المجيد
كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن الصادق القايدي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التاريخ وتقويم البلدان |
وهكذا ولد الإنسان الجديد النظيف في كل شيء في قلب الجزيرة العربية، ولا بد أن تنتقل صفات هذا الإنسان الجديد النظيف إلى جميع أنحاء العالم، وهذا هو هدف الإسلام أن يعمّ التوحيد أنحاء العالم، ومن هنا جاءت فكرة فتح الأندلس وإدخال نور الإسلام إليها، وهي فكرة إسلامية يقال: إنها ترجع إلى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولكنها لم تتحقق إلا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث...
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة المؤمنون: حديثنا اليوم عن أمجادٍ للإسلام مضت وذكريات انقضت، حديثنا اليوم عن الفردوس المفقود والأندلس أو ما يعرف اليوم بدولتيْ إسبانيا والبرتغال وأجزاء من فرنسا وكيف فتحت وانتشر فيها الإسلام لمدة ثمانية قرون أي: ثمانمائة سنة، ثم حين نشبت الخلافات بين الولاة والقواد والشعوب ونسوا الإسلام وتعاليمه وأصبحوا يعيشون من أجل شهواتهم ورغباتهم، واستعانوا بجيرانهم من الكفار لقتال إخوانهم وبني عمومتهم قضي عليهم جميعهم، وطردوا من إسبانيا وغرناطة شر طردة، واستخدمت ضدهم أساليب تعذيب متوحشة عرفت بمحاكم التفتيش سوف نعرض لها لاحقًا.
كانت هذه الدول قبل الفتح الإسلامي تحت حكومات ظالمة قاسية، وكانت الشعوب الأوروبية بشكل عام والإسبانية بشكل خاص مقسمة إلى طبقات مهضومة الحقوق، وتلاقي الإهمال والظلم، وتفرض عليها الضرائب والمكوس، وانقسم الشعب إلى عدة طبقات:
1- طبقة النبلاء ومنها الطبقة الحاكمة.
2- طبقة رجال الكنيسة والتي تشارك النبلاء في حكم البلاد.
3- طبقة التجار والزراع والملاك الصغار الذين يتحملون العبء الأكبر من الضرائب المختلفة.
4- طبقة عبيد الأرض الذين يتبعون مالك الأرض وتتنقل ملكيتهم من سيد لآخر.
وهكذا استمرت أوروبا في اضطراب وفساد اجتماعي، وعاشت سنين طويلة في ظلام وهمجية وقسوة، وافترستها الفوضى وطحنتها المحن زمن طويلاً.
ويحدثنا البكري في كتابه "المسالك والممالك" ويصف بعض أهالي هذه البلاد بأنهم أهل غدر ودناءةِ أخلاق، لا يتنظفون ولا يغتسلون في العام إلا مرة واحدة بالماء البارد، ولا يغسلون ثيابهم بعد أن يلبسوها إلى أن تتقطّع عليهم. ويؤكّد هذا المعنى المؤرخ الأوروبي "لين بول"، ويضيف أنهم يحرقون أنفسهم بالنار إذا مات رئيسهم، ويحرقون دوابهم ويفرحون ويَطْرَبُون عند حرق الميت. ثم يروي حدثًا في هذا شاهده، وكيف ارتضت جارية أن تموت مع سيّدها فتمر بترتيبات تشرب خلالها الخمر وتغني ويفعل بها الأفاعيل الدنيئة البشعة حتى تنتهي بعد ذلك إلى مرحلتها الأخيرة والتي تقتل فيها شرّ قتلة حيث توضع إلى جانب سيدها.
كل هذا وأمثاله كان يجري في إسبانيا وأجزاء من أوروبا في تلكم الفترة، بينما العالم الإسلامي في نفس هذه الفترة ينعم في رخاء وأمن وسعادة على هدي الإسلام الذي كرم هذا الإنسان ذكرًا وأنثى، كبيرًا وصغيرًا، من أي جنس دون تمييز، "كلكم لآدم وآدم من تراب"، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)، فكان بلال الحبشي الأسود في الإسلام أفضل من السادة، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول عن أبي بكر وبلال: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا"، يعني بذلك بلالاً، وها هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان وزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- تطوي فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجلس عليه أبوها أبو سفيان لأنه مشرك نجس.
وهكذا ولد الإنسان الجديد النظيف في كل شيء في قلب الجزيرة العربية، ولا بد أن تنتقل صفات هذا الإنسان الجديد النظيف إلى جميع أنحاء العالم، وهذا هو هدف الإسلام أن يعمّ التوحيد أنحاء العالم، ومن هنا جاءت فكرة فتح الأندلس وإدخال نور الإسلام إليها، وهي فكرة إسلامية يقال: إنها ترجع إلى عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، ولكنها لم تتحقق إلا في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث كتب إليه الوالي موسى بن نصير يستأذنه في فتحها، فأمره الخليفة بأن يرسل سرية استكشافية قبل الغزو لمعرفة أوضاع الأعداء واستعداداتهم، فأرسل موسى خمسمائة مجاهد بقيادة القائد طريف بن مالك وهو من المسلمين البربر، وعادت السرية بالأخبار المطمئنة والمشجعة على تنفيذ عملية الفتح.
فجهز موسى بن نصير جيشًا من سبعة آلاف مجاهد من المسلمين البربر، ليس فيهم من العرب إلا القليل، واختار طارق بن زياد قائدًا لهذه الحملة، وطارق هذا هو أيضًا من المسلمين البربر، وكان عسكريًا ناجحًا ومجاهدًا صلبًا ومخلصًا للإسلام ومتحمسًا لنشره.
عبر طارق بجيشه إلى منطقة جبلية وعرة عرفت فيما بعد باسم جبل طارق، وهناك تجمّع الجيش الإسلامي ووقعت عدة معارك مع قوات القوط وهم أهل البلاد، وانتصر فيها المسلمون بعد ثلاثة أيام من الاقتتال، وكان قائد الروم يسمى: "تدمير"، وقد استخلفه ملك الروم "لذريق"، وكتب هذا القائد "تدمير" إلى ملكه "لذريق" يعلمه بما حصل معه من قتال المسلمين فقال: "إن قومًا لا يدرى أمن أهل الأرض أم من أهل السماء قد وطئوا بلادنا وقد لقيتهم فلتنهض إليَّ بنفسك".
جاء هذا الخبر إلى الملك "لذريق" وهو منشغل بقمع بعض الثورات، فوقع عليه وقع الصاعقة، وبدأ يتجهز للقاء الجيش الإسلامي، ولما علم طارق بأخبار هذا التجمع كتب إلى موسى بن نصير يستنجده، فأرسل إليه جيشًا قرابة خمسة آلاف رجل، فأصبح عدد الجيش الإسلامي اثني عشر ألفًا، جميعهم من المسلمين البربر باستثناء اثني عشر رجلاً من المسلمين العرب، وهذا يذكرنا بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يهزم جيش تعداده اثنا عشر ألفًا من قلة"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
وخرج "لذريق" إلى لقاء طارق بمائة ألف فارس، ومعه العجل تحمل الأموال والكساء وهو على سرير تحمله ثلاث بغلات مقرونات، وعليه قبة مكلّلة بالدر والياقوت، ومعه أعداد دواب لا تحمل سوى الحبال لكتاف الأسرى من المسلمين، أي: لكي يربطوا بها الأسرى من المسلمين؛ لأنهم كانوا مغرورين بقوتهم وعددهم وعدتهم، وفي الحقيقة أن الجيش القوطي يفوق الجيش الإسلامي مرات ومرات في العدد والعدة، ويحارب في بلده ويعرف طرقها ومصادر الإمدادات... إلخ، إلا أن الجيش الإسلامي متفوق عليه بالروح المعنوية والعقيدة المتماسكة، ولولا هذه العقيدة وسموّ الهدف لكانت الغلبة للجيش القوطي.
ولقد بدأت المعركة في يوم الأحد 28 رمضان عام 92هـ إلى يوم الأحد 5 شوال، وكانت المعركة خلال أيامها الثمانية تزداد عنفًا في المجالدة، وقدَّم المسلمون كثيرًا من الشهداء، وكانت قلة منهم يركبون الخيل، بينما توفر لجيش القوط الكثير من الخيل، فحينما رأى طارق ما الناس فيه من الشدة قام فيهم خطيبًا، فحمد الله -سبحانه وتعالى- وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حثّ المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة، ثم قال: "أيها الناس: أين المفر؟! البحر من ورائكم، والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، وأنا فاعل شيئًا فافعلوا كفعلي، والله لأقصدَنَّ طاغيتهم، فإما أن أقْتُلَه وإما أن أقتل دونه، فاحملوا معي"، فاقتتلوا قتالاً شديدًا حتى ظنوا أنه الفناء، وصبر الفريقان جميعًا صبرًا عظيمًا، وامتن الله على المسلمين بالنصر وقتل "لذريق"، وشتت الجيش القوطي، وخذلهم الله وزلزل أقدامهم، وتبعهم المسلمون بالقتل والأسر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهكذا -أيها الإخوة- تم قتل "لذريق" ملك الروم، وكانت هذه المعركة فاصلة، غَنم فيها المسلمون غنائم كثيرة، ولم يلق المسلمون بعد هذه المعركة مثل هذا التجمع الكثيف، واستمر الفتح عنوة لمدن قرطبة ومالطة وغرناطة وإشبيلية وطليطلة، وعامل المسلمون أهل هذه المدن بكل إنصاف، تاركين لهم حريتهم كاملة، وتلك طبيعة الفتح الإسلامي التي لازمت جميع الفتوحات، وهذا مما يحبب أهل البلاد المفتوحة في الإسلام فيعتنقونه لأنهم اعتادوا في حروبهم مع أعدائهم التقليدين بأن الأعداء يبالغون في النهب والقتل ويعرضون الإتاوة ويأسرون النساء ويعملون شتى أنواع التعذيب، بعكس المسلمين الذين لم تشغلهم الكنوز الكثيرة التي وجدوها ولا السراري والجواري التي ملكوها عن العدل والإنصاف معهم لأنهم أهل عقيدة، وما غزوهم إلا لنشر دين الله وليس لأهداف استعمارية.
ولقد تمكن الوالي موسى بن نصير والقائد طارق بن زياد في فتح معظم الأندلس وأجزاء من بلاد الفال أو ما يسمى اليوم بفرنسا في أقل من أربع سنوات، ومن ثم جاءت الأوامر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لموسى وطارق بإيقاف الجهاد والاكتفاء بما تمّ فتحة والعودة إلى دار الخلافة في دمشق، وحين عودتهما كان الخليفة الوليد في مرض الموت، وتوفي وخلفه أخوه سليمان بن عبد الملك الذي أكرم موسى بن نصير وأخذه معه للحج، إلا أن موسى توفي في طريقه للحج في المدينة النبوية وعمرة 78 سنة، قضى معظمها مجاهدًا في سبيل الله مؤمنًا نقيًا متحمّسًا لنشر الإسلام وحمل رايته إلى كل مكان، وكان قد سأل الله -عز وجل- أن يرزقه الشهادة في سبيله أو يموت في المدينة، فاستجاب الله دعاءه فقبضه في المدينة وهو ذاهب إلى الحج، رحمه الله رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته.
ثم صلوا وسلموا على من أرسله الله رحمة للعالمين؛ نبينا محمد كما أمركم بذلك ربّ العالمين حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
لبيك اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين...