العربية
المؤلف | صالح بن عبد الله الهذلول |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحج |
إن للحج مقاصَد شتى، وأهدافاً عظيمة، منها: الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن نبينا إبراهيم وبناؤه للبيت، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتعظميه لحرمة مكة، فيتذكر الحاج حين تردده في المشاعر، وأداءه للشعائر تردد أولئك المطهرين في تلك البقاع الشريفة، فيرتبط في ذهنه سيرهم، ويتجذر في ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: أخرج الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرمُ، ورجبُ مضَر الذي بين جمادى وشعبان".
عباد الله: إن هذا الشهر الذي نحن فيه هو شهر ذو القعدة، وهو من الأشهر الحرم، ومن أشهر الحج أيضاً.
والحج أحد أركان الإسلام، لا يتم دين المسلم إلا به، ولا يقوم إلا بأدائه؛ قال الله -عز وجل-: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين) [البقرة:97]. والسبيل: هو الزاد والراحلة.
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام رمضان".
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور". والمراد هنا أن الجهاد أفضل من الحج، أي حج التطوع، أما حج الفريضة، فإنه أفضل من الجهاد.
وروى سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، قال: "لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من كان له جدة، ولم يحج، ليضربوا عليهم الجزية؛ ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين".
وعن علي -رضي الله عنه- قال: "مَن قدر على الحج فتركه، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً".
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تعجلوا الحج
-يعني الفريضة- فإنَّ أحَدكم لا يدري ما يعرض له" قال في الإرواء: حديث حسن.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" متفق عليه.
وعنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه" متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفه".
قال النووي -رحمه الله-: المبرور هو الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية. والبر ضد الإثم. ولما سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحج، فقالوا: وما بره؟ قال: "إطعام الطعام، وإفشاء السلام، وفي رواية؛ وطيب الكلام" أخرجه أحمد والطبراني عن جابر.
أيها المسلمون: وإذا كانت فريضة الحج ووجوبه ما قد سمعتم من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- ، فإن ذلك مقيد بشروط: وهي الاسلام والعقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة؛ وهي الزاد والراحلة. ويقصد بالزاد ما يحتاجه الحاج من مأكول ومشروب في ذهابه إلى الحج ورجوعه، فاضلاً عن مسكنه ونفقة عياله وقضاء ديونه.
ومن الشروط أيضاً: المحرم للمرأة؛ للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم". فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد ان أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج، فقال -صلى الله عليه وسلم- :" أخرج معها".
والمحرم هو الزوج أو من تحرم عليه على التأبيد: بنسب كأبيها، أو بالرضاع كأخيها من الرضاعة، أو بالمصاهرة كأبي زوجها وابنهِ.
معشر المسلمين: إن للحج مقاصَد شتى، وأهدافاً عظيمة، منها: الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن نبينا إبراهيم وبناؤه للبيت، إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وتعظميه لحرمة مكة، فيتذكر الحاج حين تردده في المشاعر، وأداءه للشعائر تردد أولئك المطهرين في تلك البقاع الشريفة، فيرتبط في ذهنه سيرهم، ويتجذر في قلبه حبهم، والإقتداء بهم.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، فمررنا بوادٍ، فقال: "أي وادٍ هذا؟". فقالوا: وادي الأزرق. فقال: "كأني أنظر إلى موسى -صلى الله عليه وسلم، فذكر من لونه وشعره شيئاً لم يحفظه داود- واضعاً إصبعه في أذنيه، له جُؤارٌ أي رافعاً صوته إلى الله بالتلبية- ماراً بهذا الوادي".
قال: ثم سرنا حتى أتينا على ثنية. فقال: "أي ثنية هذه؟". قالوا: هَرْش أو لَفَتٌ. فقال: "كأني أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، عليه جُبَّة صوف، خطام ناقته ليفٌ خُلْبَةٌ، ماراً بهذا الوادي ملبياً".
ومن مقاصد الحج وأهدافه: تذكر الآخرة حين يجتمع الناس في صعيد واحد، في عرفات وغيرها ليس بينهم تفاضل ولا تغاير، الكل في البلد سواء، لا فضل لأحد على أحد فيه.
ومن مقاصده أيضاً: أن الحج شعار الوحدة، ونموذج عملي لإمكانية اتحاد المسلمين متى ما طرحوا التنافس على الدنيا، وجدّوا في إقامة دين الله، وكان هو هَمهَّم؛ ذلك لأن الناس في الحج سواسيةٌ في لباسهم وأعمالهم، وقبلتهم، وأماكنهم، لا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك، والغني والفقير، الوجيه والحقير، كلهم في ميزان واحد، هم سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت، فلا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر، ووحدة في الشعائر، "الناس من آدم، وآدم من تراب، لا فضل العربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى".
رب واحد، ونبي واحد، وقبلة واحدة، فأي وحدة أعظم من هذه. وحينما تُنقل شعائر الحج ومظاهره عبر القنوات الفضائية، ويرى العالم كله هذا المنظر، يُسرُّ به المؤمنون، ويغيظ الكافرين، والمنافقين، يرون مئات الآلاف من المسلمين تتقاطر صوب البيت العتيق، لم تدعهم حكومة، ولا هيئة، ولم يُغرهم طمع دنيوي، إنما هو محض الاستجابة لله رب العالمين.
فإذا قلب الأعداء صفحات التاريخ وجدوا هذا المنظر يتكرر سنوياً منذ دعا له الخليل -عليه السلام- وحتى الآن وإلى قيام الساعة، ولا تزال أفئدة من الناس تهوي إلى البيت العتيق الحرام، وترف إلى رؤيته والطواف به، الغنى الذي يستطيع الوصول إليه، والفقير المعدم الذي لا يجد إلا قدميه، يأتون من فجاج الأرض البعيدة.
يُبرز الحج الموالاة للمؤمنين، والمعاداة والمنابذة للمشركين، وفي هذا المنظر الرهيب رسالة إحباط لجهود المنصرين، وفيه تحدٍّ للمكر العالمي في محاصرة الاسلام وتجفيف منابع الدعوة الإسلامية، وهو يعبر عن حقيقة الموقف الإسلامي أنه لا إله إلا الله ولا معبود إلا إياه، ولا شريعة متبعة إلا ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-. وباختصار: إعلان رفض للعولمة، وخضوع واستسلام لله رب العالمين.
ولئن كانت جهود الدعوة الإسلامية قاصرةً ومقصرة، فإن في منظر الحج المشاهد عالمياً دعوةً إلى دين محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلامةً من علامات نبوته، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- : "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الاسلام، إما بعِزّ، عزيز وإما بذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزوا به، وإما يذلهم فيدينون له" رواه أحمد في المسند والبيهقي في السنن الكبرى واللفظ له.
قال الإمام الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني اليماني مترجماً شيئاً من مشاعره ومشاعر المسلمين تجاه بيت الله:
ومـا زال وفـد الله يقـصدُ مـكَّةً | إلى أن يُـرى البيـت العتـيق وركناهُ |
يطـوف به الجـاني فيُغـفَرُ ذنبـُه | ويسقُـط عنـه جُـرْمُهُ وخَـَطاياه |
فمـولى المـوالي للـزيارة قد دعـا | أنقـعد عنـها والمــَزور هـو الله؟ |
نحـج لبيـت حجـه الرسْـل قبلنا | لنشـهد نفـعاً في الكـتاب وُعِـدناه |
فيـا من أسا يا من عصـى لور أتينـا | وأوزارانا تُـرمى ويـرحمنا اللـه |
وودعـتِ الحجـاجُ بيت إلـهها | وكلـهمُ تجـري من الحـزن عـيناه |
ووالله لـولا أن نؤمـل عـودة | إليه لـذقنا المـوت حـين فُجـعناه |
وإن أصدق الحديث كلام الله إذ يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].
بارك الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله العظيم الشأن، القديم الإحسان، الباقي وكل من عليها فان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه، تفرد بالملك والتدبير والسلطان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأفضل الأديان، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: أيها المسلمون، فإن من مقاصد الحج، وأهدافه النبيلة تحقيقَ عبودية الله -جل وعز- في وقوف الحاج في المشعر ورمي الجمار مع تركه للحرم الذي هو أفضل من تلك البقاع.
ومنها: غفران الذنوب، فـ "مَن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
ومنها: فتح باب الأمل لأهل المعاصي، وتربيتهم على تركها ونبذها في تلك المشاعر، إذ يتركون كثيراً من مخالفاتهم الشرعية خلال فترة الحج وفي المشاعر.
ومنها: اكتساب تقوى القلوب وصلاحها بتعظيم شعائر الله، قال الله جل شأنه في هذا: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32].
ومنها: تربية الأغنياء بترك تميزهم في لباسهم وسكنهم، ومساواتهم للفقراء في اللباس، وأداء الشعائر من طواف وسعي ورمي، وفي هذا تربية لهم على التواضع، ومعرفة حقارة الدنيا.
ومنها: التربية على الصبر، وتحمل المشقة مِن حَرٍّ، وطول طريق، وبُعْدٍ عن الأهل والوطن، ومكابدة الزحام، والتعرض للأخطار.
وفي سعي الحاج بين الصفا والمروة، يتذكر أن من أطاع الله، وتوكل عليه، واعتصم به، فإنه لا يضيع، ويُرفع ذكره، فهذه هاجر أم إسماعيل -عليهما السلام- لما قالت لإبراهيم: آللّهُ أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: اذهب؛ فلن يضيعنا. فرفع الله ذكرها، وبدأ الناس يسعون مثلها، بما فيهم الأنبياء عليهم السلام.
ومن مقاصد الحج: تربية النفس وتعويدها على عدم اليأس من رَوح الله ورحمته، مهما اشتدت الخطوب، وعظمت الكروب، فإن الله بيده الفرج، فهذه أم اسماعيل كاد وليدها أن يهلك فأخذت تركض من جبل إلى آخر، تنشد الفرج، فأتاها من حيث لا تحتسب، إذ نزل الملَك فضرب الأرض وخرج ماء زمزم.