العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | صالح محمد الونيان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات |
ومن الصدقة الجارية التي تنفع الإنسان بعد وفاته الوصية، وهي التبرع بالمال بعد الموت، ولتصرف بالحق؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة:180]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن الله قد بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- هاديًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه، وسراجًا منيرًا، فبلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين.
وكان مما قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات الإنسان، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
عباد الله: ومن الصدقة الجارية التي تنفع الإنسان بعد وفاته الوصية، وهي التبرع بالمال بعد الموت، ولتصرف بالحق؛ قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة:180]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
وقال –صلى الله عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به أن يبيت ليلتين إلا وصيته مكتوبة عنده".
فدل هذا الحديث على المبادرة بالوصية وكتابتها.
وذكر ابن قدامة -رحمه الله- إجماع أهل الأمصار في جميع الأعصار على مشروعية الوصية.
عباد الله: وتتأكد المبادرة بالوصية إذا كان المسلم في حالة خطر، كاستقبال سفر، أو اشتداد مرض، وركوب بحر، ومثله الجو، والمراكب الخطرة، ودخول المعركة.
عباد الله: ومن الوصية ما تجب كتابته، ومنها ما تستحب؛ فأما ما تجب كتابته، فيجب على الإنسان أن يوصي بوفاء ما عليه من حقوق، سواء أكانت تلك الحقوق للعباد، كالديون التي ليس عليها إثبات ولا يعلمها إلا هو، وكذلك ما عنده من الودائع والأمانات، أم كانت الحقوق لله، كالكفارات، والحج الفرض، والزكاة التي لم يخرجها، فيوثق ذلك بكتابة، حتى لا يضيع حق غيره، ولا يدخل على الورثة ما ليس لهم، ومثله إذا كان له حق على أحد، ولم يستوفه، ولم يسامحه به في حال صحته، فيجب أن يوثقه، حتى لا يضيعه على ورثته، وحتى لا يتسبب لمن هو في ذمته بأكل ما ليس له، فلربما ينسى، ولربما يضيع اسم الغريم فلا يعرف من وراء الميت، وهذا ما يحدث كثيرًا.
وأما حالة استحبابها، فيستحب أن يوصي المسلم من ماله لنفسه إذا كان له مال، ليجري ثوابه بعد موته، لحديث: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
وأما إن كان ماله قليلاً وورثته فقراء، فيكره له أن يوصي بشيء من ماله، لحديث سعد بن أبي وقاص: "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"، ولأنه عدول عن الأقارب المحتاجين إلى الأباعد، وذلك خلاف الأفضل.
وأما الوصية لأحد الورثة، فمحرمة؛ لحديث: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"، وإن أجازه الورثة، نفذت.
عباد الله: إن بعض الناس يخص بعض ورثته بشيء من ماله، كاستئجار عقار، أو منحة، أو منح مال أو غيره، ومن فعل ذلك، فقد عصى الله ورسوله، وتعدى حدود الله، وظلم نفسه، وظلم ورثته، حيث اقتطع من حق بعضهم لبعض.
ومن أوصى بوقف شيء من ماله على بعض ورثته دون بعض، فقد أوصى لوارث، حيث خص بعض ورثته باستقلال بما أوقفه عليهم دون الآخرين، وإذا كان لا يجوز أن يوصي لبعض ورثته باستقلال بالتصرف في العقار أو بسكن الدار شهرًا فكيف يجوز له أو يوصي بوقف ثلثه على أولاده أو ذريته دون غيرهم من بقية الورثة؟! فإن هذه وصية جائرة، يجب إبطالها والرجوع عنها، وإن كان قد كتبها وأشهد عليها!!
كيف يرضى الإنسان أن يوصي بعد موته ومغادرته الدنيا بمعصية الله ورسوله؟!
ماذا تكون إجابته إذا سئل عن ماله: من أين جمعه، وفيم أنفقه؟!
وتحرم الوصية أيضًا إذا وقعت منها المضارة، لقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ) [النساء:12]. أي: غير مدخل للضر على ورثته، ولحديث: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضاران بالوصية، فتجب لهما النار"، ثم قرأ أبو هريرة: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ)".
عباد الله: ويستحب تعجيل الوصية قبل أمارات الموت، لحديث أبي منحة، قال: قال رجل: يا رسول الله: أي الصدقة أعظم أجرًا؟! قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا".
وأما مقدار ما يوصى به، فالثلث، فلا حق له في الوصية بأكثر من الثلث، إلا إذا أجازها الورثة.
والأولى أن تكون أقل من الثلث، كالربع مثلاً، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الثلث والثلث كثير".
اصدقوا العزيمة، وتغلبوا على أنفسكم بتصحيح وصاياكم وتطبيقها على الشرع، ولا تتصرفوا فيها تصرفًا يكون وبالاً عليكم وأنتم في سعة من ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، أحمده وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
أيها المسلمون: الوصية لا تنفذ إلا بعد موت الموصي، ولهذا قال العلماء: تبطل الوصية برجوع الموصـي فيها قبل الموت، لقول عمر -رضي الله عنه-: "يغير الرجل ما شاء في وصيته". فللموصي أن يغير في وصيته ويبدلها بما شاء حال حياته، وله تغيير الوصية، حكى ابن المنذر الإجماع على بطلانها بذلك.
عباد الله: وتثبت الوصية إذا وجدت بخط الموصي الثابت ببينة، أو إقرار الورثة، أو تثبت الوصية بالبينة.
ويستحب الإشهاد على الوصية، سواء كتبها بنفسه، أو كتبها غيره حسب إملائه.
ويستحب أن يعين الموصي شخصًا يتولى جميع تركته، وإخراج الواجب عليه، وتنفيذ وصاياه.
وينبغي أن يكون من يعين مسلمًا بالغًا عاقلاً عدلاً رشيدًا، سواء أكان من أولاد الموصي أم أقاربه، أم كان بعيدًا عنه.
ويستحب قبول الوصية لمن قوي عليها ووثق من نفسه القيام بها؛ لأن قبولها فيه نفع للموصي وإحسان إليه.
وإذا عين المسلم من هذه صفاته، أمن من تعطيل الوصية، فإن هناك بعض الوصايا معطلة، لا ينتفع بها صاحبها الموصي ولا المحتاجين بسبب سوء تصرف الوصي أو عدم مبالاته.
عباد الله: ويبدأ الوصي بإخراج الواجب من تركة الميت، أوصى به الميت أو لم يوصِ، كفريضة حج، أو كفارة اليمين أو الظهار، أو الزكاة إذا وجبت فتوفى بإخراجها، أو نذر أوجبه على نفسه، أو دين لإنسان.
وبالمناسبة، فإني أود أن أنبّه على مسألة في أمر الدين، وهي أن بعض الناس يتوفى وعليه دين لصندوق التنمية العقاري، فيستشكل الورثة: هل يسدد في الحال أو كل قسط في حينه؟!
وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله- هذا السؤال: يقول السائل: والدي عليه دين للبنك العقاري، وقد توفي -رحمه الله-، فهل يجب علينا تسديد المبلغ كاملاً؟! أم على حسب الأقساط التي أقرها البنك، وتبرأ ذمته بذلك؟!
فأجاب -حفظه الله- بقوله: "لا يلزم تعجيل قضائها إذا التزم الورثة أو غيرهم بتسديدها في أوقاتها على وجه لا خطر فيه على صاحب الحق؛ لأن الأجل من حقوق الميت يرثه ورثته، وليس على الميت حرج في ذلك إن شاء الله؛ لأن الدين المؤجل لا يجب قضاؤه إلا في وقته، والورثة يقومون مقام الميت إذا التزموا بذلك أو التزم به غيرهم".
وينبغي أن تشمل كتابة الوصية على بيان حالة الموصي وقت الوصية، من حيث الصحة والعافية في بدنه، وبيان معتقده، وبيان ماله وما عليه وتعيين الوصي.
وقد بيّن أنس بن مالك ما كان يكتبه السلف في وصاياهم، حيث قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
وينبغي للمسلم أن يتحرى أفضل الأعمال لوصيته من أعمال البر، كمياه الشرب، وبناء المساجد وخدمتها وقضاء ديون الفقراء، والصدقة عليهم وعلى طلاب العلم الشرعي، وتعليم القرآن، وطبع الكتب الشرعية، وغيرها.