البحث

عبارات مقترحة:

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

التحذير من إلقاء اللوم

العربية

المؤلف سعود بن ابراهيم الشريم
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - المهلكات
عناصر الخطبة
  1. كثرة حدوث الفتن والبلايا بالأمة أمر غير عادي .
  2. موقف الأمم الواعية عند حلول النوازل .
  3. خطورة داء التلاوُم إذا حل بأمة من الأمم .
  4. مساوئ التلاوم ومفاسده .
  5. ابتعاد السلف عن التلاوم .

اقتباس

التلاوُم لا تطاوُع معه ولا اتفاق؛ بل هو خلافٌ وخِصامٌ لا خيرَ فيه؛ ولذلك فإن ظاهرةَ التلاوُم لم تكُن في أسلافِنا من قبلُ؛ لأن دواعِيَه - من الأنانية، والمُكابَرة، واللامُبالاة - لم تضرِب بأوتادِها بين ظهرانِيهم؛ إذ النفوسُ صافيةٌ، والقلوبُ مُتواضعةٌ، والشعورُ بالتقصير ديدَنُ كل واحدٍ منهم، وتقديمُ المصالِح العامَّة عندهم أولَى من المصالِح الخاصَّة.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)  [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فيا أيها الناس: إنه لا يخفَى على كل لبيبٍ سبَرَ ما حلَّ بواقع أمتِنا الإسلامية من نوازِل ومُدلهِمَّاتٍ يتبَعُ بعضُها بعضًا، إبَّان غفلةٍ من عُقلائِها، لَيُدرِكُ أن كثرتَها ليس أمرًا غيرَ اعتياديٍّ، ولا بِدعًا من الأحداث والنوازِل التي لا تأتي طفرةً دون مُقدِّماتٍ وأسبابٍ أذكَتها؛ لتحلَّ بنا أو قريبًا من دارِنا.

وهذه الأحداث - أيًّا كان لونُها وحجمُها - فإننا جميعًا لسنا مُبرَّأين من كونِنا سببًا فيها من قريبٍ أو بعيد؛ لأن البارِيَ - جلَّ شأنُه - يقول:  (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ[الشورى: 30].

والأمةُ الواعيةُ المُوفَّقة هي التي تنظرُ بعين الجِدِّ تُجاه تلكُم الأحداث، فتدرُس أسبابها، وتستجلِبُ علاجَها. وهي في الوقتِ نفسِه تتقِي داءً خطيرًا لا يزيدُ المصائِبَ إلا بلاءً، وليس هو من العلاجِ في وِردٍ ولا صدر، وهو ما يُعانِي منه جُلُّ المُجتمعات في مواجهة تلكُم المصائِب والمُدلهِمَّات المُتتالية. ألا إنه: "داءُ التلاوُم".

نعم، التلاوُم الذي يزيدُ المِحَن اشتعالاً ولا يُطفِئُها. التلاوُم الناشِئُ بعد كل فشلٍ أو خسارةٍ أو مِحنةٍ؛ لتغطية الفشل به، والهروب من الاعترافِ بالخطأ والندم عليه، والعزم على عدم تكراره.

نعم، إنه التلاوُم الذي ينسِفُ ذلكم كلَّه، في حين إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وصفَ لنا ما يقِفُ حاجزًا دون تقدُّم هذا الداء؛ حيث قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون»؛ (رواه أحمد والترمذي).

وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «والذي نفسي بيده؛ لو لم تُذنِبوا لذهبَ الله بكم، وجاء بقومٍ يُذنِبون فيستغفرون الله فيغفرُ لهم»؛ (رواه مسلم).

التلاوُم - عباد الله - صورةٌ من الإنكارِ السلبيَّة؛ إذ ليس هو توبيخًا إيجابيًّا، ولا عتابًا محمودًا، وإنما هو جزءٌ من الأنانية والأثَرَة؛ إذ كلُّ شخصٍ يُلقِي باللائمة على الآخر مع أنهما مُخطِئان جميعًا، لكنها المُكابَرة، والهروبُ من المسؤولية، والتقاعُسُ عن الإصلاح، على حدِّ قولِ من قال: "رمَتني بدائِها وانسلَّت".

التلاوُم - عباد الله - هو إلى الخِصام أقربُ منه إلى النُّصح والإصلاح؛ لأن المصائِب تُنشِئُ تدارُسَ العلاج، والتلاوُم يَئِدُه في مهدِه، وهو صورةٌ من صُور إفلاسِ المُجتمعات في التعامُل مع مصائِبِها ونوازِلها الحالَّة بها. وهو غالبًا ما يكونُ في رميِ الآخر بما تلبَّسَ به الرامِي نفسُه.

لذلك لم يأتِ التلاوُم في كتاب الله محمودًا، ثم إن التلاوُم ليس مثلَ اللَّوم؛ إذ اللَّوم يكونُ من جهة الناصِح إلى المُخطِئ، بخلافِ التلاوُم فكِلا المُخطِئَين يُلقِي باللائمة على الآخر، وهنا مكمَنُ التعامِي عن التصحيح.

إن أعظمَ نصرٍ للعدوِّ المُتربِّص: هو أن يرَى خصومَه في حالةٍ يُرثَى لها؛ من سُكر التلاوُم الذي ينقُضُ عُرَى التلاحُم في المُجتمع الواحد، فتقعُ شماتتُه على صرخات تلاوُمهم حتى ينتشِي.

لذلك كان لزامًا على عُقلاء المُجتمعات أن يتَّقوا هذه الخصلة الذَّميمة التي تُعمِي وتُصِمُّ، وربما فقأَت العين ولم تقتُل الصيدَ؛ إذ بالتلاوُم تتسعُ هُوَّة الخلاف حتى تصِل إلى درجة التخوين في الدين والأمانة والخُلُق، ومن ثمَّ تتفاقَم إلى تبلُغ حدًّا يتعذَّرُ معه الالتقاءُ والتوادُّ والتراحُم، والشعورُ بالمسؤولية الواحدة للمُجتمع المُسلم الواحد.

وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وحدة أمة الإسلام: «وهم يدٌ على من سِواهُم»؛ (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه).

عباد الله: إن ذمَّ التلاوُم والتحذير منه لا يعنِي أبدًا تركَ التناصُح والتصحيح تحت ظِلال الإخلاص، والرِّفق واللِّين، والهمِّ الواحد للدين الحقِّ، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53].

وإن من وعَى ذلكم - عباد الله - فسيُدرِك حجمَ المسؤولية على عاتِقه وسط الفتن والزوابِع التي تسَّاقَطُ على أمتنا كالحجارة، أو هي أشدُّ قسوة.

لذلكم كان التلاوُم زيادةً في القسوة، وفِرارًا من الاعترافِ بالخطأ، واشتغالاً بتكبير ما مقامُه التصغير، أو تصغيرُ ما مقامُه التكبير، كمن يهتمُّ بالدُّمَّل ويدَعُ الورَم. في حين إن الواجِب على كل واحدٍ منَّا النظرُ في دواعِي المِحَن: هل هي خُلُقيَّة، أو دينية، أو ثقافية، أو تربوية، أو هي مُركَّبةٌ منها جميعًا؟!

ومن ثمَّ البحثُ عن العلاج والدواء، بناء على تشخيصِ هذا الداء، وإلا فسيحلُّ التلاوُم محلَّ ذلكم كلِّه، فيضيعُ بسببِه كلُّ علاجٍ نافعٍ، وتضيعُ المسؤوليَّةُ برُمَّتها، فما هو إلا الشقاءُ بعد ذلكم ما منه بُدٌّ.

ورحِمَ الله مالكَ بن دينار؛ حيث جلسَ في درسِه فوعظَ الناسَ حتى بكَوا جميعًا، ثم التفَت إلى مُصحفِه فلم يجِده، فقال: "كلُّكم يبكِي؛ فمن سرقَ المُصحَف؟!".

وهكذا هي الحالُ - عباد الله - بالمُتلاوِمين؛ إذ يضيعُ بتلاوُمهم الشعورُ بالمسؤولية، والاعتراف بالخطأ، هكذا سبَهللاً بلا خِطامٍ ولا زِمام، والله - جل وعلا - يقول: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران : 165].

باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.

وبعد: فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن المُهمَّات العظيمة والمصالِح المُشتركة لأمة الإسلام لا ينبغي أن يغشاها التلاوُم؛ لأن الأمور الكبيرة لا يحتمِلُها إلا النفوسُ الكبيرة، وقد أوصَى النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعاذَ بن جبلٍ وأبا موسى الأشعريَّ - رضي الله تعالى عنهما -، حين بعثَهما إلى اليمن داعِيَين إلى الله، فقال لهما: «تطاوَعا ولا تختلِفا»؛ (رواه البخاري ومسلم).

والتلاوُم - عباد الله - لا تطاوُع معه ولا اتفاق؛ بل هو خلافٌ وخِصامٌ لا خيرَ فيه. ولذلك - عباد الله - فإن ظاهرةَ التلاوُم لم تكُن في أسلافِنا من قبلُ؛ لأن دواعِيَه - من الأنانية، والمُكابَرة، واللامُبالاة - لم تضرِب بأوتادِها بين ظهرانِيهم؛ إذ النفوسُ صافيةٌ، والقلوبُ مُتواضعةٌ، والشعورُ بالتقصير ديدَنُ كل واحدٍ منهم، وتقديمُ المصالِح العامَّة عندهم أولَى من المصالِح الخاصَّة.

وقد كان همُّهم التِماسَ رِضا الله والبُعد عما يُسخِطُه، فحسُنَت حالُهم، وأصلَح الله شأنَهم، فلم يحِلَّ بهم مُعضِلةٌ إلا خرجوا منها كما تخرجُ الشعرةُ من العجين، فهم لم يكونوا ملائكةً، وليسُوا مُنزَّهين من الخطأ؛ بل يُخطِئون ويُصيبُون، فيتوبون إذا أخطأوا، ويشكُرون إذا أصابُوا.

لكننا قد خالَفنا نهجَهم، فصدقَ فينا قولُ ابن مسعودٍ - رضي الله تعالى عنه -: "يأتي على الناس زمانٌ أفضلُ أعمالهم بينهم: التلاوُم" (رواه أبو داود).

تلك هي حالُهم - عباد الله -، فما نحن صانِعون بحالِنا؟!

إذا حلَّ بالأقوامِ يومًا بليَّةٌ

فخيرُ علاجٍ للبلاءِ التحاكُمُ

إلا قولِ مولانا وسُنَّةِ أحمدٍ

وبِئسَ عِلاجُ المُخطِئين التلاوُمُ

هذا، وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكَته المُسبِّحةِ بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المُؤمنون -، فقال - جل وعلا -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك، صاحبِ الوجه الأنور، والجَبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فاشغَله بنفسِه، واجعل كيدَه في نحرِه يا سميع الدعاء.

اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافك واتقاك واتبَع رِضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام. (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكُركم، واشكرُوه على نعمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلمُ ما تصنَعون.