البحث

عبارات مقترحة:

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

الأعلى

كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...

وقفات مع العبودية

العربية

المؤلف فهد بن عبد الرحمن العيبان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أركان الإيمان
عناصر الخطبة
  1. الغاية من الخلق .
  2. أهمية العبادة ومكانتها .
  3. إخلال الناس بالعبادة .
  4. شروط قبول العبادة .
  5. أقسام الناس في العبادة من حيث الإخلاص والمتابعة .
  6. تخليص العبادة مما يحبطها ويفسدها .
  7. مفسدات العبادة ومحبطاتها .
  8. الحرص على مراقبة العمل .
  9. الحذر من وسوسة الشيطان وتلبيسه .
  10. عقبات يتبعها الشيطان في إظلال الإنسان .
  11. مجاهدة الشيطان ومراغمته .

اقتباس

مما ينبغي على العبد مراعاته والانتباه له في باب العبودية لله: التحرز من العدو اللدود إبليس الذي لم ييأس من صرف العبد عن عبوديته لربه، وتلبيسه عليه في عباداته، ومحاولة إيقاعه في عقبات بعضها أصعب من بعض، لا ينزل من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها. فأول ما يبدأ به من هذه العقبات: عقبة الكفر بالله، وبدينه ولقائه، وبما أخبرت به رسله. فإن نجا منها انتقل به إلى عقبة البدعة، فإن نجا انتقل به إلى عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في...

الخطبة الأولى:

أما بعد:

فإن الله -عز وجل- خلق الخلق لغاية عظيمة، هي أشرف الغايات، وأولاها بالاهتمام، ومن أجلها، بعث الله الرسل، وأنزل الكتب، وإلى هذه الغاية دعا جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم، فقال نوح لقومه: (اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف: 59].

وكذلك قال هود وصالح وشعيب وإبراهيم، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) [النحل: 36].

وقال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].

وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

إنها العبودية لله، فهي الغاية التي لا يدانيها في الشرف غاية، ولذا لا عجب أن جعلها الله وصف أكمل خلقه، وأقربهم إليه، وأعلاهم عنده منزلة في العبودية، فقال سبحانه: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)[الفرقان: 1].

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء: 1].

وقال سبحانه: (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا) [النساء: 172].

ولما كانت العبودية لله بهذه المنزلة، كان لزاماً على كل عبدٍ لله أن يتفقد حاله: هل هو ممن تنبه لعبادة ربه؟ مراقب له في حركاته وسكناته؟ يستشعر معنى العبودية لله في كل ما يأتي ويذر؟ أم هو ممن ألهاه معاشه وطلب رزقه عن غاية خلقه ومقصود وجوده؟.

ولعل الناظر في حال الناس اليوم يلحظ خللاً ظاهراً في جانب العبودية لله -عز وجل-، وغفلة عما من أجله خلقوا، ولذا لا عجب أن نرى آثار هذا الخلل في العبودية لله -عز وجل- ظاهرة في عبادات بعض الناس، ومعاملاتهم، وفي انتشار صور من المنكرات، لا يزيدها الوقت وطول الزمن إلا استفحالاً وتشكلاً.

ولعلنا نقف بعض الوقفات مع العبودية، لا تفي بالمقصود كله، وإنما هي إشارات وتنبيهات.

الوقفة الأولى: اعلم -رحمك الله-: أن العبودية لله تقوم على أصلين عظيمين لا تصلح إلا بهما ألا وهما:  الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله، قال تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف: 110].

ولذا فالناس منقسمون في العبودية بحسب هذين الأصلين إلى أربعة أقسام:

القسم الأول:: أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله وحبهم وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم.

وكذلك أعمالهم كلها موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه.

القسم الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة، فليس عمله موافقاً لشرع، وليس هو خالصاً للمعبود؛ كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله -عز وجل-.

وهذا القسم يكثر فيمن انحرف من العلماء والعباد عن الصراط المستقيم، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص، فهم أهل الغضب والضلال.

القسم الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير ما شرع الله، وشرع رسوله؛ كجهال العباد والمنتسبين إلى الزهد.

القسم الرابع: من أعماله وفق ما شرع الله، لكنها لغير الله كطاعة المرائين، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة، مأمور بها، لكنها غير خالصة، فلا تقبل.

الوقفة الثانية: في تهذيب العبودية والقصد من الشوائب التي قد تشوبها، فإن العبد وإن لم يكن مراقباً لنفسه متيقظاً لما قد يتسلل إليها من شوائب العبودية، فإنه ولا بد مع مرور الزمن يغلب ويران على قلبه.

ومن هذه الشوائب وأعظمها: الشرك بالله بأنواعه الكبير والصغير والخفي.

فالشرك بالله يهدم أصل العبودية وأساسها الذي لا يبقى بعده شيء، ولا ينفع بدونه عمل قال تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر: 65].

والرياء أو الشرك الخفي، قد يكثر عند بعض الموحدين، ولذا خافه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه، حيث قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه فقال: "الرياء"[الحديث أخرجه أحمد وحسنه ابن حجر].

فإن كان هذا في حق من هم أكمل الناس إيماناً، فما الظن بمن دونهم؟.

ومن الشوائب أيضاً: الجهل، قال ابن القيم -رحمه الله-: "إن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعل أفعالاً يعتقد أنها صلاح، وهي إفساد لعبوديته" ا. هـ.

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: "إن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، وقد قال الربيع بن خيثم: "تفقه ثم اعتزل".

ومن الشوائب التي تصيب العبودية: العادة، فالعادة إذا مازجت العبودية وصاحبتها وألفت النفس هذه العبادة أصبحت تطلبها وتأنس لها، فيعتقد صاحبها أن ذلك قربة وطاعة، وأنه محض العبودية، وما درى أن ذلك إنما هو إلف النفس وشهوتها.

وعلامة هذا أنه إذا عرض على نفسه طاعة دون ذلك، وأيسر منه وأتم مصلحة لم تؤثرها على ما اعتادته وألفته.

فالواجب على العبد أن يعبد الله على مقتضى أمره لا على ما تراه نفسه، ولا يكون الباعث له العادة.

ولا شك أن العبادة متى ما أصبحت عادة لا روح فيها، ولا استشعار للعبودية، فإنها تفقد نورها وأثرها في تزكية النفس؛ كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [العنكبوت: 45].

فالصلاة التي أمر الله بإقامتها كما شرع هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر لا الصلاة التي تؤدى بحركات اعتيادية لا خشوع فيها ولا تدبر.

الوقفة الثالثة: في مراقبة العمل: يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ومن العابدين أناس توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات دون مطالعة عيب النفس والعمل، والتفتيش على دسائسها، ويحملهم على استكثارها رؤيتها، والإعجاب بها، ولو تفرغوا لتفتيشها ومحاسبة النفس عليها لشغلهم ذلك عن استكثارها، ولأجل هذا كان عمل العابد القليل المراقبة لعمله خفيفاً عليه، فيستكثر منه، ويصير بمنزلة العادة، فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب وتنقيتها من الكدر، وجد لعمله ثقلاً كالجبال، وقل في عينه، ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله والقيام بأعبائه والتلذذ والتنعم به مع ثقله.

وإذا أردت فهم هذا القدر كما ينبغي فانظر وقت أخذك في القراءة، إذا أعرضت عن تدبرها وتعقلها، وفهم ما أريد بكل آية والتقيد بها كيف تدرك الختمة بسهولة وخفة مستكثراً من القراءة.

لكن إذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد والتعبد به وتنزيل دوائه على أدواء قلبك والاستشفاء به فإنك لا تكاد تجاوز السورة والآية إلى غيرها.

وكذلك إذا جمعت قلبك كله على ركعتين أعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والخشوع والمراقبة لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد، فإذا خلا القلب من ذلك صليت عدداً من الركعات بلا حساب. فالاستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها دليل على قلة الفقه، وقد يرى فاعلها أن له حقاً على الله في مجازاته على تلك الحسنات بالجنات والنعيم والرضوان، ولهذا كثرت في عينه مع غفلته عن أعماله لا يدري أنه لن ينجو أحد البتة من النار بعمله إلا بعفو الله ورحمته، ولا ريب أن مجرد القيام بأعمال الجوارح من غير حضور ولا مراقبة ولا إقبال على الله قليل المنفعة دنيا وأخرى"[انتهى كلامه رحمه الله].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فإنه مما ينبغي على العبد مراعاته والانتباه له في باب العبودية لله: التحرز من العدو اللدود إبليس الذي لم ييأس من صرف العبد عن عبوديته لربه، وتلبيسه عليه في عباداته، ومحاولة إيقاعه في عقبات بعضها أصعب من بعض، لا ينزل من العقبة الشاقة إلى ما دونها إلا إذا عجز عن الظفر به فيها.

فأول ما يبدأ به من هذه العقبات: عقبة الكفر بالله، وبدينه ولقائه، وبما أخبرت به رسله.

فإن نجا منها انتقل به إلى عقبة البدعة، فإن نجا انتقل به إلى عقبة الكبائر، فإن ظفر به فيها زينها له وحسنها في عينه وسوف به وفتح له باب الإرجاء، فإن نجا منها بتوبة نصوح طلبه عن عقبة الصغائر.

وهكذا يتدرج به الشيطان لعله يوقعه في عقبة من هذه العقبات كي تعيقه عن السير إلى ربه ومعبوده.

فإذا نجا مما سبق لم يبق هناك عقبة يطلبه العدو عليها سوى واحدة لابد منها، ولو نجا منها أحد لنجا منها رسل الله وأنبياؤه، وهي عقبة: تسليط جند الشيطان على المؤمن بأنواع الأذى، باليد واللسان والقلب على حسب مرتبته في الخير، فكلما علت مرتبته أجلب عليه العدو بخيله ورجله وهذه العقبة لا حيلة له في التخلص منها، فإنه كلما جدّ في الاستقامة والدعوة إلى الله والقيام له بأمره جد العدو في معاداته وإغواء جنده به، قال ابن القيم -رحمه الله-: "فهذه عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له، وقد أشار سبحانه  إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه منها قوله تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) [النساء: 100].

فمن تعبد لله بمراغمة عدوه، فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته، ومعاداته لعدوه، يكون نصيبه من هذه المراغمة، وهذا باب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول، وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان، ولاحظه في الذنب راغمه بالتوبة النصوح، فأحدثت له هذه المراغمة عبودية أخرى.

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي -صلى الله عليه وسلم- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].