الغني
كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...
العربية
المؤلف | محمد الغزالي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج - الحكمة وتعليل أفعال الله |
هذه هي رحلة الحج، أو حكمة الحج، وما من أمة من الأمم، حتى الأمم المادية التي تعبد التراب، ولا ترى وجودا لغير المادة، حتى هذه الأمم تحاول أن تستثير مشاعر المؤمنين بها، فهى تقيم "ضرائح" لطواغيتها، وتكلف الزوار الذين يجيئون إلى عواصمهم أن يترددوا على مقابر أولئك الطواغيت صفوفا منتظمة كي يؤدوا واجبا لميت يعلم الله أنه حطب لجهنم، وأنه كلب من كلاب النار ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن الحج هو الركن الخامس في أركان الإسلام الخمسة، وقد افترض الله هذا الركن على عباده، فقال جل شأنه: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران:97].
ولما كان الحج يتضمن أعمالا مختلفة، وكانت هذه الأعمال موضع تساؤل، خصوصا في هذا العصر الذي توضع الأديان فيه موضع الاتهام، ويتحرك من يسمون أنفسهم مثقفين، أو أتباع الفكر العقلي الحر، يتحرك هؤلاء ليبدوا استغرابهم لمناسك الحج، والأعمال التي يقوم المسلمون بها، ويطلبون لذلك تفسيرا يرون أنه قد يرضي عقولهم، ويشبع فضولهم.
ونحن نسوق أفعال الحج كما وردت، مع الحكمة التي اتصلت بها، وشرعت من أجلها؛ ليعلم من يجهل ما في الحج من منافع دينية ودنيوية، بأن هذه المناسك ليست أمورا غامضة، ولا أفعالا مبهمة، كما يتصور هؤلاء.
الحج -أساسا- سفر صالح، ورحلة إلى الأماكن التي درج فيها الأنبياء، وانبعث منها الوحي، وكانت مشرقا للإسلام، ومجتمعا أول للسلف الصالحين.
والمقصود من هذه الرحلة أمور عقلية وعاطفية معا، فإن الإنسان لا يعيش بالفكر النظري وحده، ولكن مشاعره وعواطفه شديدة السيطرة عليه.
والإسلام يجتهد في تحويل الإيمان من صورة عقلية تسكن الرأس إلى معان عاطفية تغمر القلب، وتتشبث بالفؤاد، وينفعل الإنسان بها، ويحيا طول عمره وفقها.
معنى صيرورة الفكر العقلي إلى عاطفة حارة هو ما يقول الله جل شأنه فيه: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7].
قد ترى عقلا أن الله موجود، ولكن هذه الرؤية العقلية لا تكمل إلا إذا تبعتها مشاعر عاطفية تسكن قلبك، وتجعلك تتجه إلى الله بقلب يحس عظمته، ويكرم نعمته. قد ترى عقلا أن الكذب رذيلة، وأن الشرك فضيحة، ولكن تحوُّل هذا النظر العقلي إلى إحساس نفسي يجعلك تشمئز من الشرك والرذيلة كما تشمئز من الرائحة الكريهة ومن المنظر الرديء، فإن كرهك للشر قد انتقل من معنى نظري إلى حقيقة عاطفية.
والإسلام عندما شرع مناسك الحج أراد أن يحول -فعلا- الإيمان من معان نظرية درست في الكتب، وتلقاها الناس حقائق مقررة، إلى معان عاطفية تربط الإنسان بنشأة الإسلام ونشأة المكافحين من أجل ظهوره، تجعل الإنسان يرتبط بالمواطن الأولى للوحي، وبسير الدعاة والرعاة الذين حملوا هذه الأمانات، وعاشوا بها، وعاشوا من أجلها، حتى قدموها للناس ناضجة مستوية.
هذه هي رحلة الحج، أو حكمة الحج، وما من أمة من الأمم، حتى الأمم المادية التي تعبد التراب، ولا ترى وجودا لغير المادة، حتى هذه الأمم تحاول أن تستثير مشاعر المؤمنين بها، فهى تقيم "ضرائح" لطواغيتها، وتكلف الزوار الذين يجيئون إلى عواصمهم أن يترددوا على مقابر أولئك الطواغيت صفوفا منتظمة كي يؤدوا واجبا لميت يعلم الله أنه حطب لجهنم، وأنه كلب من كلاب النار، ومع ذلك فإن سدنة هؤلاء الطواغيت يريدون أن يربطوا الجماهير والأجيال الناشئة بمبادئهم وبأحزابهم، فهم يجلبونهم ليزوروا هذه الضرائح، وليتصلوا بها، ولترتبط علاقات نفسية مع أصحاب المبادئ الذين عاشوا بها، أو قدموها لغيرهم.
هذا المعنى إلى جانب الأعياد التي تصنع مرتبطة بمعاني المبدأ المادي، وما إلى ذلك، وتسمى ذكريات وأعيادا، هذه كلها إنما شرعت في الفلسفات المادية، والبلاد المادية، كي تجعل الجماهير تثوب إلى شاخص حسي يحول الاتصال بالمبدأ إلى تكريم له، وإلى هتاف له، وما إلى ذلك مما يراد غرسه في النفوس.
والله عز وجل أراد أن يجعل المؤمنين -على اختلاف الزمان والمكان- يرتبطون بالدين الذي اعتنقوه، وهو دين التوحيد، ويريد أن يكلف القادرين منهم على أن يجيئوا للأماكن التي بدأت فيها معالم دينه تظهر؛ كي يرتبطوا نفسيا بها.
ولنأخذ المعاني معنى معنى: إن الرسالة الإسلامية، وإن بعثة محمد -عليه الصلاة والسلام- كانت استجابة لدعوة جده إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- وهما يرفعان القواعد من البيت، فإذا كانت رسالة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وإذا كانت دعائم تاريخنا مرتبطة ببناء بيت لله، فهل على أتباع هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- من حرج أو عليهم من بأس يوم يذهبون زرافات ووحدانا إلى المكان الذي بعث فيه نبيهم -صلى الله عليه وسلم- إجابة لدعوة قيلت عنده؟! (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:127-128].
ولقد بعث فينا رسولا منا إجابة لدعوة الجد الأكبر إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- أفليس من حق الأبناء والأتباع أن يجيئوا إلى هذا المكان كي يذكروا كيف انبعثت رسالتهم منه، وكيف كان نبيهم الجليل -صلى الله عليه وسلم- استجابة لدعوة قيلت وجدرانه ترتفع، وقواعده تمهد؟ ثم هذا البيت هو أول مسجد بنى على ظهر الأرض لتوحيد الله، بنى على أنقاض الوثنية التي حاربها إبراهيم طول عمره، بنى ليكون علما للتوحيد، وراية للإيمان الخالص المنزه.
أليس من حق هذا المسجد الأول أن يتبعه -بعد ذلك- كل مسجد ينشأ على ظهر الأرض؟ وأن يقف الركع السجود بساحات المساجد التي تنشأ بعد ذلك فيولوا وجوههم شطره، ويصلوا ناحيته؟ إن تكريم المسجد الأول شيء عادى، وهذا سر قوله جل شأنه: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [البقرة:149-150].إن هذه الأسباب هي التي تجعل المسلمين يرسلون وفودهم كل عام ليذهبوا إلى المسجد الأول، إلى الكعبة المشرفة: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) [المائدة:97].
ومن مراسم تحيته أن يطوفوا به سبعا، هذا الطواف سن فيه للطائفين أن يشغلوا أوقاتهم خلال كل طواف -وكل طواف من سبعة أشواط- بتسبيح الله وتحميده وتمجيده وتوقيره، ودعائه والطب منه والتضرع إليه؛ والطواف صلاة، يبدأ من مكان جعل الإسلام بداية هذا المكان الحجر الأسود، والحجر الأسود حجر عادى، لنفرض جدلا أنه نزل من أحد "النيازك" الملتهبة التي سقطت على الأرض، لنفرض أنه جاء من السماء، لنفرض ما نفرضه، إنه حجر لا يضر ولا ينفع، ومن ظن أن الكعبة تضر أو تنفع، أو أن حجرا فيها يضر أو ينفع، فهو إنسان جهول، لأن الله -جل شأنه- علمنا أن الضار النافع، الخافض الرافع، المعطى المانع، هو -جل شأنه-.
الطواف صلاة، لسان المرء فيها يلهج بذكر الله وشكره؛ وإذا كان بعض المغفلين يزعم أن تقبيل الحجر الأسود نوع من الوثنية، فليكن تقبيل الملوك والرؤساء لأعلام دولهم نوعا أيضا من الوثنية ومن عبادة الأقمشة! من قال هذا؟! إذا كان الأمر لا يعدو إلا ترجمة لمشاعر الولاء لله فليس في هذا شيء، ونحن في هذا نلتزم ما ورد.
ثم بعد الطواف يسعى المسلمون بين الصفا والمروة، والسعي بين الصفا والمروة رمز لأمر يحتاج المسلمون إليه احتياجا شديدا، فإن المعلوم من تاريخ النبوات أن أبا الأنبياء إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- جاء بامرأته هاجر، وأنه تركها وابنها الرضيع إسماعيل في هذا المكان، وكان صحراء مجدبة لا أمارة فيها على عمران، ولا دلالة فيها على حياة، وكان التصرف بهذه المثابة تصرفا مستغربا؛ حتى إن المرأة قالت لرجلها وهو يولي تاركا إياها: أين تذهب؟ ولكنه ما استطاع أن يجيب، ليس لديه شيء يقوله، إن الله أوحى اليه أن يفعل هذا، وهو ينفذ أمر الله، ولا يدرى الحكمة، فلما ألحت عليه ولم يجب قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا!.
كانت كرجلها امرأة مؤمنة صادقة، ولكن مشاعر الأمومة هزتها عندما وجدت ابنها يتلوى، يحتاج إلى الماء، فذهبت تجرى يمينا ويسارا سبعة أشواط في هذا المكان بين الصفا والمروة حتى شاء الله أن يفجر لها الملَك نبع زمزم لتشرب منه!.
ماذا نفهم من هذا؟ نفهم من هذا أن الإنسان عندما يعتمد على ربه فإنه يعتمد على مصدر القوى، ومنبع الخير، وسائق الفضل؛ وأن الإنسان إذا صدق إيمانه ربا توكله، وازدادت بالله ثقته، وضعفت علاقاته بالماديات، وليس معنى ضعف علاقاته بالماديات أن يستكين أو يتواكل، لا. إن المرأة قامت تجرى هنا وهناك حتى يسر الله لها آخر الأمر ما تحتاج إليه، لا بد من حركة، ولكن التوكل حتم، وقد سمى الله نبيه محمدا- عليه الصلاة والسلام- المتوكل. لماذا؟ لمعنىً نحن المسلمين الآن فقراء إلى إدراكه.
لقد بدأ وحيدا يدعو إلى الله، ليس في الدنيا أضعف منه، رجل يتيم مستوحش معزول عن قوى الخلق في دنيا اسودت فجاجها، وامتلأت بالظلمات وشرور الجاهلية آفاقها، كلف أن يغرس عود التوحيد ويرعاه حتى يثمر في بيئة لا تدرى شيئا عن التوحيد، وتضيق به، وتألف الشرك وتعتز به، وتقاتل دونه، ومن وراء جزيرة العرب حضارات تفسخت من الطغيان والهوى وسيادة الشهوات؛ رجل واحد هو الذي كلف أن يقاتل كل هذا الظلام حتى يبدده، ويمزق أسدافه، ويقدم للدنيا فجرها الباسم الباقي إلى الأبد!!
إنه ما جزع لأنه ضعيف القوة، أو ذليل الجانب هو وأصحابه، لا؛ لكنه توكل على الله فنصره، وجعل قوى الشر تتدحرج تحت أقدامه، واستطاع أن يقيم دعوة التوحيد، وينشر الرسالة الكبرى، ويرعى رجاله الذين رباهم على يديه، ولقنهم دروس الحق من فمه، واستطاع أن يقضى على الباطل في الدنيا.
التوكل على الله شيء خطير، ولو أن العرب أهل إيمان، ولو أنهم -فعلا- يئسوا من الخلق واعتمدوا على الخالق؛ لنصرهم كما نصر نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، ولسقاهم كما سقى امرأة في صحراء لا تجد هي ولا رضيعها شيئا!.
إن التوكل شيء خطير، وعندما تساق الأمة إلى مكانٍ نَبَعَ الماء فيه من صحراءَ، لا ماءَ فيها ولا زرعَ ولا ضرعَ، يعرف الناس أن الانقطاع عن الله جريمة، وأن الانقطاع إليه هو الاتصال كله، وهو الخير كله.
ثم يغالب الناس الهوى، نحن نغالب الهوى، عندما يوسوس الشيطان إلينا بتذكر الله، وتذكر الله جل شأنه يجيء إلى أفئدتنا همسا، ويتحرك في قلوب المؤمنين باعث خير طيب، لكن الله يريد في سفرة الحج أن يتحول الهمس إلى صوت جهير، وأن يتحول الذكر الخافت في القلوب إلى هتاف عال، ولذلك فإن مناسك الحج تتحول كلها إلى مظاهرة ضخمة، الهتاف فيها لله وحده، والصياح باسمه.
هذا هو المقصود من الحج، وترى أن هذا هو القصد عندما تستقرئ الآيات التي تتحدث عن الحج، ولنبدأ من قوله تعالي: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [الحج:197].
الله واسع الغنى، ما يكلفه العطاء جهدا، إنها كلمة من حرفين:كن. فلو أراد أن يجعل الدنيا تحت أقدامك ذهبا وفضة فعل، إن ذلك لا يعييه ولا يتعبه، ولذلك يقول للبشر: أنتم فقراء وبخلاء، لكن أنا غنى وسمح وكريم، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة:198].
لاحظوا أن التعبير عن مناسك الحج أخذ كلمة "الذكر" دائما: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [البقرة:198-202].
ثم إن القرآن لم يسم رمى الجمرات رمى الجمرات، وإنما ذكرا، فقال: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، لِمَنِ اتَّقَى) [البقرة:203]، يقصد أيام التشريق ورمى الجمرة -جمرة العقبة- في العيد.
ثم يقول: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) [الحج:36]، ويقول: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا، وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج:34]، ذكر الله هو الأساس في هذه المناسك كلها، يتحول المعنى الصامت المستكن في الضمير إلى هتاف عال، ولذلك يسن أن الحجاج يصيحون بالتلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا لشريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك".
وفى الحديث: "ما مِن مُلَبٍّ يلبِّى إلا لبَّى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا عن يمينه وشماله" كأن كل شيء يتحول إلى كون يسبح بحمد الله ويذكره.
يقف الناس قبل الطواف- طواف الفريضة- وقبل رمى الجمرات، يقف الناس في ساحة واسعة، يحتشد فيها مئات الألوف من الناس، ساحة واسعة يتوسطها جبل يسمى جبل الرحمة، والمفروض أن الناس طول هذا اليوم وجزءا من الليل لا عمل لهم إلا الذكر والاستغفار. مناسك الحج لا تعقيد فيها ولا صعوبة، والمقصود منها هذا المعنى العاطفي الروحي الذي شرحته لكم. لكن، هل هذا فحسب هو ما يطلبه الإسلام من الحج؟.
الواقع أن التجمع العظيم في الحج لم يدعه النبي -صلى الله عليه وسلم- سدى، ولم يترك المسلمون يحتشدون مئات ألوف في هذا المكان ليؤدوا العبادات فرادى ويرجعوا فرادى، لا؛ لقد تمت حجتان أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، حجة أولى في السنة التاسعة، كان أميرها أبا بكر- رضي الله عنه- وفى هذا الحجة لم ينقض موسمها سدى، ولم يترك التجمع الذي حدث فيها ينفض دون استغلال ديني لقضايا الإسلام.
كان المشركون أعداءُ الله من عبَدة الأصنام، ومن جحَدة أهل الكتاب، كانوا يتنمرون حول الإسلام الناهض، كانوا يبيتون له نيات الغدر، كانوا قد سالموه على غش، وعقدوا معه معاهدات على دخن، والإسلام دين شريف، دين صريح، يكره النفاق والغش، ويكره المداهنة والمراءاة، ولذلك يقول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وقد وصاه بالصراحة، وعرفه كيف يدعو إليه، يقول له: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم:9]، لا مداهنة في دين الله، ولذلك في السنة التاسعة رؤى أن يمزق الستار عن القلوب الغشاشة، وأن يقال لمن يريدون الشر بالإسلام: ويحكم! إن من يحاول العدوان علينا فلن نتركه، وقد تركناكم اثنتين وعشرين سنة، ونحن نعطيكم حق الحياة، ونرجو إلى جواركم حق الحياة، ولكنكم تريدون الحياة لأنفسكم فقط، ولجاهليتكم وشرككم.
الآن أنتم بين أمرين: أمامكم أربعة شهور، من أراد أن يبقى على شركه فليترك هذه البلاد إلى حيث ألقت، ومن بقى وفيا للعهد قبلناه، وإلا فالسيف بيننا وبينه. نزلت في السنة التاسعة سورة براءة: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة:1-3]، قرأها على بن أبى طالب -رضي الله عنه- على الناس، وكان قد أرسل بالسورة في حجة أميرها أبو بكر- رضي الله عنه- أرسل بصدر سورة التوبة ليقرأها على الناس، وانطلق المنادون وسط مضارب الخيام، ومجامع الحجيج، وملتقيات الناس يقولون: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
انتهى هذا الضلال، واستقرت كلمة التوحيد في هذه الأرض، كانت هذه هي الحجة الأولى، وكان أبو بكر- رضي الله عنه- أمير الحج يومئذ، ثم كانت الحجة الأخيرة، وكانت حجة الوداع، وكان أميرها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد خاطب الناس خطبته المشهورة، أمَّن فيها الناس على أموالهم وأعراضهم ودمائهم.
إن كل صيحة نبتت خلال القرون الأخيرة، سواء كانت صيحات حمراء أو بيضاء كانت تدور كلها حول المحافظة على حقوق الإنسان، على مال الإنسان، ودمه وعرضه. وليت المسلمين حفظوا وصايا نبيهم -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، ليتهم حفظوها! ماذا يطلب الإنسان في الدنيا إلا أن يعيش آمنا على دمه وماله وعرضه؟ لقد نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة ثم قال: "ما أطيبك! وما أطيب ريحك! ما أعظمك! وما أعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده! لَحُرْمَةُ المؤمن عند الله أعظم حرمة منك: ماله ودمه". ومع ذلك فقد قامت في بلاد الإسلام حكومات استباحت الدماء والأموال والأعراض!.
أي ترجمة لخطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا المسلك الخسيس؟ أي وفاء لتعاليم الإسلام، وأي عرض له في دنيا الناس يوم ترى بلاد الإسلام بلادا متخلفة، الحكم فيها لمن يملك القوة والسطوة، ولمن يستطيع أن يضع نفسه حيث وضعته العصابات! وغير العصابات؟!.
وفى حجة الوداع يحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على حقوق النساء، وينوه بها، ويبين ما للنساء من حقوق. ومع ذلك فإن المسلمين في كثير من القرى وبدو الصحراء، بل وفى كثير من المدن، أكلوا تراث النساء، فما ورثن كما يرث الرجال النصيب المكتوب لهن في كتاب الله. أعرف ناسا كثيرين اجتاحوه، أهدرت لهن أشياء كثيرة.
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما بنى المسجد نظر إلى أحد أبوابه وقال: "لو تركنا هذا الباب للنساء!" فسمي باب النساء، خص بهن، وكان ينبغي أن تكون هندسة المساجد في بلاد الإسلام على ما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- باب للنساء يختصصن به، منه يدخلن ومنه يخرجن، وصفوفهن قائمة بذاتها، يشهدن الصلوات الجامعة، ويتصلن بالأمة في جسمها وعقلها، وقضاياها القريبة والبعيدة، لكن المسلمين حولوا النساء إلى قواعد في البيوت، ليست لهن رسالة إلا المتعة والشهوة فقط، وكانت النتيجة أن تحكم اليهود الآن امرأة تذيق الرجال النكال!.
المسلمون يجب أن يعرفوا دينهم، وأن يتفهموا تعاليم الإسلام، وأن يدركوا الحقائق التي كتبت في كتاب الله، وفى سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأن لا يتجرؤوا عليها. نشأ عن هذا أن ناسا من العُهَّار والدُّعَّار، رجالا ونساء، أخذوا يقودون الحركة النسائية عندنا.
ونشأ عن هذا أن إحدى الصحف هاجمت ملابس الحشمة، وفى الأسبوع الماضي تبعت مجلة "المصور" زميلتها لتحارب ملابس الحشمة؛ لأن رسالة أولئك الصحفيين موعز بها من خارج البلاد لنشر جراثيم الانحلال الخلقي في بلدنا لحساب الصهيونية الزاحفة، واليهودية الحاقدة.
هؤلاء عملاء، ولكن ما كان لأولئك من صوت لو أن أهل الحق عرفوا الحق، وقاموا به، وخدموه. إن الحج ليس رحلة ميتة، إن ناسا يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكْتفِين بأن حملوا لقبا! هل درست قضاياهم؟ لا. هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلي والغزو الخارجي؟ لا. إن الحج ليس عبادة فردية، لا في ديننا ولا في تاريخنا. فيجب أن نعلم ديننا، وكفانا جهلا، حتى لا نستيقظ على الويل والثبور، وعظائم الأمور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].
وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد: فإن "مصر" الإسلامية منذ بدأت عاش فيها أهل الذمة معيشة كريمة محترمة، وتمكن الأقباط فيها من أن تكون لهم حقوق مكافئة للمسلمين ماديا وأديبا.
وليس ينتظر من المسلمين أن يغدروا، وليس ينتظر من المسلمين أن يعتدوا، وما يتوقع من المسلمين في زمان ولا مكان أن يجيء منهم عدوان أو غدر أو طغيان، ولكني أوجه النظر إلى أن الاستعمار العالمي، وهو استعمار يرتكز على أحقاد دينية وضغائن تاريخية، يريد محو الطابع الإسلامي عن "مصر"، لا يريد أن تكون "مصر" إسلامية، وكل ما أطلبه من المسلمين -أولا- أن يوفوا بعهودهم لمن لا يدين دينهم، وأطلب منهم -ثانيا- أن يتشبثوا إلى آخر رمق بكل شعبة من شعب الإيمان، وكل حد من حدود الإسلام، وكل حكم من أحكام الله، وكل معلم من معالم الشريعة؛ فإن العالم المتنمر ضدنا يتهامس فيما بينه يقول: لقد عاش الإسلام أربعة عشر قرنا، حسبه هذا، يجب أن نجهز عليه!.
إنني أنذر حتى يعلم المسلمون أن معيشتهم في يوم الناس هذا وفى الغد القريب والبعيد ستكون معيشة كدح وكفاح، ودفاع عن تعاليم الإسلام، أمام مؤامرات لا ينقصها الذكاء ولا المهارة! إننا -نحن المسلمين- نعيش أحيانا تستبد بنا الأوهام والأحلام والسذاجة التي تبلغ حد الغفلة، وإذا كان القانون المحلي لا يحمى المغفلين؛ فإن القانون العالمي لا يحمى المغفلين أيضا! ألا فلتستيقظ أمتنا، ولتؤد واجبها نحو كتاب ربها، وسنة نبيها -عليه الصلاة والسلام-.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].