المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | عبد الحليم توميات |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
إنه مشهد ما أفظعه! ومرتقى ما أصعبه! وطريق ما أعسره! اللهم أجِرْنا من النار! اللهم أجرنا من النار! اللهم أجرنا من النار! تعوذوا بالله منها؛ فإن العبد إذا قال: اللهم أجرني من النار، قالت النار لربها: اللهم أجره مني.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فإننا وقفنا معكم في الخطبة الأخيرة عندما وضع المؤمنون رحالهم في الجنة بعد سفر بعيد طويل، مليء بالمتاعب شديد.
وذكرنا لكم أوصاف الجنة ونعيمها، وفرح أصحابها وسرور أهليها، يناديهم ربهم فيها: (يا عِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءامَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) [الزخرف:68-70].
وبينما هم على تلكم الحال، وحسن المآل، على سرر متقابلين، والخدم بأطيب المآكل والمشارب عليهم يطوفون، إذ يتذكر أحدهم صاحباً له من المكذبين، وما كان يسخر به من أمور يوم الدين، والبعث والحساب، والجنة والعذاب، قال تعالى: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ) أي: أصحاب الجنة، (قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ) أي: صديق، (يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدّقِينَ * أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءنَّا لَمَدِينُونَ) أي: أنحن محاسبون؟ فينادي منادٍ: (قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَءاهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ) [الصافات:50-54].
يفتح لهم ما يرون من خلاله أصحاب النار من أصدقائهم في سواء الجحيم، أي: في وسطه، فيخاطبه الرجل من أهل الجنة: (تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات:56-57].
إنها النار، دار الذل والهوان، دار العذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، دار الأنين والعبرات؛ نار حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها وسلاسلها وأغلالها حديد؛ نار أُشعلت ثلاثة آلاف سنة، ألفا حتى احمرت، وألفاً حتى ابيضّت، وألفاً حتى اسودّت؛ فهي سوداء مظلمة.
يُلقى المشركون والعصاة في النار أمة بعدة أمة، جنّهم وإنسهم: (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن الْجِنّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ) [الأعراف:38].
وقال -تعالى-: (وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيء قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) [إبراهيم:21].
يتبرأ الأقوياء والمتكبرون من الضعفاء، فيلتفتون إلى الشيطان الرجيم وقد أحاطت به النار من كل جانب لعله يخفف عنهم، فيصرخ قائلاً: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيّ إِنّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22].
عندئذ، يصاب أهل النار بحسرة شديدة: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا ليتني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً) [الفرقان:26-29].
ويزيدهم الله حسرات إلى حسراتهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل أحد النار إلا أُري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة".
أما حر النار فشديد، ففي الصحيحين: "ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم"، وقال -تعالى-: (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ) [المدثر:26-28]، أي: تأكل اللحوم والعروق والأعصاب والجلود، ثم تبدّل غيرها ليذوقوا العذاب.
وقال -تعالى-: (كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى* نَزَّاعَةً لّلشَّوَى) [المعارج:15-16]، أي: تنزع جلدة الرأس بكاملها، وتأكل وتأكل حتى تطلع على الأفئدة، تطلع على القلوب، لا تبقى ولا تذر.
وأهون الناس عذاباً فيها هو من يجعل له نعلان من نار يغلي منهما دماغه، يُظن من صراخه ونواحه وعويله أنه أشد الناس عذاباً، وهو أخفهم.
وأما قعرها فبعيد بعيد، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة، أي: صوت شيء وقع، فقال النبي: "أتدورن ما هذا؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها"، قعرها مسافة سبعين عاماً، لذلك لا تفتأ تقول: هل من مزيد؟.
وأما سلاسلها ومقامعها وأغلالها فحديد، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ)، أي: مشدودين بعضهم إلى بعض، (سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ)، أي: ثيابهم من قطران؛ لأنه أشد مادة تلتصق فيها النار، فلا تضعف أبداً.
ولما كانت الثياب تعمّ الجسد دون الوجه قال -تعالى-: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ) [إبراهيم:49-50]، فهي محيطة بهم من كل جانب، قال -تعالى-: (فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ)، أي: فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم. ورؤوسهم؟ قال بعدها: (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج:19]، وهو الماء المغلي بشدة، ثم ماذا؟ قال -تعالى-: (وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) [الحج:21]، سياط من حديد رؤوسها معوجة، لتسحب مع كل ضربة قطعة من اللحم.
أما طعامها فزقوم، لا أبشع منها ولا أقبح، مادتها المُهْلُ، وهو ما ذاب من نحاس، روى الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!".
يأكلون منها ويأكلون وهي تغلي في البطون، حتى إذا عطشوا سقوا ماء حميماً تغلي منه بطونهم فيقطع أمعاءهم.
ويُدعَون إلى طعام آخر وهو الغسلين، عصارة أهل النار من القيح والدم والصديد، الدم الأحمر، والقيح الأخضر، والصديد الأصفر، يأكلونه رغماً عنهم كما قال: (يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم:17].
والنار محيطة بهم، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم مهاد من النار.
إنه مشهد ما أفظعه! ومرتقى ما أصعبه! وطريق ما أعسره! اللهم أجِرْنا من النار! اللهم أجرنا من النار! اللهم أجرنا من النار! تعوذوا بالله منها؛ فإن العبد إذا قال: اللهم أجرني من النار، قالت النار لربها: اللهم أجره مني.
أسأل الله العظيم أن يبارك لي ولكم في القرآن العظيم، وأن ينفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وكبير امتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وآله والسائرين على دربه ومنواله.
أما بعد: فهذه هي النار، وها هي مشاهدها قد سردناها على مسامعكم، فماذا بعد ذلك؟.
وهم على تلكم الحال، وفيهم المشركون والكفار والمنافقون والعصاة والموحدون، إذا برسول الله محمد يسجد مرة أخرى تحت العرش، ويحمد الله -تعالى- بمحامد يلهمه الله إياها حينئذ، فيقول الله -تعالى- له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل؛ يُسمع لك، وسَلْ؛ تُعْطَهْ، واشفَعْ؛ تشفّع، فيقول النبي: "يا رب! أمتي أمتي!". فيقال له: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من شعيرة من إيمان فأخرجه منها، فينطلق الحبيب المصطفى فيفعل.
ثم يرجع إلى ربه فيخر له ساجداً ويحمده بتلك المحامد، فيقال له: يا محمد ارفع رأسك...، انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فينطلق ويفعل.
ويقال لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة، وهذه الشفاعة تكون للنبي، ثم لسائر إخوانه المرسلين، ثم للملائكة والشهداء والعلماء والصالحين، إذ يقولون: ربنا! إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا! فيقول الله لهم: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتون ويجدون بعضهم قد غاب في النار إلى قدميه، وبعضهم إلى أنصاف ساقيه، وبعضهم إلى أكثر من ذلك، فيخرجون من عرفوا، ويعرفونهم بعلامة السجود، فإن النار تأكل كل شيء إلا علامة السجود، فقد حرمها الله على النار.
ثم يعودون فيقال لهم: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقال لهم: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون.
فيقول الجبار حينئذ: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيُخرج قوماً قد امتُحِشوا -أي: احترقوا- فيلقون في نهر في الجنة يقال له: ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، وبأعناقهم خواتيم، أي: علامات فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه.
هذا جزاء من قال: "لا إله إلا الله" مخلصاً من قلبه، ولم يشرك بالله شيئاً، فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وهذا أوان المغفرة لهم، أنجاهم من نار الجحيم، هذا لمن وحد الله -تعالى- فلم يدع معه غيره، ولم يذبح لغيره، ولم ينذر لغيره، ولم يصدّق كاهناً ولا عرّافاً، ولم يرتكب أي ناقض من نواقض الإيمان.
يدخلون الجنة في آخر أمرهم، ويقال لهم: "الجهنميون". هنا (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) [الحجر:2].
بعدما يخرج من النار من كان يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً، ويدخلون الجنة، يأمر الله -تعالى- أن يؤتي بالموت على صورة كبش أملح، ويجعل بين الجنة والنار، ثم ينادي منادٍ: "يا أهل الجنة"، فيفزعون خوفاً من أن يخرجوا منها، وهي آخر فزعة، وينادي: "يا أهل النار"، فيفرحون طمعاً في الخروج من النار، فيذبح الموت، ويقول المنادي: "يا أهل الجنة، خلود فلا موت، يا أهل النار، خلود فلا موت".
فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالأرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَـالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاواتُ وَالأرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:106-108].
وترى أهل النار يصرخون وينوحون ويدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ينادون الملائكة: "واثبوراه! واثبوراه!"، فتقول الملائكة: (لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً) [الفرقان:14].
فينادون مالك خازن النار: (يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) [الزخرف:77]، قال ابن عباس: يمكث ألف سنة لا يجيبهم ربهم ينتظرون، ثم يقول: (إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ)، فيدعون الله -تبارك وتعالى- حينئذ: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ) [المؤمنون: 107-108].
قال النبي: "إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم" أي: مكان الدمع.
ثم يأتي النعيم الأعظم في الجنة، يأتي الله -تبارك وتعالى- ويقول لأهل الجنة: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ربنا، ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّينا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب عن وجهه سبحانه، فينظر أهل الجنة وهم في صعيد واحد إلى وجه ربهم حقيقة، لا يضامون في رؤيته، ينظرون إلى الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم، ينظرون إلى من ركعوا له وسجدوا له طوال حياتهم، ينظرون إلى من تحملوا كل بلاء لأجله، ينظرون إلى من استعذبوا كل عذاب طمعاً في لقائه.
قال: "فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم -عز وجل-"، وهذا قوله -تعالى-: (لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26]، الحسنى: الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه -سبحانه-، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة:23].
ويخلدون خلوداً أبدياً لا يتصوّر، في نعيم مقيم، لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون، ولأجل النظر إلى المولى -سبحانه- فليقم القائمون، وليصم الصائمون، وليتصدق المتصدقون، وليستعفف الذين هم لربهم يرهبون.
وإلى هنا: (فَرِيقٌ في الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ في السَّعِيرِ) [الشورى:7]، تنتهي رحلتنا معكم إلى الدار الآخرة، من مجيء سكرات الموت، فالقبر، فعذابه ونعيمه، ثم علامات الساعة صغراها وكبراها، فالقيامة، فالبعث والحشر، فالحساب، فإما ثواب وإما عقاب. فهل أدركت بعد كل ما سمعته لم كان يقول: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا".
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة | وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ |
سبحانك اللهم أنت الواحدُ | كل الوجود على وجودك شاهدُ |
يا حي يا قيوم أنت المرتجى | وإلى علاك علا الجبين الساجد |
يا من له عنت الوجوه بأمرها | رهباً وكل الكائنات توحد |
أنت الإله الواحد الحق الذي | كل القلوب له تُقِرّ وتشهد |
نسألك ربنا أن تؤتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وأن تقينا عذاب النار.
(رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) [آل عمران:192-193].