الرءوف
كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...
العربية
المؤلف | محمد بن إبراهيم الشعلان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - المهلكات |
الكبر والتعاظم والتعالي والفجور؛ سمة المنافقين الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر. سمة لهم -عباد الله- إذا توفرت أسبابها، وإلا فهي تتفاعل في قلوبهم، وتغلي بها صدورهم، ولقد شابه بعض المسلمين الكفار في هذا الوصف، وهذا الخلق، وأعني به خلق التعاظم والاستهزاء والسخرية ب...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له الذي لم ينزل جليلا.
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واستغفروه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].
واشكروه سبحانه على نعمة الإسلام، واسألوه الهداية إليه، والثبات عليه إلى يوم الدين.
عباد الله: تسمعون عن التمييز العنصري، وتقرأون عنه هذا الخلق الذميم الذي اتخذه الغرب الكافر شعاراً له؛ يفرق به بين جنس وجنس، بين لون ولون، بين لغة ولغة، بين شعب وشعب؛ أساسه الذي بني عليه مادية طاغية، ومصالح دنيوية، ودين حرف، وإرضاء لنوع من البشر، ونتيجته السخرية والاستهزاء والإهانة، وإضاعة الحقوق، والنيل من الكرامة الإنسانية.
وليس هذا بغريب على المجتمع الكافر، فهل بعد الكفر ذنب؟
عودوا -عباد الله- بالذاكرة إلى الوراء إلى عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول دعوته وظهوره عندما حضر إليه أشراف قريش، وطلبوا منه أن يجلس معهم وحده، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود؛ لأنه هؤلاء ضعفاء فقراء، وبعضهم ليس نسيباً ولا حسيباُ، وهم أهل المال والنسب والشرف والحسب، فقد ثبت في صحيح مسلم بسنده عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة نفر، فقال المشركون للنبي -صلى الله عليه وسلم-: اطرد هؤلاء، لا يجترثون علينا، قال سعد: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل وبلال، ورجلان نسبت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يشاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله -عز وجل-: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الأنعام: 52].
بل أمره الله -سبحانه-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].
فالكبر والتعاظم والتعالي والفجور؛ سمة المنافقين الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، سمة لهم -عباد الله- إذا توفرت أسبابها، وإلا فهي تتفاعل في قلوبهم، وتغلي بها صدورهم، ولقد شابه بعض المسلمين الكفار في هذا الوصف، وهذا الخلق، وأعني به خلق التعاظم والاستهزاء والسخرية بغيرهم من إخوانهم، والترفع عن مجالستهم.
بل وصل الحد ببعضهم إلى ترك البداءة بالسلام عليهم، وتجنب مصافتهم في الصلاة -والعياذ بالله-، حتى أن بعضهم تنكر لأقاربه، فلا يجالسهم ولا يزورهم، ولا يسأل عنهم، ولا يجيب دعوتهم، ولا يحضر اجتماعاتهم، ولا يقابل زائرهم؛ لماذا -عباد الله-؟
لأنه صاحب مال كثير، وغيره ليس ذا مال، بل مسكينا ذا متربة، فلا يليق بالغني أن يصاحب أو يجالس أو يسلم على الفقير والمسكين، أو لأنه ذو منصب عال، ورتبة وظيفية كبيرة، لها شأن في المجتمع، وغيره ممن يترفع عليهم ليسوا في منزلته الوظيفية، أو غير موظفين، فلا يليق بصاحب الوظيفة الكبيرة، والمنصب العالي، أن يجالس هؤلاء، أو لأنه ذو نسب شريف، وذو حسب رفيع، فلا يليق به أن يجالس أو يسلم أو يرافق ذا النسب الوضيع، ومن لا حسب له.
نعم -عباد الله- في المسلمين، ولا سيما في هذا الزمان من يفعل ذلك، ولا يصدر هذا الخلق المشين، وهذا العمل السيء من هؤلاء إلا بسبب ضعف الإيمان بالله -عز وجل- أو لا، فلو كان إيمانه بالله قوياً ما ترفع على إخوانه المسلمين، مهما كانت منزلته، أو نسبه، أو جاهه، أو وظيفته، أو ماله؛ لأنه بإيمانه القوي الصادق يعلم أن الإنسان ليس بحسبه ونسبه وماله، وإنما هو بتقواه وصلاحه، كما قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات: 13].
فقد يكون هذا الفقير وهذا الوضيع أفضل منه، وأكرم عند الله -سبحانه وتعالى-، وأرفع منزلة، وأقرب رحماً، قال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
ومن الأسباب أيضا: جهل هذا بأصله الذي خلق منه، وخلق منه غيره، ممن يترفع عليه، ويسخر منه، فقد أنساه ما هو فيه من رفعة أو نسب أو جاهه الأصل الذي خلق منه، وهو الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب، كما قال سبحانه: (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق: 5 - 7].
ولو علم ذلك لا ستحي من نفسه أن يترفع على أخيه، وقد خلق هو وأخوه من هذا الماء الدافق، ولو علم أنه وأخاه الذي يترفع عليه سوف يقفان معاً في موقف واحد أمام رب العالمين، لفصل القضاء، سيقفان وجميع الخلق حفاة عراة غرلا، فلا أنساب يومئذ، ولا مناصب، ولا أموال، الجميع ينتظر الحساب والجزاء، فالسعيد والشريف من يأخذ كتابه بيمينه، ولو كان في الدنيا شقياً بفقره، وضيعاً بنسبه، والشقي والوضيع من يأخذ بشماله ولو كان في الدنيا سعيداً بماله ومنصبه، شريفاً بنسبه وحسبه: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 19- 32].
لو علم هذا ما ترفع على أخيه طرفة عين، ولا غره ماله ولا منصبه ولا نسبه.
ومن الأسباب أيضاً: غفلة هذا عن مصير المال الذي بين يديه، ومصير المنصب والوظيفة، وأن هذه الأمور مآلها إلى الزوال والفناء، فإما أن يتركها بالموت، وإما أن تتركها بالموت، وإما أن تتركه هي، فماله يفنى، ووظيفته ترتفع إلى غيره؛ لأنها لو بقيت الوظيفة لغيره ما وصلت إليه، ولو علم أن الذي يبقى معه في الحياة وبعد الممات هو التقوى والعمل الصالح، لاستعمل هذه الأمور في طاعة الله -عز وجل-، ولازداد بها تواضعا، وأعان بها محتاجاً، وفك بها كربة مكروب، قال الله -عز وجل-: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88 - 89].
الخطبة الثانية:
لنحرص -عباد الله- على التقوى، والعمل الصالح، ولنترفع عن أخلاق الكافرين والمنافقين والعصاة، ولنتخلق بخلق المؤمنين والصالحين والأتقياء، وعلى رأسهم؛ نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو أشرف الخلق نسباً وحسباً، وأرفعهم منزلة، وأكرمهم عند الله، ومع هذا كان قمة في التواضع، قمة في الأخلاق الكريمة، لا يترفع على أحد من المسلمين، ولا يسخر منهم، ولا يتعالى عليهم، وسيرته في ذلك واضحة ومعروفة.
فحري بنا -عباد الله- أن نتخلق بخلقه، ونتصف بصفاته الكريمة، وننبذ هذه الأخلاق الرذيلة، فإن التعالي والترفع والاستخفاف بالناس، يورث العداوة والبغضاء، ويزرع الحقد والكره بين الناس، ويقطع التواصل، ويوصل التقاطع، فما ظنكم بمجتمع سادت فيه هذه الأخلاق؟
لا شك أن التفكك والتفرق سيلقيان بظلالهما عليه، وحينئذ يحصل الضياع والهلاك للمجتمع.
عباد الله: ليس معنى ما تقدم أن يذل الإنسان نفسه، ويزيل شخصيته، ويرتدي مجالس اللعب والهزء، حتى لا يتجرأ عليه اللئيم، ويستخف به الكريم، ويلعب به الجاهل، ويضحك منه العامي، بل يتواضع ولا يتعالى في محل التواضع، ويلين في محل اللين، ويحفظ شخصيته ومكانته، في محل حفظ الشخصية والمكانة، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل، فقد كان قويا وشجاعاً في محل القوة والشجاعة، ليناً متواضعاً في محل اللين والتواضع، ومع هذا جعل له من المهابة والكرامة الشيء الكثير.