المؤخر
كلمة (المؤخِّر) في اللغة اسم فاعل من التأخير، وهو نقيض التقديم،...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
بعد أيام قليلة يرى المسلمون هلال شهر من أفضل الشهور، حبيب إلى القلوب المسلمة الطاهرة، يحبه المسلمون، ويتلهفون لإدراكه، وتسعد قلوبهم برؤياه، ويتلذذون بنهاره ولياليه، وتخشع قلوبهم وتطمئن جوارحهم في أيامه وأوقاته، تمتلئ قلوبهم فيه رحمة وإحساناً، وشفقة وحناناً، وتكسو وجوههم بشاشة وجمال، فيه يتراحم المسلمون ويتعاطفون، ويتواصلون ويتزاورون، ويحسنون وينفقون، يكثر فيه الخير ويقل فيه الشر، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين.
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه، وتوبوا إليه جميعاً -أيها المؤمنون- وراقبوه، واستعدوا ليوم ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون، قال -جل وعلا-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) [النحل:111].
عباد الله: بعد أيام قليلة يرى المسلمون هلال شهر من أفضل الشهور، حبيب إلى القلوب المسلمة الطاهرة، يحبه المسلمون، ويتلهفون لإدراكه، وتسعد قلوبهم برؤياه، ويتلذذون بنهاره ولياليه، وتخشع قلوبهم وتطمئن جوارحهم في أيامه وأوقاته، تمتلئ قلوبهم فيه رحمة وإحساناً، وشفقة وحناناً، وتكسو وجوههم بشاشة وجمال، فيه يتراحم المسلمون ويتعاطفون، ويتواصلون ويتزاورون، ويحسنون وينفقون، يكثر فيه الخير ويقل فيه الشر، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين.
هذا الشهر هو شهر رمضان، شهر الصيام والقيام للواحد الديان، شهر الذكر والتهليل والتسبيح وتلاوة القرآن، فرضه على العباد، وكتبه عليهم ربهم الكريم الرحيم، ذو الطَّول، لا إله إلا هو السميع العليم.
لم يفرضه عليهم لحاجته لذلك... فإنه -سبحانه- الغني الحميد، هو الغني وعباده هم الفقراء إليه، ولكن فرضه على عباده لحاجتهم إليه -سبحانه-، وفقرهم إليه، قال -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [البقرة:183-184]، وقال -جل ذكره-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة:185]، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق على صحته: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
لم يفرضه بشر ولم يكتبه مخلوق، وإنما الذي فرضه وكتبه وشرعه وأمر به هو الله الخالق العليم، العزيز الرحيم، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي أحاط علمه بكل شيء، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، الذي له الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكم، وإليه يرجع العباد.
أيسع المسلم -بعد ذلك- أن يترك العمل بما فرضه الله وأمر به؟ أيسعه أن يستنكف عن عبادته -سبحانه- وطاعته وطاعة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو راجع إلى ربه وواقف بين يديه لا محالة؟ ما عذره الذي سوف يعتذر به بتركه لهذه الفريضة الجليلة وانتهاك حرمتها؟ لن يجد عذراً ولن يقبل منه أي عذر، مهما كان ذلك العذر، إذ لا يسع المسلم إلا الاستجابة لله -عز وجل- ولرسوله -عليه الصلاة والسلام- في كل أمر وفي كل نهي، كما قال -سبحانه وتعالى-: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال:24].
ففي الاستجابة لله ولرسوله حياة الأبدان والأرواح، وسعادة القلوب وصلاحها، ونور الوجوه وضياؤها، وفي ترك الاستجابة لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- موت الأبدان والأرواح، وشقاء القلوب وفسادها، وظلام الوجود وكسوفها.
وانظروا -عباد الله- إلى هذه العبادة الجليلة، عبادة الصيام، لما فرضها الله على عباده المكلفين، وكتبها عليهم، وفيها ما فيها من حرمان النفس من ملذاتها وشهواتها، ومنعها من لعبها وترفها ولهوها، جعل فيها من الثواب والأجر والتكريم ما يصيّر هذه العبادة لذيذة على النفوس، هينة عليها، فالصوم جعله الله إليه وأبهم جزاءه، دون سائر الأعمال، ففي الحديث الصحيح، قال -عليه الصلاة والسلام-: "قال الله -عز وجل-: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
والرائحة التي تخرج من فم الصائم، وهي رائحة كريهة عند الناس، هي عند الله أطيب من ريح المسك، فقال -عليه الصلاة والسلام- في نفس هذا الحديث: "والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
والصائمون لهم باب يوم القيامة يقال له: باب الريان، لا يدخله سواهم؛ إكراما لهم من الله، ففي الحديث المتفق على صحته، عن سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد".
والصائم إذا صام رمضان وقامه إيمانا واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه، قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "مَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر".
هذا مع ما يحصل في الصوم من تربية للنفس على الصبر والحلم والعفو والصفح، وتحليتها بالأخلاق الحميدة، وتخليتها من الأخلاق الرذيلة، فهل من العقل أن يحرم المسلم نفسه هذه الفضائل وهذه المكرمات وهذه البشائر، ويجعلها تفوت عليه، غير مُبال بذهاب هذه العبادة ومُضي زمنها الذي قد لا يدركه مرة أخرى، وغير حاسّ بألم الحرمان وحرارة الخسران، متجرئاً على حرمة زمان هذه العبادة، بالفطر عمداً في نهارها، والكسل عن القيام في ليلها، غافلا عن الوعيد الشديد فيمن انتهك حرمتها، عاصيا الله -سبحانه وتعالى- ورسوله -عليه الصلاة والسلام- فيها؟!.
فيا سبحان الله! هو شهر واحد، وهذه مكانته وقدره عند الله، وفيه هذه الفضائل والمكرمات، ومع هذا يثقل على طائفة من المسلمين، وهو شهر واحد!.
ومع هذا تستنفر فيه شياطين الإنس والجن، وأهل الفساد والأذى، تستنفر فيه قواها، لتجعله شهر اللهو واللعب، شهر الأكل والشرب والتنوع في المآكل والمشارب، وشهر السهر على ما لا ينفع في الدنيا والآخرة، ويضر في الدين والعقيدة والخلق. هل عز على الشيطان وأوليائه من الإنس والجان، أن يتركوا إشغال المسلمين في هذا الشهر وصدهم عن استغلاله فيما يعود عليهم بالأجر والثواب؟.
عباد الله: إنكم ستجدون في طريقكم إلى الله -عز وجل- وإلى جنته ودار كرامته، قُطاعاً يقطعون عليكم هذا الطريق؛ ليمنعوكم من الوصول إلى ما تريدون من مرضات الله -عز وجل- ودار كرامته، فاحذروهم، ولا تأبهوا بهم، وتسلّحوا بالإيمان بالله -عز وجل-، وبالعلم الشرعي الذي يقيكم -بإذن الله- من الشبهات التي يلقيها عليكم قطاع الطريق الموصل لكم إلى الله ودار كرامته.
وتسلحوا بالخوف من الله، ومراقبته، والاستعداد لليوم الآخر، الذي يقيكم -بإذن الله سبحانه- من الشهوات التي يزينها لكم قطاع الطريق الموصل لكم إلى الله ودار كرامته، فكم قطعوا الطريق على سالك له فأهلكوه، وإلى صفهم وحوزتهم أدخلوه! ثم بعدما غمسوه في أوحال الأذى والقذر، ولطخوه بالسوء، تخلوا عنه، وتبرؤوا منه.
إن هذا هو فعل إمامهم وقدوتهم في الشر والسوء، الشيطان الرجيم، الذي حكا الله عنه في كتابه هذا الفعل، فقال -سبحانه وتعالى-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
وهذا فعله مع من أضله في الدنيا، وأما عن فعله مع من أضله في الآخرة قال الله -عز وجل-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم:22].
فيا من يمنّ الله عليه بإدراك شهر رمضان، إياك إياك أن يذهب عليك سُدى وعبثا! احرص على أن تقوم فيه بعبادة ربك صوما وصلاة وقراءة وذكرا وتسبيحاً؛ إيماناً بذلك واحتساباً، واحذر من دعاة الشبه والشهوات أن يصرفوك عن هذه العبادة وسائر العبادات، فنهاية أمرك وأمرهم هي الموت الذي ينتظره كل إنسان، مؤمناً وكافراً، براً وفاجراً، صالحاً وفاسداً، فخير للإنسان أن يموت على إيمان وعبادة وتقوى وطاعة وصلاح وبر ودعاء.
بعد المقدمة -عباد الله- احذروا الشر وأهله، فإن ذلك يصدكم عن ذكره وعبادته، وقد قيل: اعتزل الشر يعتزلك، واحرصوا على المجالس التي يذكر فيها الله -جل وعلا-، فاجلسوا فيها، فإن يكن أحدهم عالماً ينفعه علمه، وإن يكن غير ذلك يعلم، وإن يطلع الله -عز وجل- على أهل المجلس برحمة تصبه معهم.
واتخذوا -عباد الله- طاعة الله تجارة، تأتكم الأرباح من غير بضاعة...