الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | عبدالله بن حسن القعود |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الحياة الآخرة |
فلكم شهدت الدنيا كثيراً وكثيراً ممن عمروها أكثر مما عمرناها نحن، من كانوا فيها أعزة أقوياء أغنياء, قادرين على كثير مما يشاؤون؛ من إصلاح وأمر ونهي, فتعجلتهم أحداثها قبل ذلك، أو طوتهم المنون، فحيل بينهم وبين ما يشتهون، لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وأصبحوا مرتهنين ينتظرون وضع الموازين من لدن أحكم الحاكمين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، أحمده سبحانه وأتوكل على الحي الذي لا يموت، وأسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فيقول الله -سبحانه وتعالى-: هو (الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم:40].
عباد الله لقد أوجدنا -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا من عدم، وأسدى علينا تعالى فيها ألواناً شتى من أنواع النعم، وأبلغنا فيها بأوامر وزواجر، وأخبرنا أننا سنموت بعد الميتة التي كتبها تعالى علينا، ثم سيحيينا بعد حياة البعث والنشور, والجزاء والحساب, والثواب والعقاب على ما كان لتلكم الأوامر والنواهي من أصداء وآثار في نفوسنا وواقع حياتنا (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2].
ولقد أنذرنا بذلكم نذر الزمان، ووعظتنا به من قبل مواعظ القرآن, التي كثيراً ما تقرع أسماعنا قرعاً، والتي لو أنزلت على جبل لرأيتموه خاشعاً متصدعاً. يقول سبحانه-: (الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ) [القارعة: 1 - 11] ويقول: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء:1-3].
فهل من مدكر -أيها الأخوة-: فلقد جاءنا -وأيم الله- من الأنبياء ما فيه مزدجر، جاءنا ما ينذر بتصرم الأيام, وتقصم الأعمار قيد المنون كما تشاهدون, مرسلة آناء الليل وآناء النهار, جاءنا ما ينذر ويذكر بنهاية كل منا، ورجوعه إلى الله ومساءلة الله له عما ولاه فيه, مهما طال عمره أو كان أمره, (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [العنكبوت:57] (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ* بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات:24-26].
ولا عجب!!, فلكم شهدت الدنيا كثيراً وكثيراً ممن عمروها أكثر مما عمرناها نحن، من كانوا فيها أعزة أقوياء أغنياء, قادرين على كثير مما يشاؤون؛ من إصلاح وأمر ونهي, فتعجلتهم أحداثها قبل ذلك، أو طوتهم المنون، فحيل بينهم وبين ما يشتهون، لا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وأصبحوا مرتهنين ينتظرون وضع الموازين من لدن أحكم الحاكمين وأعدل العادلين, الذي لا يظلم مثقال ذرة, (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء:40] والذي يقول وقوله الحق: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
وكم شهدنا -نحن- وفقدنا من أقران, كانوا بالأمس معنا زينة المجالس, وبهجة القلوب, وأنس النفوس، يذكروننا بالله وأيامه، قد ضمتهم اللحود, وخلت منهم ثغر الإصلاح, ومواطن الدعوة, ومواقع الركوع والسجود، ولو نطقوا لقالوا: إخواننا تزودوا؛ فإن خير الزاد التقوى, فنحن سلفكم وأنتم في الأثر، ولقد جاءكم من الأنباء ما فيه مزدجر.
فاتّقوا الله -عباد الله- وتذكروا يوم النقلة والرجوع إلى الله، وماذا ستقدمون عليه به؟، يوم أن تودعوا الثرى, ويتخلى عنكم الأهل والأصدقاء، يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها، وتُوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى، (يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) [الفجر: 24].
تذكروا ذلكم دائماً تذكر من يريد إصلاح ما به من فساد، والاستزادة كثيراً مما هو فيه من خير وبر وهدى ورشاد, وخذوا من قوتكم وعزكم لضعفكم وذلكم، خذوا من سعتكم وغناكم لضيقكم وفقركم، خذوا من عافيتكم وحياتكم لبلائكم وموتكم، خذوا ليوم تعنو فيه الوجوه للحي القيوم، ويخيب فيه من حمل ظلماً.
فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب, وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، يقول تعالى وقوله الحق: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:55-61].
ونستغفرك اللهم ونتوب إليك.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضاه، أحمده تعالى وأشكره، وأَشْهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، شهادةً أَرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثَر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، وأَشهدُ أنَّ سيّدنا ونبيَّنا محمداً عبده ورسوله, صلّى الله وبارك عليه وعلى آله وأَصْحابه وأتباعه, وسلَّم تسليماً كثيراً.
أَما بعد:
فيا أيُّها النَّاس: اتّقوا الله حقَّ تُقاته، ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا، واعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي رسول الله، وشر الأمور مُحْدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذ في النَّار، وصلّوا على أَكرم نبي وأعْظم هادٍ فقد أمركم الله بذلك في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنَفاء؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر أصحاب رسولك وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين, ودمِّر أعداء الدين, وانصرُ عبادك الموحِّدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات, وأَلِّف بين قلوبهم, وأَصلح ذات بينهم, وانصرهم على عدوّك وعدوهم, واهدهم سبل السلام.
اللهم أصلح ولاة أُمور المسلمين؛ اللهم أَرِهم الحق حقا وارزقهم اتّباعه، والبَاطِلَ باطلاً وارزقهم اجتنابه. اللهمَّ ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكِّرهم إذا نسوا وتعينهم على نوائب الحق؛ يا ربّ العالمين.
اللهمّ أَقم علَم الجِهاد، واقمع أَهلَ الشِّرك والزيغ والفساد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم إِنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم آمِنّا في أوطاننا, واستعمل علينا وعلى سائر المسلمين في كل زمان مكان من يخافك ويتّقيك يا ذا الجلال والإِكرام.
اللهم إنّا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحوُّل عافيتك وفجأةِ نقمتك وجميع سخطك.
ربنا اغفرْ لنا ولإِخواننا الذين سبقونا بالإِيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا، ربنا إنَّك رءوف رحيم. ربنا لا تُزِغْ قلوبنا بعد إذْ هديتنا وهبْ لنا من لدنك رحمةً إنَّك أنت الوهاب.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذابَ النَّار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلَّكم تذكَّرون. فاذكروا الله عظيم الجليل يذكُرْكم، واشكروه على نعمه يزدْكم ولَذِكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.