة، وآدابه المرعيّة، "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطر"، و"فَصْلُ ما بين صيامِنا وصيام أهلِ الكتاب أكلةُ السحر"، فتسحَّروا ولو بجرعة ماء، وكان رسول الله يُفطِر قبل أن يصلّي على رُطبات، فإن لم تكن رطبات فتمَيرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسواتٍ من ماء، وكان إذا أفطَر قال: "ذهب الظمأ، وابتلّت العروق، وثبتَ الأجر إن شاء الله".
و"من أكلَ أو شرب ناسيًا فليتمّ صومه، فإنّما أطعمه ربُّه وسقاه"، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، و"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، و"من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه"، و"من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"، و"مَن فطَّر صائِمًا كان له مثلُ أجره، غيرَ أنّه لا ينقُص من أجرِ الصائم شيء"، و"عمرةٌ في رمضان تعدِل حجّةً مع النبيّ -عليه الصلاة والسلام-".
أيها الصائم: ليكن لك في شهر الصوم عملٌ وتهجُّد وقرآن، وابتعِد عن خوارق الصوم ومفسداته، وإياك أن تقع في أعراض المسلمين! واحفظ لسانك وسمعك وبصرك عمَّا حرم الله، يقول الإمام أحمد رحمه الله: ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماري في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً.
ومن بُلي بجاهل فلا يقابله بمثل سوأته، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "الصِّيامُ جُنةٌ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فيلقل: إني صائم" رواه البخاري.
معاشر الصائمين: ورمضان شهر القرآن، فيه أنزل، وفيه تدارسه نبي الهدى مع جبريل -عليه السلام-، كان يعارضه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه الرسول -عليه الصلاة والسلام-، عارضه مرتين.
ولذلك، انكب السلف الصالح على كتاب ربهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، لا يملون تكراره، ولا يسأمون أخباره، كان بعض السلف يختم في كلِّ ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكان الأسود يقرأ القرآن في كل ليلتين، وكان الشافعي يختم في رمضان ستين ختمة، وكان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.
فاقتدوا -رحمكم الله- بسلفكم الصالح، اجعلوا للقرآن حظاً وافراً من أوقاتكم، أحيوا به الليل، وتغنوا به في النهار، فإنه شفيع لكم يوم العرض على الله، كما في المسند بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان".
منَع القُرَانُ بوعـــدِه ووَعيــدِهِ | مُـقَـلّ العيونِ بليلِها لا تهجــعُ |
فهِمُـوا عن الملِكِ العظيـمِ كلامَـهُ | فَهْمَاً تذِلُّ له الرقــابُ وتخضَـعُ |
وإذا أحسنتم بالقول فأحسنوا بالفعل، ليجتمع لكم مزية اللسان وثمرة الإحسان، والمال لا يذهب بالجود والصدقة، بل هو قرضٌ حسن مضمون عند الكريم، (وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ:39]، يضاعفه في الدنيا بركةً وسعادة، ويجازيه في الآخرة نعيماً مقيماً، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً" متفق عليه.
فتحسَّسوا دورَ الفقراء والمساكين، ومساكن الأرامل والأيتام، ففي ذلك تفريجُ كربة لك، ودفعُ بلاء عنك، وإشباعُ جائعٍ، وفرحةٌ لصغير، وإعفافٌ لأسرة، وإغناءٌ عن السؤال، ولقد كان رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أكرمَ الناس وأجودَهم، إن أنفق أجزل، وإن منح أغدق، وإن أعطى أعطى عطاءَ من لا يخشى الفاقة، وكان يستقبل رمضان بفيض من الجود، ويكون أجودَ بالخير من الريح المرسلة. فأكثِر من البذل والإنفاق، فإن المال لا يبقيه حِرصٌ وشحّ، ولا يُذهبه بذل وإنفاق.
فيا مَن أفاء الله عليه من الموسرينَ، إنَّ الله هو الذي يُعطِي ويمنَع، ويخفِض ويرفَع، وهو الذي استخلَفَكم فيما رزقَكم لينظرَ كيف تعملون، والمؤمِنُ في ظِلِّ صدقته يومَ القيامة، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، ولن يُعدَم الموسِر محتاجًا يعرِفه بنفسِه، أو جهاتٍ موثوقَةٍ تعينُه على الإنفاق.
أسأل الله تعالى أن يقينا شح أنفسنا، ويجعلنا من المفلحين، إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، والصلاة والسلام على عبده ومصطفاه، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد، معاشر الصائمين: إنّ مقصودَ الصيام تربيةُ النّفس على طاعةِ الله، وتزكيتُها بالصّبر، واستعلاؤها على الشّهوات، ووقت رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت الثّمين لكان ذلك كافيًا في ذمّها، كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟!.
بعض المفتونين، يجوب العالم شرقًا وغربًا، يدير "الريموت" على أجساد العرايا، ونحور الصبايا، يُفسد صيامه بالنظر الحرام، وباللهو الحرام، وبالفعل الحرام.
سبحان الله! حتى في رمضان، يا هؤلاء، لماذا لا نبدل السيئة بالحسنة؟ لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حَمْأَة الخطايا؟ لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات، لاسِيّما ونفوسنا مهيأة للخيرات؟.
أخي الصائم: اجعل شهرَ صومك جهاداً متواصلاً ضدَّ شهوات النفس، وانقطاعاً إلى الله بالعبادة والطاعة، فهو موسم التوبة والإنابة، وباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح.
فيا من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي، متى تتوب إن لم تتب في شهر رمضان؟! ومتى تعود إن لم تعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرُق بابَه، وأكثر من استغفاره.
معاشر الصائمين: في الأسحار نفَحَات ورحماتٌ حينَ التّنزُّل الإلهيّ، فعليكم بالدّعاء والاستغفار، فرُبّ دعوةٍ يكتب لك بها الفوز الأبديّ، وعند الفطر أيضًا دعوةٌ لا ترَدّ، فاستكثِروا مِن الدّعوات الطيّبات في شهر النّفحات، ادعوا لأنفسكم وذويكم، وتوسَّلوا إلى الله بألوانِ الطّاعة، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، أن ينصرَ إخوانَكم المستضعفين والمشرَّدين، والمنكوبين والمأسورين، والمضطَهدين في كلّ مكان، فالأمّة تمرّ بأعتى ظروفها وأقسى أزمانها.
اللهم أنت المستعان، وعليك التّكلان، ولا حولَ ولا قوة إلا بك.
اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...