المحيط
كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
من ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عندَ هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولاَّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ، ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله ..
إن الحمد لله...
أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله الذي لا تخفى عليه خافية، اتقوا الله الذي يعلم السر وأخفى، اتقوا الله الذي يعلم النوايا وما يُضمر بداخلها.
أيها المؤمنون: إن لنا ربًّا كبيرًا، كريمًا، يحمد ويشكر القليل، ويعفو ويغفر الكثير العظيم، فمن تعرف على الله بآلائه وصفاته، دعاه ذلك لعبادة ربه بكل إخلاص، بل يعبده وهو يستحي منه، ويرى أنه مقصر مهما أحسن؛ لأنه يرى نعم ربه تنزل عليه تترى، ومننه عليه لا تعد ولا تحصى، ودفعه عنه لا ينفك عنه، وأن الهلاك مصيره لولا دفع الله عنه، عند ذلك يعلم أن العبد مقصر في حق ربه مع اجتهاده في العبادة والطاعة، فقل لي بربك كيف يكون الحال مع الذي يبارز ربه بالذنوب ثم يعرض عن الطاعة، ويرى أنه مستغنٍ عن ربه.
عباد الله: إن بعض الخلق هداهم الله يتعامل مع الله وكأنه يتعامل مع طفل صغير، فلم يعظم الله حق تعظيمه، فهو لا يعبد الله إلا لحاجة في نفسه فإذا انقضت حاجته أعرض بجانبه، وثم لا تراه يستحي أن يعود مرة أخرى عند الحاجة فيطيع، ويطلب حاجته، ثم يولي دبره مستغنيًا بعد حصول مطلوبه، فويل لها من نفوس جاهلة ظالمة.
صل المصلي لأمرٍ كان يطلبه | فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صام |
معاشر المسلمين: نرى البعض ممن غفل عن ربه لا يعرف ربه إلا عند الحاجة، أو قل عند الشدة، وقد ظهر هذا بشدة قبل أيام في وقت الاختبارات، فنرى كثرة المصلين من الشباب وغيرهم، وكأنهم يتعاملون مع من لا يعرف نواياهم، وما يختلج في قلوبهم، ألا إن هذا هو الجهل بالله رب العالمين.
أخرج الترمذي في سننه وصححه من حديث عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما قالَ: كُنتُ خَلفَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلماتٍ: احفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تجاهَكَ، إذا سَأَلْت فاسألِ الله، وإذا استَعنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أنْ ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كَتَبَهُ الله لكَ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ، لم يضرُّوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبهُ الله عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ».
وفي رواية غير التِّرمذي: «احفظ الله تجده أمامَك، تَعرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاء يَعْرِفْك في الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، واعلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسراً».
قال بعض العلماء : تدبرتُ هذا الحديثَ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقِلَّةِ التفهم لمعناه.
ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ» يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربُه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه.
قال ابن رجب رحمه الله: "معرفة العبد لربه نوعان: أحدُهما: المعرفةُ العامة، وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين. والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاعَ إليه، والأُنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله عز وجل".
وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: "أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي".
ومعرفة الله أيضاً لعبده نوعان: معرفة عامة وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) ، وقال: (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)، والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يحكى عن ربِّه: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِل حتَّى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، فلئن سألني، لأُعطِيَنَّهُ، ولئن استعاذني لأعيذنَّه».
ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد، فقال له حبيب: "يا أبا سعيد، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ، فدخل، ودخل الشُّرَطُ على أثره، فلم يرَوْهُ، فذُكِرَ ذلك للحجاج، فقال: بل كان في البيت، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه".
فواعجبًا كيف يعرف الطغاة فضل من يطلبون، ثم يصرون على الظلم.
وقيل لمعروف: ما الذي هيَّجك إلى الانقطاع والعبادة - وذكر له الموت والبرزخ والجنَّة والنار -؟ فقال معروف: "إنَّ ملكاً هذا كله بيده إنْ كانت بينك وبينه معرفةٌ كفاك جميع هذا".
اللهم ارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة في الرخاء والشدة يا رب العالمين، أقول قولي...
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين |
أما بعد فيا أيها الناس: اعبدوا الله لما يغذوكم، اعبدوا الله لما تقدم من سابق نعمه، اعبدوا الله لما تتقلبون فيه من النعم صباحًا ومساءً. ولنحذر أن نتشبه بفعال المشركين الذين لا يعرفون ربهم إلا في حال الشدة كما قال تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك...).
وقد فر عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يوم فتح مكة فركب البحر للحبشة، فلعب بهم الموج، فقال ربان السفينة: "أيها الناس! أخلصوا الدعاء لله، فلن ينجيكم من الغرق إلا هو"، فقال رضي الله عنه: "إن كان لا ينجيني في الشدة إلا هو، فلا ينجيني في الرخاء إلا هو، فلما نجو رجع وأسلم".
ويروى أن يونس -عليه السلام - لمَّا دعا في بطن الحوت، قالت الملائكة: "يا ربِّ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة، فقال الله - عز وجل -: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومَنْ هوَ؟ قال: عبدي يونس، قالوا: عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة؟ قال: نعم، قالوا: يا ربِّ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء؟ قال: بلى، قال: فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء".
وقال الضحاك بن قيس: "اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، وإنَّ يونس - عليه السلام - كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله - عز وجل -: (فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، وإنَّ فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنت، فقال الله تعالى: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
وقال سلمان الفارسي: "إذا كان الرجلُ دَعَّاءً في السرَّاء، فنزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى، قالت الملائكة: صوتٌ معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدَعَّاءٍ في السَّرَّاء، فنَزلت به ضرَّاءُ، فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوتٌ ليس بمعروف، فلا يشفعون له".
أيها المؤمنون: إن أعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...).
فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عندَ هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولاَّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ، ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله.
قال أبو عبد الرحمن السُّلمي قبلَ موته: "كيف لا أرجو ربي وقد صُمْتُ له ثمانين رمضان".
وقال أبو بكر بنُ عيّاش لابنه عندَ موته: "أترى الله يُضيِّعُ لأبيك أربعين سنة يَختِمُ القرآن كُلَّ ليلةٍ"!
وختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مسجَّى للموت، ثم قال: "بحُبِّي لك، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ لا إله إلاَّ الله، ثم قضى".
ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ، رفع يديه، وقال: "اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ".
وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته: "سيدي لهذه الساعة خبَّأتك، ولهذا اليوم اقتنيتُك، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك".
اللهم اجعلنا لك شاكرين...اللهم وفقنا لهداك...اللهم اغفر للمسلمين...اللهم فرج..