البحث

عبارات مقترحة:

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

الله

أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...

توديع العام

العربية

المؤلف خالد بن عبدالله الشايع
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. في تصرم الليالي والأعوام عبرة للمعتبرين .
  2. كن في الدنيا كأنك غريب .
  3. نماذج من استعداد السلف للرحيل عن الدنيا .
  4. استقبال العام الجديد بالتوبة .

اقتباس

لقد جعل الله تعالى في تصرم الأيام والليالي عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وآية وعلامة على حقارة هذه الدنيا، وأنها لا تدوم على حال، وأن مصيرها إلى الزوال، قال -جل ذكره-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ). ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعًا فينصرم العام كلمح البصر، فإذا...

الخطبة الأولى:

الحمد لله...

أما بعد:

عباد الله: لقد جعل الله تعالى في تصرم الأيام والليالي عبرة للمعتبرين، وعظة للمتعظين، وآية وعلامة على حقارة هذه الدنيا، وأنها لا تدوم على حال، وأن مصيرها إلى الزوال، قال -جل ذكره-: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ).

ألم تروا -عباد الله- إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعًا فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد فإذا بالموت: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ).

ربما يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم، وببناء الأماني قد انهدم، أخرج البخاري من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

أرشد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث إلى أن يكون المؤمن في هذه الدنيا على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى الدار الآخرة، بلد الإقامة.

فالغريب غير متعلق القلب ببلد الغربة، بل قلبه متعلق بوطنه الذي يرجع إليه، وإنما هو مقيم في الدنيا لقضاء حاجة ثم عما قريب يهم بالرجوع إلى وطنه، ومن كان في الدنيا كذلك فلا هم له إلا التزود بما ينفعه عند العود إلى وطنه.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "المؤمن كالغريب، لا يجرع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن، وللناس شأن".

كان عطاء السلمي -رحمه الله- يقول في دعائه: "اللهم ارحم في الدنيا غربتـي، وارحم في القبر وحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك".

أيها المؤمنون: إن هذه الدنيا محطة يتزود فيها العبد إلى الدار الآخرة، فالخسارة المبنية على من مضى فيها بغير الزاد، روي من كلام عيسى ابن مريم -عليه السلام- أنه قال لأصحابه: "اعبروها ولا تعمروها، وقال: من ذا الذي يبني على موج البحر دارًا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارًا".

دخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه- فجعل يقلب بصره في داره، فقال: يا أبا ذر: أين متاعكم؟! فقال: "إن لنا بيتًا نوجّه إليه صالح متاعنا"، فقال: إنه لا بد لك من متاعٍ ما دمت ها هنا، فقال: "إن صاحب الدار لا يدعنا ها هنا".

ودخل قوم على أحد الصالحين، فقلبوا بصرهم في بيته فقالوا له: كأنك مرتحل، فقال: "لا أرتحل، ولكن أُطرد عنها طردًا".

أيها المؤمنون: إن من وقع في الشهوات سكر في لذتها، وصعب عليه تركها، فعليكم بالعفة عن الشهوات والبعد عن الملذات، قال يحيى بن معاذ -رحمه الله-: "الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموت نادمًا مع الخاسرين".

عباد الله: إن الناظر في أحوالنا، يجد أننا نعمل أعمال قوم مخلدين، وكأن الموت قد كتب على غيرنا، ألا تعلمون أنكم منذ ولادتكم وأنتم إلى الدار الآخرة تسيرون، بل تساقون؟!

قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟! قال: "ما ظنك برجل يرتحل كل يومٍ مرحلةً إلى الدار الآخرة".

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "إنما أنت أيامٌ مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك"، وقال: "الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم".

وقال بعض الحكماء: "كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟!".

وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله- لرجل: كم أتت عليك؟! قال: ستون سنة، قال: "فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، يوشك أن تصل"، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: "فمن عرف أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابًا"، فقال الرجل: فما الحيلة؟! قال: "يسيرة"، قال: وما هي؟! قال: "تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي".

وقال بعض الحكماء: "من كانت الأيام والليالي إلى مطاياه سارت به وإن لم يسر".

يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه: إنما تفرح بنقص عمرك، قال أبو الدرداء والحسن -رضي الله عنهما-: يا ابن آدم: إنما أنت أيام، كلما مضى منك يوم مضى بعضك.

فعلى اللبيب العاقل أن يستعد لما أمامه، اللهم أيقظنا من الرقدات، ووفقنا لاغتنام الأوقات، ويسّر لنا الأعمال الصالحات.

الخطبة الثانية:

أيها المؤمنون: إنكم في هذه الأيام تودعون عامًا ماضيًا شهيدًا، وتستقبلون عامًا مقبلاً جديدًا، وكل يوم يمضي يشهد عليك يوم القيامة بما أودعت فيه من عمل، قال بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله-: "ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: يا ابن آدم: اغتنمني؛ لعلّه لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم: اغتنمني؛ لعله لا ليلة بعدي لك".

عباد الله: إن من رحمة الله تعالى بعبده أن يمد في عمره ويهيئ له أسباب التوبة والإقبال على الطاعة، فعليك -أخي المسلم- أن تختم سنتك بتوبة نصوح، وأن تفتش عن عيوبك وأخطائك، وتتخلص منها، فما منا إلا مذنب مقصر، فعليك بالاستعاذة من الشيطان، وعدم التسويف، واعلم علم اليقين أن ما مضى من العمر وإن طالت أوقاته، فقد ذهبت لذاته، وبقيت تبعاته، وكأنه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته، قال -جل ذكره-: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ...).

تلا بعض السلف هذه الآية، وبكى وقال: "إذا جاء الموت لم يغنِ عن المرء ما كان فيه من اللذة والنعيم".

يا من تمر عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسِنة، يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحر الخطايا ودام، يا من يشاهد الآيات والعبر كلما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور.

ألا تتوب؟! ألا تؤوب؟! ألا تعود إلى غفار الذنوب؟! وستير العيوب؟!

أيها المسلم: إياك أن تكون ممن كلما طال عمره زاد ذنبه، وكلما ابيض شعره اسود قلبه بالآثام والذنوب، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: إن الواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها، ويحال بينه وبينها، إما بمرض أو موت، فإنه لا يموت أحد إلا ندم، إن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب، فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره، قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة".

أخرج الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك".

ففي الشباب قوة وعزيمة، فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة، وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه، وثقلت عليه الأعمال، وفي الغنى راحة وفراغ، فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه وعياله، وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال، فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان.

عباد الله: اعتبروا ما بقي من أعماركم بما مضى منها، واعلموا أن كل آتٍ قريب، وأن كل موجود فيكم زائل فقيد، فابتدروا الأعمال قبل الزوال.

نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ

وأعمارنا تطوى وهن مراحلُ

ترحل من الدنيا بزادٍ من التقى

فعمـرك أيام وهـن قلائلُ

معاشر المؤمنين: على العاقل اللبيب أن يعتبر بتصرم عامه، وأنه مؤذن بزواله، فكم مضى من هذه الدنيا من حبيب، فهي طريق يسير فيه الناس، وآجالهم في الكتاب مسطورة، فهنيئًا لمن استعد للموت قبل هجومه، واتعظ بموت الآخرين!!

خليلي كم من ميت قد حضرته

ولكنـني لم أنتفع بحضـوري

وكم من ليالٍ قد أرتني عجائبًا

لهـن وأيـام خلـت وشهـور

وكم من سنين قد طوتني كثيرة

وكم من أمورٍ قد جرت وأمور

ومن لم يزده السن ما عاش عبرةً

فـذاك الذي لا يسـتنير بنور

ألا فاعلموا أن الموت تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا الحذر، وإياكم والتسويف، فكم في المقابر من الندامات!! والله المستعان.