البحث

عبارات مقترحة:

السميع

كلمة السميع في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

العزيز

كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...

المولد النبوي ميلاد حكومة راشدة

العربية

المؤلف عقيل بن محمد المقطري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب
عناصر الخطبة
  1. شهر ربيع الأول نقطة فاصلة .
  2. إقامة الشعب الراشد .
  3. العدل وأغراضه .
  4. الحكم الراشد وأغراضه .
  5. أمثلة من التاريخ .

اقتباس

شهر ربيع الأول من كل عام يذكرنا بحدث عظيم حدث في هذا الكون كان نقطة فارقة وفاصلة سطر التاريخ في ذلك اليوم كلماته وأحرفه بنقاطها من نور ذلك التاريخ الذي لن ينساه بشر ولن يطمس من أذهان الناس عربهم وعجمهم، إنها نقطة فارقة بين الشرك والإسلام، بين الهدى والضلال، إنها نقطة فارقة في حقوق الإنسان، ونقطة فاصلة وفارقة بين الحكم الجائر والحكم العادل، إنها نقطة فاصلة بين الدين الحق والدين الباطل ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [سورة آل عمران آية: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [سورة النساء آية: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [سورة الأحزاب الآيات: 70-71].

أما بعد، فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار في النار.

ثم أما بعد فشهر ربيع الأول من كل عام يذكّرنا بحدثٍ عظيم حدث في هذا الكون، كان نقطة فارقة وفاصلة سطر التاريخ في ذلك اليوم كلماته وأحرفه بنقاطها من نور، ذلك التاريخ الذي لن ينساه بشر ولن يطمس من أذهان الناس عربهم وعجمهم.

إنها نقطة فارقة بين الشرك والإسلام، بين الهدى والضلال، إنها نقطة فارقة في حقوق الإنسان، ونقطة فاصلة وفارقة بين الحكم الجائر والحكم العادل، إنها نقطة فاصلة بين الدين الحق والدين الباطل، إنها نقطة فاصلة بكل ما تحويه الكلمة من معنى ذلك؛ لأن الكون انقلب ظهرًا على بطن يوم ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، فلقد حُجبت السماء بالشهب فلم تقوِ الجن على استراق السمع، ولقد أُطفئت نيران أولئك اليهود المجوس الذين كانوا يعبدونها من دون الله عز وجل.

ولقد تحول هذا الكون كله في تلك اللحظة، حتى إن القلوب القاسية تحولت إلى قلوب في غاية الرحمة، فهذا أبو لهب يعتق جاريته؛ لأن جاريته قد بشَّرته بميلاد محمد صلى الله عليه وسلم، هذا النقطة الفاصلة لقد كانت نقطة فارقة في تحول مجريات الأمور على ظهر هذا الكون، لقد ارتعد الباطل، واضطرب الظلم واضطرب أولئك السادة الذين كانوا يتحكمون بالضعفاء والمساكين، والذين كانوا يضطهدون عباد الله تبارك وتعالى كل ذلك خوفًا على أنظمتهم التي صنعوها بأيديهم.

تلك الأنظمة الجائرة التي استحلت ما حرم الله تبارك وتعالى، التي اضطهدت الإنسانية التي احتقرت المرأة وجعلتها سلعة تُباع وتُشترى، ويُتمتع بها، فإذا انتهت صلاحيتها رُميت في الزبالة، وإذا مات سيدها انتقلت إرثًا إلى الأبناء وإلى الأعمام وإلى غيرهم، يتوارثونها فيظلمونها من أجل أن يأخذوا مالها ولا يتعاملون معها كإنسان له حق الوجود وله حق التصرف وله حق الحياة.

ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم نقطة فارقة في بناء الحكم الراشد، وفي بناء المجتمع الراشد الذي يدعم هذا الحكم الراشد، والذي يقوى على أن يقول كلمة الحق والذي يقوى هو بالتالي أن يتقبل كلمة الحق، والذي يحمد الله عز وجل على أن له من يقومه ومن يسدده؛ لأنه يخاف الله عز وجل رب العالمين، كانت الحياة قبل النبي عليه وسلم في غاية الظلم، وفي غاية الجور؛ تسلط الكبراء على رقاب الضعفاء فالضعفاء عبيد بين أيديهم يتصرفون فيهم كيفما يشاءون، وهم وما يملكون -إن كانوا يملكون- ملكًا لأولئك السادة، وأما أولئك الضعفاء فلا يمتلكون شيئًا هم وأزاوجهم وأبناؤهم عبيدًا لتلك الطُّغْمة التي كانت تملكهم وتحكمهم بشريعة الغاب لا بشريعة القانون، وإن سطروا قوانين وضعية كتبت أو هي في أِذهانهم فإنها في غاية من الجور والظلم.

ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم كان نقطة فارقة ارتعدت جميع الأنظمة يوم مبعثه صلى الله عليه وسلم يوم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ) [المدثر:1-2].

ويوم قال الله له: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214].

ويوم أن قال الله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر:94].

في ذلك اليوم خاف أولئك الطغاة على عروشهم، خاف أولئك على مناصبهم، وخافوا على مكانتهم، وخافوا على شعبيتهم، فبدءوا يحيكون المؤامرات لقتله، ولما لم يفلحوا بدءوا بالتنازل الأول، وهو أن يلتقوا في مفرق الطريق يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، ولما لما يفلحوا في هذا قدّموا التنازل تلو التنازل ولكنه بقي صامدًا صلى الله عليه وسلم قائلاً لهم: «أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم قال: ما أنا بأقدر أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة. قال: فقال: أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي فارجعوا».

وقال: «يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن الله أظهرني عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهرني الله أو تنفرد هذه السالفة».

علم أولئك أنهم سائرون على خط معوج، أنهم سائرون على حكم جائر ظالم، يعطي جميع الصلاحيات لفئات من الناس يتصرف كيف يشاء في الأموال، وتتصرف في إدارة الحروب، وإقامتها، وتتصرف في كل قضية من القضايا كيفما تشاء دون رقابة ودون رقيب.

لكنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ أولاً بإقامة الشعب الراشد الذي يقوم بجواره، والذي يحمي دعوته، ويتمحور حول قضية من القضايا التي هي المحك والتي هي القضية الأساسية التي ينطلق الناس من أجل تحقيقها؛ لأنها تعود عليهم بالعدالة وتعود عليهم بالحرية وتعود عليهم بالمساواة، وتعود عليهم بأن تصل الحقوق إلى أهلها.

تلك القضية هي قضية الإسلام، الحكم الراشد، أيها الإخوة الكرماء:

إنها نتيجة وليست مقدمة، المقدمة هي بناء القاعدة التي تحمي هذا الكيان، والتي تسعى لتشييد أركانه ولذلك حق لذلك الصحابي أن يقول: "ولقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام".

شخص واحد يعد نفسه ثلث دولة، فإذا كان قول الله تعالى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:249].

يعني بها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ينصرهم الله عز وجل مع كثرة المشركين، فهي قضية نسبية إذن، فهكذا في زماننا القضية نسبية، المهم أن توجد المقدمة أولاً، وهي إيجاد الشعب الراشد والقاعدة الرشيدة التي تحمي مثل هذه الفكرة، والتي تتبناها.

وكان والآخر يقول: "ولقد رأيتني وأنا ربع الإسلام، وأنا سابع سبعة في الإسلام".

حق لهم ذلك، فقد كانوا الأسس والقواعد والدعائم لبناء هذا الإسلام الذي جاء من أجل حقوق الإنسان، وإرساء حقوق المرأة والمساواة، وغير ذلك، وأعطى التصرف في الحرية والحرية في التعبير وغير ذلك من القضايا التي تنادي بها اليوم كل الأنظمة الموجودة على ظهر الأرض، وإن كان أحيانًا لها مآرب أخرى من وراء ذلك سواء تحقق أو لم يتحقق، إننا لو تصورنا أيها الإخوة الفضلاء: هرمًا فإن الحكم الراشد هو في قمة الهرم، وأما أسفله فيه القاعدة التي يتدرج من خلالها للوصول إلى ذلك، ومن هنا كان لا بد من إقامة هذه القاعدة التي تحمل هذا الهرم، وكما تكون هذا القاعدة يولى عليها، وقد قيل قديمًا: "كيفما تكونوا يولى عليكم".

لقد أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البناء القوي، وهذه القواعد القوية التي تحمل هذه الفكرة وتتبناها، وظهر ذلك جليًا في خلافة عمر رضي الله عنه يوم أن لم يستحِ عمر أن صعد على المنبر كما روي عنه فقال: أيها الناس إن وجدتم فيّ اعوجاجاً فقوموه، فيقول له رجل من المسلمين: "والله لو وجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بحد السيف" فيغتبط عمر ويرضى، ويحمد الله على ذلك!!

ولم يقل للقاعدة العريضة: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، بل قال: لو رأيتم في اعوجاجًا فقومني، فقالوا لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناك بهذا السيف، هذه هي المعارضة الحقيقة التي تنطق بالحق للحاكم الراشد وتعدله، وهكذا ليس المقصود من الحاكم الراشد أن يعترف بخطئه، ولا أن يعدل قراراته، ولكن المقصود هنا أن توجد القاعدة الصلبة القوية التي تجرؤ على أن تقول الحق، وألا تحني جباهها وظهورها للظلم والضيم، بل إنهم لم يتعرضوا على هذا القائل، وهذا القائل يمثل فئة وشريحة من الناس ما قاموا يصرخون في وجهه، وما قاموا يسكّتونه، بل أقروه على مثل هذا الكلام.

أيها الإخوة الفضلاء: عمر في موضع آخر وهو المتخرج من مدرسة رسول لله صلى الله وآله وسلم يخطب خطبة بليغة حينما رأى أن الآباء قد تغالوا في المهور، وحينما رأى عزوف الشباب عن الزواج، فقام من أجل أن يحد من هذه الظاهرة، فقامت له امرأة من سطة النساء في وسط المسجد في حشد من الناس ذكورًا وإناثًا معترضة عليه بقولها: يا عمر لِمَ تمنعنا شيئًا أباحه الله عز وجل لنا؟ قال: كيف ذلك؟ قالت: ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [النساء:20].

هل قام الجيش لحبسها؟! هل أودعوها في السجون؟! هل كمموا فمها؟!

إنه ترك لها الحق وأعطاها حرية التعبير عن نفسها بل كان شجاعا فاعترف بالخطأ وقال أمام الملأ: أصابت امرأة وأخطأ عمر لم يثر الشعب عليها ولم يثر الجيش عليها ولم يأمر القائد بإلقاء القبض عليها ويزجها وراء القضبان ولكنه تجرد واعترف بالخطأ الذي تلاه بعد ذلك التنازل عن مثل هذه القضية.

أيها الإخوة:

إذا وجد الحكم الراشد ولم يوجد الشعب الراشد، فإن هذه قضية آنية تزول بزواله، تكون القضية مرتبطة به لو وجد حاكم عادل، ونفذ العدل في جميع المجالات، لكن لا توجد القاعدة الصلبة التي تحمي هذا الحكم الراشد، فبزواله وموته يزول الحكم الراشد، ويعود الظلم كما كان، وهذا مثاله كما كان الحال عليه قبل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، لقد فشا الظلم وأُخذت أموال الناس، وكان الناس في سكوت وفي وجوم، فلما جاء عمر بن عبد العزيز أعاد الحقوق إلى أهلها، وفاض المال لدرجة أنه كان صاحب المال يطوف بماله بالمدينة كلها لا يجد فقيرًا، فاض المال زمنه لكن بمجرد أن زال عمر زال الحكم الراشد وعاد الأمر إلى أسوأ مما كان عليه، ولقد وجد بالعكس شعوب عندها شيء من الرشد والنضج كما الحال في ألمانيا على سبيل المثال بسقوط حكومة تلو حكومة، وبقي الشعب راشدًا وينمو رشده كما ينمو الصبي الصغير.

إن الشجرة الطيبة تؤتي ثمارًا طيبة، وإن الحكم الراشد هو ثمرة من ثمار الشجرة الطيبة الذي هو الشعب الراشد.

والقاعدة الرشيدة ولو جاءت الثمار أحيانًا غير جيدة في عام من الأعوام، فإنها في الأعوام التالية قد تأتي أفضل مما كانت عليه بإذن الله عز وجل.

إنها قضية مهمة -أيها الإخوة- وهي قضية تهم كل فرد، وهو أنه لا بد من الشجاعة والصراحة النفسية، ولا بد أن نصارح أنفسنا، ولا بد أيضًا أن نشخص داءنا حتى يشخص لنا الدواء الناجع النافع بإذن الله عز وجل، وهذه الصراحة هي أن ننظر في حالنا وننظر في ذواتنا هل نحن راشدون هل نحن خالون من الأمراض والأسقام، هل نحتاج إلى علاج أم أننا لا نجرؤ ولا نتشجع على أن نصارح أنفسنا وعلى أن نجلد أنفسنا جلدًا ذاتيًّا بنّاء وعلى ألا نرمي بالتبعة على غيرنا.

إن النفس البشرية حين يقول لها شخص فيك كذا وكذا، فيك عجب، فيك كبر، فيك بخل فيك كذا تستنكف النفس البشرية إلا من هضم نفسه إلا من أراد أن يقوم نفسه، وأن يصحح مساره لذلك من السهولة أن نرمي بالتبعة على الغير، ونقول هذا بسبب كذا، وهذا بسبب كذا، وهذا بسبب الأعداء في الخارج. أما أن تقول: إن الداء فينا، فهذا ما يندر حدوثه، إن القرآن دائمًا يرجع القضية إلينا، نحن فإذا كنا معافين من الله عز وجل من هذه الأسقام والأمراض، فهو نوع ابتلاء من الله عز وجل، لذلك ذكّرتكم في خطبة مضت في عزوة أحد أن الصحابة كانوا يبحثون بعد أن غُلبوا، وتحولت مجريات المعركة إلى هزيمة، كانوا يبحثون عن تبعة يرمون سبب نكستهم عليها من أين أُتينا؟

لماذا؟؟

فأنزل الله سبحانه: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (سورة آل عمران آية: 165).

إذا أنتم السبب والمرض فيكم. وعليكم أن تعالجوا أنفسكم، هذه بداية الطريق، بل بداية أن صح التعبير خارطة لطريق لإيجاد قاعدة رشيدة تتحمل الفكرة قديمًا.

أيها الإخوة الفضلاء.. الحكم الشيوعي الشمولي تبنى فكرة الاشتراكية، وبلورها في عقول الناس، وضخّها إلى قلوب الناس، فتحملها الناس عن وعي وغير وعي، فقام الحكم الاشتراكي وعم كثيرًا من الحكومات خارج الاتحاد السوفيتي سابقًا.

قديمًا أيضًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة والتابعين الفكرة المتبلورة التي تمحور الناس حولها هي الإسلام، هي العدالة، هي المساواة، هي الحرية، كل هذه القضايا تمحورت في الإسلام وتبلورت في أفكار الناس وغذي بها الناس، فقام الناس بحملها حتى قام الإسلام بإذن الله عز وجل الديمقراطية اليوم أمريكا وغيرها بنوا هذا النظام تبنوا هذا الدين حشدوا في أذهان الناس حمسوا الناس من أجله صدروه إلى دول العالم بأسره دعموا المتحمسين لمثل هذه الفكرة، وبالتالي فإن القضية اليوم وطنية ديمقراطية لكن قضيتنا كمسلمين هي قضية الإسلام التي تشمل جميع الحقوق التي يتنادى عليها البشر على ظهر هذا الكون من حرية التدين من حرية الرأي من حرية المعتقد حرية التصرف المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس رؤساء ومرؤوسين مقربين ومبعدين.
الإسلام كله يدعو لمثل هذه القضايا.

أيها الإخوة: إذًا لا بد من الوعي لمثل هذه المسائل، ولا يجوز لنا أن ننظر إلى المشاكل نظرة جزئية، إن النظرة الجزئية هي شكل من أشكال المرض، لكنه بطريقة أخرى كمن يشعر بصداع، فإذا أُعطي مسكنات سكن الصداع لكن لم تعالج القضية.

الصداع هذا لا بد أن يعالج سببه، فقد يكون بسبب الأذن، قد يكون بسبب الحنجرة أيضًا أو اللوزتين، قد يكون بسبب الانفعالات، قد يكون بسبب القولون قد يكون بسبب الآم أسفل الظهر، وقد يكون أسفل القدم قد يكون وقد يكون.
إذًا المسكن ليس بعلاج، ومثل هذه الظواهر التي ينظر الناس إليها نظرة جزئية.
كالظلم، غلاء الأسعار، انتفاء المساواة، كبت الحريات. ولو نظرنا إليها نظرة جزئية لم تعالج المشكلة من الأساس، وهذه الظواهر لا يمكن فصلها عن بعضها ليس كخليط من الأجزاء يمكن فصلها عبر المختبرات والمواد الكيميائية، بل بمعنى أن هذا الجزء المريض لا يمكن أن يفصل عن بقية الأجزاء الصحيحة فهي مترابطة لا بد من حل القضية حلاً جذريًّا.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:

أيها الإخوة الفضلاء: إن العالم اليوم بأسره مسلمه وكافره يسعى لتحقيق الحكم الراشد، هذا الحكم الراشد بغض النظر كونه دينينًا أو غير ديني، المهم أنهم يطالبون بأشياء مشروعة شهد لها القاصي والداني شهد لها الأصدقاء والأعداء كلهم يسعون ويطلبون بإقامة هذا الحكم الراشد الذي يكفل الحريات ويكفل الحقوق ويعيد الأمور إلى نصابها، وإن إعادة الناس إلى الرشد يمكن تقسيمه إلى قسمين: قسم إعادة تأهيل، وقسم بناء جديد، والبناء الجديد أسهل من إعادة الترشيد؛ لأن البناء الجديد يمكن أن نشبّهه بالطفل الصغير الذي ينمو مع السلوكيات والأخلاقيات فيأخذها بتسليم، لكن من أريد إعادة تأهيله من الصعوبة بمكان، ولهذا فإن على كل إنسان تقع المسئولية في إعادة تأهيل نفسه لحمل هذه الفكرة التي صار الكون كله اليوم يتبناها.

إن الناس تأنف من الظلم، وتأبى الضيم وترفض الديكتاتورية وتحب أن يعطى الناس، وتُطلق لهم حرياتهم الشرعية والحريات إذا أُطلقت أُريد بها الحريات الشرعية التي تتوافق مع شريعة الله عز وجل، لا التي تتصادم معها، إن الحكم الراشد جوهر الإصلاح وهو لازم من لوازم الإيمان، قال الله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65].

والعدل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء:58].

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) [ص:26].

والعدل واجب وفريضة شرعية قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء:58].

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء:135].

والعدل له أغراض، فمنها نشر الرخاء بين الناس، أن يُنشر الرخاء ويعم الرخاء في جميع المجتمع، لا أن يبقى في طبقة مخصصة من الناس، فهذا هو عين الظلم.

تأمين الطرق: من أغراض العدل أن تأمن الطريق، فيأمن الإنسان على نفسه وعلى ماله، وعلى عرضه. ومن أغراض العدل أيضًا أن يرتفع الظلم والخوف، فيحكم بالعدل بين الناس، ولا يخاف الإنسان أن يقول كلمة حق، ولا يشهد بالحق، ولا أن ينطق بالحق.

من أغراض العدل أيضًا أن يثق الناس يشرع الله عز وجل إذا رأوا العدل المنبثق من شريعة الله عز وجل فإنهم يثقون بالشرع.

أما أولئك الذين يتمسحون بالشرع، ويحكمون بغير ما أنزل الله تعالى، ويظلمون الناس، ويرتشون من أجل التغير والتزوير والتبديل، فهؤلاء أفقدوا الناس ثقتهم بشريعة الله عز وجل وهم جزء لا يتجزأ من المرض الحاصل اليوم في العالم الإسلامي على وجه الخصوص.

ثانيًا: من أغراض الحكم الراشد المساواة في الحقوق والواجبات، وهذا مطلب أساس تطلبه جميع الشعوب، ومن أغراض المساواة في حق الحياة والوجود، فلا يحيا قسم من الناس ويموت القسم الآخر عبدًا، هنالك أنظمة كانت تبيد نصف الشعب ليحيا النصف الآخر عبدًا للطغمة الفاسدة، لكن من أغراض المساواة الحق في الحياة والوجود ثالثًا: النسب المساواة في حق الانتساب، وهذا ما يعبر عنه شرعًا بحفظ النسل أيضًا حق الملكية، فلكل إنسان الحق في أن يملك، بعض الأنظمة تأتي إلى أملاك الغير فتسيطر عليها وتطرد أصحابها كالنظم الاشتراكية على سبيل المثال، تستولي على أموال الناس وتصيرها في حد زعمها للشعب هذا أمر مرفوض، وهكذا أيضًا التسلط والتنفذ على أملاك الغير وضمها لفلان أو علان هذا ليس من المساواة في شيء.

من أعراض المساواة: المساواة في حق الملكية، والمساواة في حق التعبير فيما يتوافق مع شريعة الله عز وجل، أما حق التعبير المصادم للشرع فمرفوض، الحق السياسي أيضًا لك الحق في أن ترشح، وأن تترشح لك الحق أن تقول كلمة الحق، ولا تخاف في الله لوم لائم، الحق في القضاء والمقاضاة، فلك الحق أن تقدم دعوة ضد فلان أو علان، لك الحق أن تستخرج الحكم الشرعي الذي إما أن يكون لك أو عليك لا أن تقبل فلان وترفض دعوى الآخر.

إن المساواة أيها الإخوة لا تتنافى مع التعامل فإذا كان الإسلام لم يسو بين المسلمين ذكورًا وإناثًا وعالمًا وجاهلاً وفاضلاً وغير فاضل كما قال صلى الله عليه وسلم: «أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ». وإن كان من أهل العلم من يعترض رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام: «أَقِيلُوا ذَوِى الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلاَّ الْحُدُودَ» يعني الشخص الذي لا يُعهد عنه السقطات والعثرات إذا وقع في عثرة يُقال فيها، لا أن يُشهر فيه، لا أن يتكلم فيه، فهي عثرة لا يكاد يخلو منها إنسان، هكذا الشريعة أيضًا فرّقت بين الوالد والولد فالوالد لا يُقاد بولده إذا قتل الوالد ولده فلا يقتص به، فرقت بني الذكر والأنثى (…وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى…) [آل عمران:36].

وكذا في المواريث وجعلت الحق في مسك زمام الأمور في الأسرة للرجل، ليس للمرأة جعلت الولاية للأب أو للأخ الأكبر أو ما شابه ذلك من الأقربين في الولاية، وليس للمرأة الحق في أن تزوج نفسها، وهكذا فالإسلام لم يسو بين الذكر والأنثى، ولا بين صغير والكبير، ولا العالم ولا الجاهل إلى آخر ذلك، فكذلك أيضًا لا يسوي بين المسلم والكافر فلا يقاد المسلم بكافر والمسلم له حقوقه في الإسلام والكافر له حقوقه وعليه واجبات وأخرى ليست واجبة على المسلم.

وإن كانت الديمقراطية العربية تتهم المسلمين بأن عندهم تمييز عنصري، فهذا تمييز شرعي يشهد الواقع في دول الغرب بوجود مثل هذه الفوارق بين طبقات الناس، هذه موجودة، وهذه فطرة الله عز وجل التي فطر الناس عليها، ومن هنا فإن الإسلام جاء من أجل إرساء دعائم العدالة والمساواة.

الضمانة الثالثة للحكم بالعدل الحرية أن يُعطى لكل إنسان الحرية في أن يعبّر عما يعتقده شريطة أن يكون متوافقًا مع شريعة الله عز وجل.

والحمد الله رب العالمين.