الحفي
كلمةُ (الحَفِيِّ) في اللغة هي صفةٌ من الحفاوة، وهي الاهتمامُ...
العربية
المؤلف | غازي بن مرشد العتيبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إن التوازن والاعتدال لا يمكن أن يحقق إلا باتباع شرع الله -عز وجل- وامتثال أوامره واجتناب زواجره، أما اتباع الآراء المجردة عن هدي الشرع ونوره، واتباعُ الأذواقِ والأهواء المخالفة، واتباع الأعراف والتقاليد الفاسدة، فلا يمكن أن يتحقق به توازنٌ أو يحصلَ به اعتدالٌ أبدًا. وإنه ليس من التوازن والاعتدال الوقوف ..
أيها الناس: روى البخاري ومسلم عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي سألوا أزواج النبي عن عمله في السرّ، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال أقوام قالوا كذا؟! لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
إن هذا الحديث -يا عباد الله- يمثل منهجًا عظيمًا وأصلاً كبيرًا، قد بنيت عليه أحكام الدين الكلية والجزئية، وهو: التوازن والاعتدال، والقيامُ لله بالقسط، من غير تشددٍ وغلو أو تفريطٍ وتساهل، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى: 17]، فقد جاء هؤلاء النفر في الحديث السابق، وبحثوا عن أعمال النبي التي لا يطلع عليها عموم الناس، وأرادوا من شدة حرصهم على الخير أن يأتوا بأعمالٍ لم يأت بها حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقرر بعضهم أن يلزم العزوبة وأن يمنع نفسه من شهوتها التي ركبها الله فيها فلا يتزوج أبدًا، واختار آخرون أن يكفوا عن أكل اللحم أبدًا، وذهب آخرون إلى لزوم قيام الليل وعدمِ النوم على فراشٍ أبدًا، فلما علم النبي بذلك أنكره أشد الإنكار؛ لأنه مخالف لدين الله الذي أنزله على قلبه، فدين الله -عز وجل- مبني على مراعاة حظ الروح ومراعاة حظ البدن، من غير أن يطغى أحد الجانبين على الآخر، فالنبي يصلي وينام، فلا يجعل الوقت كله صلاة أو كله نومًا، ويصوم ويفطر، فلا يجعل الوقت كله صيامًا أو فطرًا، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته وأراد أن يخترع بعقله عبادةً لم يأت بها الدين فقد خالف هَدْي سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-.
وقد كان النبي يغتنم أي موقف ويهتبل أية فرصة للدلالة على هذا الأصلِ، وهو التوازن والاعتدال والإرشاد إليه، ففي الصحيحين عن أنس قال: دخل رسول الله المسجدَ وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: "ما هذا؟!"، قالوا: لزينب تصلي فيه، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: "حُلُّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر فليرقد"، وعن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله غداة العقبة وهو على ناقته: "القُط لي الحصى"، فلقطت سبع حصيات من حصى الحَذْف، فجعل ينفضهم في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا"، ثم قال: "أيها الناس: إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
أيها المسلمون: إن التوازن والاعتدال لا يمكن أن يحقق إلا باتباع شرع الله -عز وجل- وامتثال أوامره واجتناب زواجره، أما اتباع الآراء المجردة عن هدي الشرع ونوره، واتباعُ الأذواقِ والأهواء المخالفة، واتباع الأعراف والتقاليد الفاسدة، فلا يمكن أن يتحقق به توازنٌ أو يحصلَ به اعتدالٌ أبدًا.
وإنه ليس من التوازن والاعتدال -يا عباد الله- الوقوفُ في منتصف الطريق، والأخذ ببعضٍ من الحق وبعضٍ من الباطل، بل هذا يسمى في كتاب الله مداهنةً ومصانعة كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]، أي: ودوا لو تصانعهم في دينهم فيصانعوك في دينك.
وإنه ليس من التوازن والاعتدال التشددُ في غير موضع التشديد، وإدخال شيء في الدين ما نزّل الله به من سلطان من الاعتقادات المنحرفة والأفكار الضالة والتغيرات. وإنه ليس من التوازن والاعتدال التساهلُ والتفريط وتضييعُ حدود الله وانتهاكُ محارمه.
أيها الناس: إن من وفقه الله لأن يسير على الطريق الذي رضيه الله ودعا إليه فسوف يجني ثمارًا طيبة جليلة، ويحصّلُ مكاسبَ وآثارًا جميلة، ومن هذه الآثار الحسنة العظيمة دوام الأعمال الصالحة واستمرارها، كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القصدَ القصدَ تبلغوا"، ومعناه: أن من لزم الطريق المعتدلَ بلغ مقصوده من دوام العبادة وتحصيل مرضاة الله -تبارك وتعالى-.
أما اتباع الهوى والتقصيرُ في طاعة الله فيؤدي إلى الإخلال بمقام العبودية لله، وكذلك التشددُ والغلو يؤدي إلى انقطاع العمل والإخلال بمقام العبودية؛ لأن الفطرة البشرية لا تستطيع أن تصبر على ملازمة شدائد الأعمال والدوام عليها، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه".
بل إن من آثار الغلو الخطيرة أنه ينقل صاحبه إلى التساهل والتفريط، يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية -رحمه الله-: "وقد رأيت من هؤلاء خلقًا كثيرًا، آل بهم الإفراط فيما يعانونه من شدائد الأعمال إلى التفريط والتثبيط والملل والبطالة، وربما انقطعوا عن الله بالكلية، وذلك لأن أصل أعمالهم وأساسها على غير استقامة ومتابعة"، وإذا كان هذا في زمان ابن تيمية فكيف بما بعده من الأزمان؟!
فاتقوا الله -أيها المؤمنون-، واعتصموا بكتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل في اتباع دينه الخيرَ والسعادةَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعا إلى الهدى وحذر من الردى وأبدأ ذلك وأعاده، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واتبع سنته إلى يوم الورود والوفادة.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها الناس-، وتزودوا من التقوى فإنها خير زادٍ وأجمل لباس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها المسلمون: إن التشديد في الدين زيادة عليه، وإن التساهل والتفريط نقص منه، وكل منهما من أسباب الخطر والهلاك، أما التوازن والاعتدال في العقائد والعبادات والمعاملات فهو من أسباب النجاة والسلامة من الآفات. وما أحسن قول العلامةِ ابن القيم -رحمه الله-: "والآفاتُ إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها".
ومن آثار التوازن والاعتدال صلاح القلب واستقامة العمل وكثرة الخير وسعة الرزق، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) [الجن: 16]، أما الإفراط والتفريط ففيهما الضلال والزيغ وفساد السموات والأرض، كما قال سبحانه: (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71].
فتفقهوا -أيها الناس- في دينكم، وابحثوا عن أسباب نجاتكم وسعادتكم، واحذروا من أسباب سخط الله وعقابه.
وصلوا وسلموا على خير البرية...