الله
أسماء الله الحسنى وصفاته أصل الإيمان، وهي نوع من أنواع التوحيد...
إخراج بعض الجملة بإلا، أو إحدى أخواتها من متكلم واحد . وهو إخراج شيء لاحق من أمر سابق. ومثاله : سجود الملائكة لآدم إلا إبليس . قال تعالى : ﭽﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓﭼالبقرة :٣٤
الاسْتِثْناءُ: اسْتِفْعالٌ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ، أَثْنِيهِ، ثَنْياً، بِمعنى رَدَدْتُ بعضَهُ على بَعْضٍ، وأصلُ الثَّنْيِ: العَطْفُ والصَّرْفُ، تقول: ثَنَيْتُ فُلاناً: إذا عَطَفْتُهُ وصَرَفْتُهُ عن مُرادِهِ. والاسْتِثْناءُ أيضاً: الإخراجُ، تقول: اسْتَثْنَيْتُ الشيءَ من الشَّيءِ: إذا أَخْرَجْتَهُ فَلَم تُدْخِلْهُ، ومِن مَعانِيهِ: المَنْعُ والرَّدُّ.
يَرِد مُصْطلَح (اِسْتِثْناء) في الفقهِ في عدَّةِ مواطِنَ، منها: كتاب البُيوعِ، عند الكلامِ على بَيْعِ شَيْءٍ واسْتِثْناءِ بَعْضِهِ. وفي كتاب الطلّاقِ، عند الكلام على الاستِثناءِ في عَددِ الطَّلقاتِ والمُطَلَّقاتِ. وفي باب: اليمين، وباب: العِتْق، وفي: باب: الإقرار. ويَرِد في عِلْمِ العقيدةِ، ويُراد به: قَوْلُ الـمُكَلَّفِ:"أنا مُؤْمِنٌ إِنْ شاءَ اللهُ". وفي عِلْمِ النَّحْوِ، ويُراد به: إخراجُ اسْمٍ واقِعٍ بعد أَداةِ اسْتثناءٍ مِن حُكْمِ ما قَبْلَها.
ثني
إِخْراجُ بَعْضِ ما تَناوَلَهُ اللَّفْظُ العامُّ مِنْ حُكْمِهِ بِإلّا أو إحْدى أَخَواتِها .
الاِسْتِثْناءُ في اصْطِلاحِ الفُقَهاءِ والأُصولِيِّينَ إمّا أن يكون لَفْظِيّاً أو مَعْنَوِيّاً: 1- الاِسْتِثْناءُ اللَّفْظِيُّ، وهو: إِخْراجُ بعضِ ما تَناوَلَهُ اللَّفْظُ العامُّ الوارِدُ في صَدْرِ الكلامِ وأوَّلِهِ غالِباً مِنْ حُكْمِهِ بِلَفْظِ إلاّ، أو إحدى أخَواتِها كغيْرِ، وسِوى، ولَيْسَ، وعَدا، وخَلا، وحاشا. 2- الاِسْتِثْناءُ المَعْنَوِيُّ، وهو: إِخْراجُ بعضِ ما تَناوَلَهُ صَدْرُ الكَلامِ بِغَيْرِ أداةِ اسْتِثْناءٍ، كقَوْل المُقِرِّ:" له الدّارُ، وهذا البَيْتُ منها لِي"، وإنّما أُعْطِيَ هذا النَّوْعُ حُكْمَ الاِسْتِثْناءِ؛ لأنّهُ في معْنى وقُوَّةِ قَوْلِهِ:" له جَمِيعُ الدّارِ إلاّ هذا البَيْتِ". ويَسْتَعْمِلُ الفُقَهاءُ الاِسْتِثْناءَ في كتاب الأيمان والنُّذور بِمعنى قَوْلِ القائِلِ:" إنْ شاءَ اللهُ "، بعد اليَمِين.
الاسْتِثْناءُ: اسْتِفْعالٌ مِنْ ثَنَيْتُ الشَّيْءَ، بِمعنى رَدَدْتُ بعضَه على بَعْضٍ، وأصلُ الثَّنْيِ: العَطْفُ والصَّرْفُ، ومن مَعانِيهِ: الإخراجُ.
إخراج بعض الجملة بـ"إلا"، أو إحدى أخواتها من متكلم واحد. وهو إخراج شيء لاحق من أمر سابق.
* الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي : (ص 274)
* تهذيب اللغة : (2/150)
* المحكم والمحيط الأعظم : (10/193)
* المصباح المنير في غريب الشرح الكبير : (1/85)
* البناية شرح الهداية : (5/432)
* شرح مختصر خليل للخرشي : (3/55)
* الحاوي الكبير : (10/248)
* الـمغني لابن قدامة : (5/155)
* الموسوعة الفقهية الكويتية : (3/184)
* شرح العقيدة الطحاوية : (2/498)
* معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية : (1/135)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 58) -
التَّعْرِيفُ:
1 - الاِسْتِثْنَاءُ لُغَةً: مَصْدَرُ اسْتَثْنَى، تَقُول: اسْتَثْنَيْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ إِذَا أَخْرَجْتَهُ، وَيُقَال: حَلَفَ فُلاَنٌ يَمِينًا لَيْسَ فِيهَا ثُنْيَا، وَلاَ مَثْنَوِيَّةً، وَلاَ اسْتِثْنَاءَ، كُلُّهُ وَاحِدٌ (1) .
وَذَكَرَ الشِّهَابُ الْخَفَاجِيُّ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ فِي اللُّغَةِ وَالاِسْتِعْمَال يُطْلَقُ عَلَى: التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ (2) ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} (3) أَيْ لاَ يَقُولُونَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا أَوْ حُكْمِيًّا، فَالاِسْتِثْنَاءُ اللَّفْظِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلاَّ، أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا (4) ، وَيَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ الإِْخْرَاجُ بِأَسْتَثْنِي وَأُخْرِجُ وَنَحْوِهِمَا عَلَى لَفْظِ الْمُضَارِعِ، وَعَرَّفَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّهُ: الإِْخْرَاجُ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ (5) .
وَعَرَّفَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ الْحَنَفِيُّ بِأَنَّهُ: الْمَنْعُ مِنْ دُخُول بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلاَمِ فِي حُكْمِهِ بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَعَرَّفَهُ بِالْمَنْعِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ بِالإِْخْرَاجِ؛ لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، إِذْ لَمْ يَدْخُل الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَصْلاً حَتَّى يَكُونَ مُخْرَجًا. فَالاِسْتِثْنَاءُ لِمَنْعِهِ مِنَ الدُّخُول (6) ، وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الاِسْتِثْنَاءَ أَيْضًا بِمَعْنَى قَوْل: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " فِي كَلاَمٍ إِنْشَائِيٍّ أَوْ خَبَرِيٍّ (7) .
وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا بَل هُوَ مِنْ مُتَعَارَفِ النَّاسِ. فَإِنْ كَانَ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقِيٌّ، أَوِ " اسْتِثْنَاءٌ وَضْعِيٌّ (8) "، كَأَنْ يَقُول: لاَ أَفْعَل كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ: لأََفْعَلَنَّ كَذَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، وَمِنَ الْعُرْفِيِّ قَوْل النَّاسِ: إِنْ يَسَّرَ اللَّهُ، أَوْ إِنْ أَعَانَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا التَّعْلِيقُ - وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِلاَّ - اسْتِثْنَاءً لِشِبْهِهِ بِالاِسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِل فِي صَرْفِهِ الْكَلاَمَ السَّابِقَ لَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ (9) .
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمَعْنَوِيُّ هُوَ: الإِْخْرَاجُ مِنَ الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ أَدَاةِ اسْتِثْنَاءٍ، كَقَوْل الْمُقِرِّ: " لَهُ الدَّارُ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْهَا لِي ". وَإِنَّمَا أَعْطَوْهُ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ؛ لأَِنَّهُ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: " لَهُ جَمِيعُ الدَّارِ إِلاَّ هَذَا الْبَيْتِ (10) ".
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْحُكْمِيُّ يُقْصَدُ بِهِ أَنْ يُرِدَ التَّصَرُّفَ مَثَلاً عَلَى عَيْنٍ فِيهَا حَقٌّ لِلْغَيْرِ، كَبَيْعِ الدَّارِ الْمُؤَجَّرَةِ، فَإِنَّ الإِْجَارَةَ لاَ تَنْقَطِعُ بِذَلِكَ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، فَكَأَنَّ الْبَيْعَ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ بِاسْتِثْنَاءِ مَنْفَعَتِهَا مُدَّةَ الإِْجَارَةِ.
وَهَذَا الإِْطْلاَقُ قَلِيلٌ فِي مُتَعَارَفِ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ لِلسُّيُوطِيِّ وَالْقَوَاعِدِ لاِبْنِ رَجَبٍ (11) ، إِلاَّ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لاَ يَدْخُل فِي مَفْهُومِ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَلِذَا فَلاَ تَنْطَبِقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا يَلِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّخْصِيصُ:
2 - التَّخْصِيصُ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ (12) ، فَهُوَ يُبَيِّنُ كَوْنَ اللَّفْظِ قَاصِرًا عَنِ الْبَعْضِ. وَقَال الْغَزَالِيُّ: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُفَارِقُ التَّخْصِيصَ فِي أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، وَأَنَّهُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ (13) جَمِيعًا، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَقُول: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ ثَلاَثَةً، كَمَا يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلاَّ زَيْدًا، وَالتَّخْصِيصُ لاَ يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ أَصْلاً، وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَيْضًا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِقَوْلٍ، وَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ (14) .
هَذَا وَإِنَّ الْفَرْقَ الأَْوَّل الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ مِنِ اشْتِرَاطِ الاِتِّصَال فِي الاِسْتِثْنَاءِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي التَّخْصِيصِ، لاَ يَجْرِي عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ اتِّصَال الْمُخَصِّصَاتِ أَيْضًا.
ب - النَّسْخُ:
3 - النَّسْخُ: رَفْعُ الشَّارِعِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِهِ بِدَلِيلٍ لاَحِقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاِسْتِثْنَاءِ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا دَخَل تَحْتَ اللَّفْظِ، وَالاِسْتِثْنَاءُ يَدْخُل عَلَى الْكَلاَمِ فَيَمْنَعُ أَنْ يَدْخُل تَحْتَ اللَّفْظِ مَا كَانَ يَدْخُل لَوْلاَهُ، فَالنَّسْخُ قَطْعٌ وَرَفْعٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مَنْعٌ أَوْ إِخْرَاجٌ، وَأَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَالنَّسْخَ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلاً (15) .
ج - الشَّرْطُ:
4 - يُشْبِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا الشَّرْطَ (التَّعْلِيقَ) ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكَلاَمِ مِنْ إِثْبَاتِ مُوجِبِهِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ الْكُل، وَالاِسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الْبَعْضَ.
وَيُشَابِهُ الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ الشَّرْطَ، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي مَنْعِ الْكُل وَذِكْرِ أَدَاةِ التَّعْلِيقِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِهِ؛ لأَِنَّهُ مَنْعٌ لاَ إِلَى غَايَةٍ، وَالشَّرْطُ مَنْعٌ إِلَى غَايَةِ تَحَقُّقِهِ، كَمَا فِي قَوْلِكَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي. وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لاَ يَدْخُل الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ فِي بَحْثِ التَّعْلِيقِ وَالشَّرْطِ. وَلاَ يُورِدُهُ الْفُقَهَاءُ فِي مَبَاحِثِ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ، وَإِنَّمَا فِي بَابِ الاِسْتِثْنَاءِ، لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي الاِسْمِ (16) .
5 - الْقَاعِدَةُ الأَْصِيلَةُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ:
الاِسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالاِسْتِثْنَاءُ مِنَ الإِْثْبَاتِ نَفْيٌ، فَنَحْوُ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ، وَنَحْوُ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، يَدُل عَلَى نَفْيِ الْقِيَامِ عَنْهُ،
وَفِي هَذَا خِلاَفُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَدْ قِيل: خِلاَفُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقِيل: بَل فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ، فَقَدْ قَال: إِنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، فَزَيْدٌ فِي الْمِثَال الْمُتَقَدِّمِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِقِيَامِهِ وَلاَ بِعَدَمِهِ.
وَحَاصِل الْخِلاَفِ فِي نَحْوِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا، أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ: إِنَّ زَيْدًا بِالاِسْتِثْنَاءِ دَخَل فِي عَدَمِ الْقِيَامِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ انْتَقَل إِلَى عَدَمِ الْحُكْمِ. وَعِنْدَ الْفَرِيقَيْنِ هُوَ مُخْرَجٌ مِنَ الْكَلاَمِ الأَْوَّل (17) .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَيُوَافِقُ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، أَمَّا فِي الأَْيْمَانِ فَلَيْسَ الاِسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتًا.
فَمَنْ حَلَفَ: لاَ يَلْبَسُ الْيَوْمَ ثَوْبًا إِلاَّ الْكَتَّانَ، يَحْنَثُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِذَا قَعَدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَارِيًّا فَلَمْ يَلْبَسْ شَيْئًا؛ لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّفْيُ إِثْبَاتًا فَقَدْ حَلَفَ أَنْ يَلْبَسَ الْكَتَّانَ، فَإِذَا لَمْ يَلْبَسْهُ وَقَعَدَ عَارِيًّا حَنِثَ.
أَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ فَلاَ يَحْنَثُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَوَجَّهَ الْقَرَافِيُّ ذَلِكَ بِأَنَّ (إِلاَّ) فِي هَذَا الْمِثَال وَنَحْوِهَا صِفَةٌ، فَهِيَ بِمَعْنَى غَيْرُ، فَيَكُونُ قَدْ حَلَفَ عَلَى أَلاَّ يَلْبَسَ ثِيَابًا مُغَايِرَةً لِلْكَتَّانِ.
وَوَجَّهَهُ أَيْضًا بِأَنَّ مَعْنَى الْكَلاَمِ: أَنَّ جَمِيعَ الثِّيَابِ مَحْلُوفٌ عَلَيْهَا غَيْرَ الْكَتَّانِ (18) . أَنْوَاعُ الاِسْتِثْنَاءِ:
6 - الاِسْتِثْنَاءُ إِمَّا مُتَّصِلٌ وَإِمَّا مُنْفَصِلٌ.
فَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِل: مَا كَانَ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ جَاءَ الْقَوْمُ إِلاَّ زَيْدًا.
وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ: (وَيُسَمَّى الْمُنْفَصِل أَيْضًا) مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْل قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (19) فَإِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ لَيْسَ عِلْمًا (20) .
وَيَتَبَيَّنُ مِنْ هَذَا أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، وَلاَ يَكُونُ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ؛ لأَِنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُل أَصْلاً. هَذَا وَلاَ بُدَّ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فِيمَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ. وَالْفَائِدَةُ فِيهِ دَفْعُ هَذَا التَّوَهُّمِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِ (لَكِنَّ) ، فَإِنَّهُ لِلاِسْتِدْرَاكِ، أَيْ دَفْعِ التَّوَهُّمِ مِنَ السَّابِقِ. وَأَشْهَرُ صُوَرِ الْمُخَالَفَةِ: أَنْ يَنْفِيَ عَنِ الْمُسْتَثْنَى الْحُكْمَ الَّذِي ثَبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَنِي الْمُدَرِّسُونَ إِلاَّ طَالِبًا، فَقَدْ نَفَيْنَا الْمَجِيءَ عَنِ الطَّالِبِ بَعْدَمَا أَثْبَتْنَاهُ لِلْمُدَرِّسِينَ.
وَلَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ لاَ إِخْرَاجَ بِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً حَقِيقَةً، بَل هُوَ مَجَازٌ (21) .
قَال الْمَحَلِّيُّ: هَذَا هُوَ الأَْصَحُّ، بِدَلِيل أَنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ الْمُتَّصِل دُونَ الْمُنْقَطِعِ.
وَعَلَى هَذَا جَاءَ حَدُّ الاِسْتِثْنَاءِ فِيمَا سَبَقَ، فَقَدْ عُرِّفَ بِمَا لاَ يَشْمَل الْمُنْقَطِعَ (22) وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى مَوْطِنُ تَفْصِيلِهَا كُتُبُ الأُْصُول.
صِيغَةُ الاِسْتِثْنَاءِ:
أ - أَلْفَاظُ الاِسْتِثْنَاءِ:
7 - يَذْكُرُ اللُّغَوِيُّونَ وَالأُْصُولِيُّونَ لِلاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ الأَْلْفَاظَ التَّالِيَةَ: إِلاَّ، وَغَيْرَ، وَسِوَى، وَخَلاَ، وَعَدَا، وَحَاشَا، وَبَيْدَ، وَلَيْسَ، وَلاَ يَكُونُ (23) .
ب - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا:
8 - شَرَعَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هَذَا النَّوْعَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ، فَقَدْ قَال لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . (24)
قَال الْقُرْطُبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﵊ عَلَى قَوْلِهِ لِلْكُفَّارِ حِينَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَالْفِتْيَةِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ: (ائْتُونِي غَدًا (4)) وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي ذَلِكَ. فَاحْتُبِسَ الْوَحْيُ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَرْجَفَ الْكُفَّارُ بِهِ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْكَهْفِ، وَأُمِرَ فِي هَذِهِ الآْيَةِ مِنْهَا: أَلاَّ يَقُول فِي أَمْرٍ مِنَ الأُْمُورِ: إِنِّي أَفْعَل غَدًا كَذَا وَكَذَا إِلاَّ أَنْ يُعَلِّقَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ﷿، حَتَّى لاَ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِحُكْمِ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَال: لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَل كَانَ كَاذِبًا، وَإِذَا قَال لأََفْعَلَنَّ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
قَال الْقُرْطُبِيُّ: وَقَال ابْنُ عَطِيَّةَ: فِي الْكَلاَمِ حَذْفٌ، تَقْدِيرُهُ إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. أَوْ: إِلاَّ أَنْ تَقُول: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَال: وَالآْيَةُ لَيْسَتْ فِي الأَْيْمَانِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي سُنَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ (25) ، وَأَوْضَحَ كَذَلِكَ أَنَّ آخِرَ الآْيَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . (26) يَدُل - عَلَى أَحَدِ الأَْقْوَال فِي تَفْسِيرِهَا - أَنَّهُ إِذَا نَسِيَ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَقُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَذَكَّرَهُ.
فَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَال: مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَنَتَيْنِ. فَيُحْمَل عَلَى تَدَارُكِ التَّبَرُّكِ بِالاِسْتِثْنَاءِ.
فَأَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْمُفِيدُ حُكْمًا - يَعْنِي فِي الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا - فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ مُتَّصِلاً. هَذَا، وَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ وَنَحْوِهَا يَدْخُل فِي كَلاَمِ النَّاسِ فِي الأَْخْبَارِ، وَالأَْيْمَانِ، وَالنُّذُورِ، وَالطَّلاَقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْوَعْدِ، وَالْعَقْدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. ثُمَّ يَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي حِل الْيَمِينِ وَنَحْوِهَا.
اسْتِثْنَاءُ عَدَدَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الشَّكِّ:
9 - إِذَا قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلاَّ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَاصِل عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا شَكَكْنَا فِي الْمُتَكَلِّمِ بِهِ، وَالأَْصْل عَدَمُ شَغْل الذِّمَمِ، فَثَبَتَ الأَْقَل.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ " خُرُوجٌ بَعْدَ دُخُولٍ ". يَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَل الأَْلْفُ صَارَ الشَّكُّ فِي الْمُخْرَجِ، فَيَخْرُجُ الأَْقَل (27) . وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الإِْقْرَارِ وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ:
10 - إِذَا وَرَدَ الاِسْتِثْنَاءُ بِإِلاَّ وَنَحْوِهَا بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ بِالْوَاوِ فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْفَخْرِ الرَّازِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ فَقَطْ. وَعِنْدَ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْكُل.
وَقَال الْبَاقِلاَّنِيُّ بِالتَّوَقُّفِ فِي عَوْدِهِ إِلَى مَا عَدَا الأَْخِيرَ.
وَقَال الْغَزَالِيُّ بِالتَّوَقُّفِ مُطْلَقًا.
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْمُعْتَزِلِيُّ: إِنْ ظَهَرَ الإِْضْرَابُ عَنِ الأُْولَى، كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ بِالإِْنْشَائِيَّةِ وَالْخَبَرِيَّةِ، أَوِ الأَْمْرِيَّةِ وَالنَّهْيِيَّةِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ اشْتِرَاكٌ فِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلاَمُ، فَإِنَّهُ يَعُودُ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلاَّ فَلِلْجَمِيعِ.
وَالنِّزَاعُ كَمَا تَرَى فِي الظُّهُورِ. وَلاَ تَتَأَتَّى دَعْوَى النُّصُوصِيَّةِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الاِحْتِمَالاَتِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَمْ يُنَازِعْ أَحَدٌ أَيْضًا فِي إِمْكَانِ عَوْدِ الاِسْتِثْنَاءِ إِلَى الأَْخِيرَةِ وَحْدَهَا، وَإِمْكَانِ عَوْدِهِ إِلَى الْكُل، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، هَذَا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ فَالْخِلاَفُ قَائِمٌ أَيْضًا، لَكِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالآْمِدِيِّ - إِلَى أَنَّهُ يَعُودُ حِينَئِذٍ إِلَى الأَْخِيرِ.
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ الأُْولَى، ظَاهِرٌ فِي الثُّبُوتِ عُمُومًا، وَرَفْعُهُ عَنِ الْبَعْضِ بِالاِسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلأَْخِيرَةِ فَقَطْ، فَلاَ يَرْفَعُ حُكْمَ الأُْولَى؛ لأَِنَّ الظَّاهِرَ لاَ يُعَارِضُهُ الْمَشْكُوكُ. بِخِلاَفِ الأَْخِيرَةِ، فَإِنَّ حُكْمَهَا غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لأَِنَّ الرَّفْعَ ظَاهِرٌ فِيهَا فِيمَا لاَ صَارِفَ لَهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا.
وَاحْتَجُّوا ثَانِيًا بِأَنَّ الاِتِّصَال مِنْ شَرْطِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالاِتِّصَال ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ الأَْخِيرَةِ، أَمَّا فِيمَا قَبْلَهَا فَإِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْعَطْفِ، إِلاَّ أَنَّ الاِتِّصَال بِالْعَطْفِ فَقَطْ ضَعِيفٌ، فَلاَ يُعْتَبَرُ إِلاَّ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لاِعْتِبَارِ هَذَا الاِتِّصَال.
وَالشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ مَعَهُمُ احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً رَجَعَ إِلَيْهَا اتِّفَاقًا.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ الْعَطْفَ يَجْعَل الْمُتَعَدِّدَ كَالْمُفْرَدِ، فَالْمُتَعَلِّقُ بِالْوَاحِدِ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِالْكُل. وَبِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْكُل، فَإِمَّا أَنْ يُكَرَّرَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ كُل جُمْلَةٍ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَقَطْ، أَوْ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ الْجَمِيعِ. فَالتَّكْرَارُ مُسْتَهْجَنٌ، فَبَطَل الأَْوَّل وَفِي الثَّانِي تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَبَقِيَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، فَيَلْزَمُ الظُّهُورُ فِيهِ.
11 - وَمِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} . (28) . . قَال الْحَنَفِيَّةُ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الْقَاذِفِينَ لاَ تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ، وَالاِسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ عَلَى الْحُكْمِ بِفِسْقِهِمْ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ؛ لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ يَعُودُ عَلَى الْجُمَل الثَّلاَثِ. أَمَّا الْجَلْدُ فَاتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهِ بِالتَّوْبَةِ لأَِجْل الدَّلِيل الْمَانِعِ مِنْ تَعَلُّقِ الاِسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (29) وَالْمَانِعُ هُوَ كَوْنُ الْجَلْدِ حَقًّا لِلآْدَمِيِّ، وَحَقُّ الآْدَمِيِّ لاَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ.
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْمُفْرَدَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ:
12 - إِنْ كَانَ الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ فَالْخِلاَفُ فِيهِ كَالْخِلاَفِ فِي الْجُمَل، وَلَكِنْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ أَوْلَى بِعَوْدِهِ لِلْكُل مِنَ الْوَارِدِ بَعْدَ الْجُمَل الْمُتَعَاطِفَةِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ اسْتِقْلاَل الْمُفْرَدَاتِ. نَحْوُ: تَصَدَّقْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيل إِلاَّ الْفَسَقَةَ مِنْهُمْ.
الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بَعْدَ الْمُتَعَاطِفَاتِ:
13 - أَمَّا الاِسْتِثْنَاءُ الْعُرْفِيُّ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَقَّبَ جُمَلاً نَحْوَ: وَاَللَّهِ لاَ آكُل وَلاَ أَشْرَبُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْجَمِيعِ اتِّفَاقًا. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ مِنْ حَقِيقَةِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرًا؛ لأَِنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلاَمِ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، فَيَصِحُّ تَعَلُّقُهُ بِالأَْوَّل؛ لأَِنَّهُ مُقَارِنٌ لَهُ تَقْدِيرًا. بِخِلاَفِ الاِسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا (30) .
الاِسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الاِسْتِثْنَاءِ:
14 - هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ الْمُتَعَاطِفَةُ نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ أَرْبَعَةً، وَإِلاَّ ثَلاَثَةً، وَإِلاَّ اثْنَيْنِ. وَحُكْمُهَا أَنْ تَعُودَ كُلُّهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا. فَيَلْزَمُهُ فِي الْمِثَال الْمَذْكُورِ وَاحِدٌ فَقَطْ.
الثَّانِي: الاِسْتِثْنَاءَاتُ الْمُتَوَالِيَةُ بِدُونِ عَاطِفٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا يَعُودُ إِلَى مَا قَبْلَهُ. فَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سَبْعَةً، إِلاَّ خَمْسَةً إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ، صَحَّ، وَكَانَ مُقِرًّا بِسِتَّةٍ، فَإِنَّ خَمْسَةَ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ عِبَارَةُ عَنْ ثَلاَثَةٍ اسْتَثْنَاهَا مِنْ سَبْعَةٍ بَقِيَ أَرْبَعَةٌ، اسْتَثْنَاهَا مِنْ عَشَرَةٍ بَقِيَ سِتَّةٌ (31) .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الاِسْتِثْنَاءَاتِ مُسْتَغْرِقًا لِمَا قَبْلَهُ فَإِنَّهَا لاَ تَبْطُل، بَل تَعُودُ جَمِيعُهَا إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ وَاخْتِلاَفٌ (32) .
شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ
15 - شُرُوطُ الاِسْتِثْنَاءِ عَامَّةٌ، مَا عَدَا شَرْطَ الاِسْتِغْرَاقِ، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الرَّمْلِيُّ (33) ، وَسَيَأْتِي أَيْضًا أَنَّ شَرْطَ الْقَصْدِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ.
الشَّرْطُ الأَْوَّل:
16 - يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلاً بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِأَلاَّ يَكُونَ مَفْصُولاً بِمَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ فَاصِلاً. فَلَوْ كَانَ مَفْصُولاً بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا لَمْ يَمْنَعِ الاِتِّصَال، وَكَذَلِكَ إِنْ حَال بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَلاَمٌ غَيْرُ أَجْنَبِيٍّ، وَمِنْهُ النِّدَاءُ؛ لأَِنَّهُ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّأْكِيدُ. أَمَّا إِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلاَمُ فِيهِ، أَوْ فَصَل بِكَلاَمٍ أَجْنَبِيٍّ، أَوْ عَدَل إِلَى شَيْءٍ آخَرَ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَرْتَفِعْ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يُمْكِنُ، كَمَا لَوْ أَخَذَ آخِذٌ بِفَمِهِ فَمَنَعَهُ الْكَلاَمَ (34) . هَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَيُشْتَرَطُ لِتَحَقُّقِ الاِتِّصَال أَنْ يَنْوِيَ الاِسْتِثْنَاءَ فِي الْكَلاَمِ السَّابِقِ، فَلَوْ لَمْ يَنْوِ إِلاَّ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْعُمْدَةُ مُجَرَّدُ الاِتِّصَال سَوَاءٌ نَوَى أَوَّل الْكَلاَمِ، أَوْ أَثْنَاءَهُ، أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ.
وَقَدْ نُقِل خِلاَفُ هَذَا عَنْ قَوْمٍ. فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ الاِسْتِثْنَاءُ إِلَى شَهْرٍ، وَقِيل أَبَدًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ: يَجُوزُ فِي الْمَجْلِسِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ (35) ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: إِلَى سَنَتَيْنِ. وَقِيل: مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي كَلاَمٍ آخَرَ. وَقِيل:
إِنْ نَوَى الاِسْتِثْنَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلاَمِ جَازَ التَّأْخِيرُ بَعْدَهُ. وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْل إِلَى الإِْمَامِ أَحْمَدَ.
وَقِيل: يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً.
وَمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا حَرَّمَ مَكَّةَ، وَقَال: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، قَال الْعَبَّاسُ: يَا رَسُول اللَّهِ إِلاَّ الإِْذْخِرَ، فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ، فَقَال: إِلاَّ الإِْذْخِرَ (36) فَهَذَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْفَصِلٌ. فَحُمِل عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ. فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ الْقَوْل، فَلاَ يَتَعَلَّقُ بِالْكَلاَمِ الْمَذْكُورِ أَوَّلاً (37)
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الاِتِّصَال؛ أَنَّ الْقَوْل بِجَوَازِ الاِسْتِثْنَاءِ غَيْرِ الْمُتَّصِل يَسْتَلْزِمُ أَلاَّ يَجْزِمَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الأَْخْبَارِ لاِحْتِمَال الاِسْتِثْنَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَثْبُتُ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ، وَلإِِجْمَاعِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى وُجُوبِ الاِتِّصَال. فَلَوْ قَال: لَهُ عَشَرَةٌ، ثُمَّ زَادَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلاَّ ثَلاَثَةً يُعَدُّ لَغْوًا.
وَلَعَل مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ قَال شِبْهَ قَوْلِهِ، إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ أَنَّ مَنْ نَسِيَ أَنْ يَقُول: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يَقُولُهَا مَتَى تَذَكَّرَ ذَلِكَ، وَلَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، امْتِثَالاً لِلآْيَةِ، وَلَيْسَ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ رَفْعُ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى (38) كَمَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْطُ الثَّانِي:
17 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُسْتَغْرِقًا لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرِقَ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، إِلاَّ عِنْدَ مَنْ شَذَّ.
وَادَّعَى الْبَعْضُ الإِْجْمَاعَ عَلَيْهِ. فَلَوْ قَال: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ عَشَرَةً " لَغَا قَوْلُهُ " إِلاَّ عَشَرَةً " وَلَزِمَهُ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ. وَمِمَّنْ شَذَّ ابْنُ طَلْحَةَ الْمَالِكِيُّ فِي الْمَدْخَل، نَقَل عَنْهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ قَال فِيمَنْ قَال لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ ثَلاَثًا ": لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ طَلاَقٌ (39) . وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ، فَهُمْ يُوَافِقُونَ عَلَى بُطْلاَنِ الاِسْتِثْنَاءِ إِنْ كَانَ بِعَيْنِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِهِ: عَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلاَّ عَبِيدِي، أَوْ بِلَفْظٍ مُسَاوٍ لَهُ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ إِلاَّ زَوْجَاتِي.
أَمَّا إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ إِلاَّ أَلْفًا، وَالثُّلُثُ أَلْفٌ. فَيَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ وَلاَ يَسْتَحِقُّ زَيْدٌ شَيْئًا.
فَالشَّرْطُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ إِيهَامُ الْبَقَاءِ لاَ حَقِيقَتُهُ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا سِتًّا إِلاَّ أَرْبَعًا صَحَّ، وَوَقَعَ ثِنْتَانِ. وَإِنْ كَانَتِ السِّتَّةُ لاَ صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ لاَ يَزِيدُ عَنْ ثَلاَثٍ، وَمَعَ هَذَا لاَ يُجْعَل كَأَنَّهُ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا إِلاَّ أَرْبَعًا، فَكَأَنَّ اعْتِبَارَ اللَّفْظِ أَوْلَى (40) .
وَجَعَل صَاحِبُ الْمُغْنِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ أَنْ يَقُول مَثَلاً: " لَهُ عَلَيَّ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إِلاَّ دِرْهَمَيْنِ " فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَهُوَ فِي مِثَالِنَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ (41) .
اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ وَالأَْقَل:
18 - أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا كَمَا تَقَدَّمَ، نَحْوُ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ سِتَّةً (42) أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ خَمْسَةً ". وَنَسَبَ صَاحِبُ فَوَاتِحِ الرَّحَمُوتِ هَذَا الْقَوْل إِلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَالأَْكْثَرِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَنَابِلَةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (43) .
قِيل: إِنَّمَا يَمْنَعُ الْحَنَابِلَةُ اسْتِثْنَاءَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ، وَيُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ. وَقِيل: يَمْنَعُونَ النِّصْفَ أَيْضًا.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِثْنَاءَ الأَْكْثَرِ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدًا صَرِيحًا. قِيل وَبِهَذَا قَال الْقَاضِي الْبَاقِلاَّنِيُّ آخِرًا.
وَقَدْ احْتَجَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الأَْكْثَرِ فِي غَيْرِ الْعَدَدِ بِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْغَاوِينَ} (44) وَالْغَاوُونَ هُمْ الأَْكْثَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (45) وَاحْتَجَّ لِجَوَازِهِ أَيْضًا فِي الْعَدَدِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ جَمِيعًا عَلَى لُزُومِ وَاحِدٍ فِي الإِْقْرَارِ بِلَفْظِ: " لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلاَّ تِسْعَةً (46) " وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءُ الأَْكْثَرِ جَائِزًا لُغَةً، مِنْهُمُ ابْنُ جِنِّي، وَالزَّجَّاجُ، وَالْقُتَيْبِيُّ. قَال الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الاِسْتِثْنَاءُ إِلاَّ فِي قَلِيلٍ مِنَ الْكَثِيرِ (47) .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
19 - وَيُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا يَدْخُل تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَجَوَّزَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَاقِلاَّنِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَمِثَال ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنَ الدَّنَانِيرِ إِلاَّ فَرَسًا ".
وَكَذَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ فَرَسٌ إِلاَّ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ الْمُقَرَّ بِهِ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ. وَلَزِمَهُ الأَْلْفُ بِتَمَامِهَا (48) .
وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ اسْتِحْسَانًا اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْمُقَدَّرِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ، وَالْمَعْدُودِ الَّذِي لاَ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ، كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ، مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَذَلِكَ لأَِنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَاعْتُبِرَتْ جِنْسًا وَاحِدًا، فَكَانَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَتُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى مِمَّا أَقَرَّ بِهِ.
وَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الاِسْتِثْنَاءِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَتِ الْقِيمَةُ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ، لاِسْتِغْرَاقِهِ بِغَيْرِ الْمُسَاوِي.
وَالْقَوْل الآْخَرُ لِلْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْل مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ. وَهُوَ الْقِيَاسُ.
أَمَّا فِي غَيْرِ الْمُقَدَّرَاتِ، كَمَا لَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا، فَلاَ يَصِحُّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ جَمِيعًا، قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لاَ يَصِحُّ إِلاَّ أَنْ يُسْتَثْنَى الدَّرَاهِمُ مِنَ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الدَّنَانِيرُ مِنَ الدَّرَاهِمِ. وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَهُمْ لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا.
وَحُجَّةُ الْمُجِيزِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ، مِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَم فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} . (49) وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا} . (50)
وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الاِسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْلاَهُ.
وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلاَمِ، فَإِذَا ذَكَرَهُ فَمَا صَرَفَ الْكَلاَمَ عَنْ صَوْبِهِ، وَلاَ ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ، فَلاَ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ اسْتِثْنَاءً مَجَازًا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ (ف: 6) وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ، وَتَكُونُ إِلاَّ بِمَعْنَى لَكِنَّ، فَإِذَا ذَكَرَ الاِسْتِدْرَاكَ بَعْدَ الإِْقْرَارِ، كَأَنْ قَال: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلاَّ ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلاً؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ، مُدَّعِيًا لِشَيْءٍ سِوَاهُ، فَيُقْبَل إِقْرَارُهُ، وَتَبْطُل دَعْوَاهُ وَهِيَ الاِسْتِثْنَاءُ.
وَحُجَّةُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا أَنَّ قَدْرَ الدَّنَانِيرِ مِنَ الدَّرَاهِمِ مَعْلُومٌ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنَ الآْخَرِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الآْخَرِ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا، وَفِي بِلاَدٍ أُخْرَى يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا (51) .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: التَّلَفُّظُ بِالاِسْتِثْنَاءِ
20 - ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ فِي الاِسْتِثْنَاءِ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحْلَفًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَحْلَفًا لَمْ يُجْزِئْهُ إِلاَّ الْجَهْرُ. وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ الْمَحْلُوفُ لَهُ. (52)
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ لِلاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ بِحَيْثُ يُسْمِعُ غَيْرَهُ، وَإِلاَّ فَالْقَوْل قَوْل خَصْمِهِ فِي النَّفْيِ، وَحَكَمَ بِالْوُقُوعِ إِذَا حَلَفَ الْخَصْمُ عَلَى نَفْيِ الاِسْتِثْنَاءِ.
هَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، أَمَّا فِيمَا عَدَاهُ فَيَكْفِي أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ، إِنِ اعْتَدَل سَمْعُهُ وَلاَ عَارِضَ، وَيُدَيَّنُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (53) .
وَلَمْ يَظْهَرْ لِلْحَنَابِلَةِ تَعَرُّضٌ لِصِفَةِ النُّطْقِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا فِي نِيَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْقَلْبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَنْطُوقُ بِهِ عَامًّا، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَاسْتَثْنَى بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً، فَيَكُونُ لَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً؛ لأَِنَّ قَوْلَهُ " نِسَائِي " اسْمٌ عَامٌّ يَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنْ بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ لاَ يَحْتَمِل غَيْرَهُ كَالْعَدَدِ، فَلاَ يَرْتَفِعُ بِالنِّيَّةِ مَا ثَبَتَ بِاللَّفْظِ، كَقَوْلِهِ: نِسَائِي الأَْرْبَعُ أَوِ الثَّلاَثُ طَوَالِقُ، فَلاَ يُقْبَل اسْتِثْنَاؤُهُ ظَاهِرًا، وَقِيل لاَ يُقْبَل وَلاَ بَاطِنًا (54) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِذَا تَكَلَّمَ بِالطَّلاَقِ وَاسْتَثْنَى فَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاؤُهُ مَسْمُوعًا، وَالْمُرَادُ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُسْمَعَ، بِحَيْثُ لَوْ قَرَّبَ شَخْصٌ أُذُنَهُ إِلَى فَمِهِ يَسْمَعُ اسْتِثْنَاءَهُ، وَلَوْ حَال دُونَ سَمَاعِ الْمُنْشِئِ لِلْكَلاَمِ صَمَمٌ أَوْ كَثْرَةُ أَصْوَاتٍ. وَفِي قَوْل الْكَرْخِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ مَسْمُوعٍ (55) وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ أَيْضًا: إِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْكِتَابَةِ صَحِيحٌ، حَتَّى لَوْ تَلَفَّظَ بِالطَّلاَقِ وَكَتَبَ الاِسْتِثْنَاءَ مَوْصُولاً، أَوْ عَكَسَ، أَوْ أَزَال الاِسْتِثْنَاءَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَقَعِ الطَّلاَقُ (56) .
وَجَاءَ فِي التَّتَارْخَانِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الزَّوْجَةَ إِذَا سَمِعَتِ الطَّلاَقَ وَلَمْ تَسْمَعِ الاِسْتِثْنَاءَ لاَ يَسَعُهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنَ الْوَطْءِ، وَيَلْزَمُهَا مُنَازَعَتُهُ.
21 - وَلَوِ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صُدُورِ الاِسْتِثْنَاءِ، فَادَّعَاهُ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَتْهُ الزَّوْجَةُ، فَيُقْبَل قَوْلُهُ. وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ الْمَذْهَبُ.
وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُقْبَل إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، عَلَيْهِ الاِعْتِمَادُ وَالْفَتْوَى احْتِيَاطًا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، إِذْ قَدْ يُعَلِّمُهُ ذَلِكَ حِيلَةً بَعْضُ مَنْ لاَ يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى، وَلأَِنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ خِلاَفُ الظَّاهِرِ، فَإِنَّهُ بِدَعْوَى الاِسْتِثْنَاءِ يَدَّعِي إِبْطَال الْمُوجِبِ بَعْدَ الاِعْتِرَافِ بِهِ.
فَالظَّاهِرُ خِلاَفُ قَوْلِهِ، وَإِذَا عَمَّ الْفَسَادُ يَنْبَغِي الرُّجُوعُ إِلَى الظَّاهِرِ. وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَهُمْ نَقَلَهُ ابْنُ الْهُمَامِ عَنِ الْمُحِيطِ إِنْ عُرِفَ الزَّوْجُ بِالصَّلاَحِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ تَصْدِيقًا لَهُ، وَإِنْ عُرِفَ بِالْفِسْقِ أَوْ جُهِل حَالُهُ فَلاَ؛ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ. وَأَيَّدَهُ ابْنُ عَابِدِينَ (57) . وَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى نُصُوصٍ لِغَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: الْقَصْدُ:
22 - اشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ لِصِحَّةِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ الْقَصْدَ، سَوَاءٌ أَكَانَ الاِسْتِثْنَاءُ حَقِيقِيًّا، بِإِلاَّ أَوْ إِحْدَى أَخَوَاتِهَا، أَمْ عُرْفِيًّا، بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوِهِ. فَلاَ يُفِيدُ الاِسْتِثْنَاءُ الْحَالِفَ إِلاَّ أَنْ يَقْصِدَ مَعْنَى الاِسْتِثْنَاءِ أَيْ: حِل الْيَمِينِ، لاَ أَنْ يَقْصِدَ مُجَرَّدَ التَّبَرُّكِ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. وَكَذَا لاَ بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ التَّلَفُّظَ بِهِ، فَلَوْ جَرَى الاِسْتِثْنَاءُ عَلَى، لِسَانِهِ سَهْوًا لَمْ يَنْفَعْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَصْدِ إِنْ تَحَقَّقَ فِي أَوَّل النُّطْقِ بِالْكَلاَمِ الْمُشْتَمِل عَلَى الاِسْتِثْنَاءِ، أَوْ فِي أَثْنَائِهِ وَقَبْل الْفَرَاغِ مِنْهُ. أَمَّا إِنْ وُجِدَتِ النِّيَّةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَهِيَ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ بِشَرْطِ الاِتِّصَال. أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ فَلِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلاَنِ: الأَْوَّل وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ النِّيَّةَ صَحِيحَةٌ وَيَنْحَل بِهَا الْيَمِينُ أَوِ الطَّلاَقُ بِشَرْطِ الاِتِّصَال كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْل الثَّانِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمُقَدَّمِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ الْقَصْدَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لاَ يَصِحُّ، فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ، وَيَقَعُ الطَّلاَقُ (58) .
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقَصْدِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ، فَيَكُونُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى (59) .
وَهَذَا مَا قَالَهُ (أَسَدٌ) مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ؛ لأَِنَّ الطَّلاَقَ مَعَ الاِسْتِثْنَاءِ لَيْسَ طَلاَقًا.
وَكَذَا إِذَا قَال: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " مَنْ لاَ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا. وَالْقَوْل الآْخَرُ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْل (خَلَفٍ) . (60)
جَهَالَةُ الْمُسْتَثْنَى بِإِلاَّ وَأَخَوَاتِهَا:
23 - الاِسْتِثْنَاءُ مِنْ حَيْثُ الْجَهَالَةُ نَوْعَانِ:
الأَْوَّل: مَا سِوَى الْعُقُودِ، كَالإِْقْرَارِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْمُتَكَلِّمُ شَيْئًا مَجْهُولاً كَأَنْ يَقُول الْمُقِرُّ: لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِينَارٍ إِلاَّ شَيْئًا، أَوْ: إِلاَّ قَلِيلاً، أَوْ: إِلاَّ بَعْضَهَا، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِدَارٍ وَيَسْتَثْنِيَ غُرْفَةً مِنْهَا دُونَ أَنْ يُعَيِّنَهَا.
وَكَمَا يَجْرِي فِي الإِْقْرَارِ يَجْرِي فِي غَيْرِهِ مِنَ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ وَالطَّلاَقِ وَغَيْرِهَا. وَيُطَالَبُ الْمُتَكَلِّمُ بِبَيَانِ مَا أَبْهَمَهُ، وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ إِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَفِي حُكْمِ ذَلِكَ فِي الأَْبْوَابِ الْمُخْتَلِفَةِ تُنْظَرُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْخَاصَّةُ بِتِلْكَ الأَْبْوَابِ. النَّوْعُ الثَّانِي: الْعُقُودُ، وَالاِسْتِثْنَاءُ الْمُبْهَمُ فِي الْعُقُودِ بَاطِلٌ وَمُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ (61) . وَفِي الْحَدِيثِ نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الثُّنْيَا إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ. (62)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَلَوْ كَانَ مَا اسْتَثْنَى غَيْرَ مَعْلُومٍ عَادَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ مَعْلُومٍ، كَمَنْ بَاعَ ثَوْبًا إِلاَّ شَيْئًا مِنْهُ.
24 - وَقَدْ وَضَعَ الْحَنَفِيَّةُ قَاعِدَةً لِمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْعُقُودِ بِأَنَّ " مَا جَازَ إِيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنَ الْعَقْدِ " فَبَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ جَائِزٌ، فَكَذَا اسْتِثْنَاؤُهُ (63) .
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ كَذَلِكَ مَعْلُومِيَّةَ الْمُسْتَثْنَى، فَلَوِ اسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا فَلَهُ اسْتِثْنَاءُ مَا شَاءَ، أَمَّا إِنِ اسْتَثْنَى قَدْرًا مَعْلُومًا بِالْكَيْل مِنْ صُبْرَةٍ بَاعَهَا جُزَافًا، أَوْ أَرْطَالاً مِنْ لَحْمِ شَاةٍ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَثْنِيَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الثُّلُثِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمْ اسْتِثْنَاءُ جِلْدٍ وَسَاقِطٍ مِنْ رَأْسٍ وَأَكَارِعَ، فِي السَّفَرِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا جَازَ اسْتِثْنَاؤُهُمَا فِي السَّفَرِ فَقَطْ لِخِفَّةِ ثَمَنِهِمَا فِيهِ دُونَ الْحَضَرِ (64) .
وَالْحَنَابِلَةُ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى مَعْلُومًا يُوَافِقُونَ الْحَنَفِيَّةَ، وَيَقُولُونَ بِالْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرُوهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ آحَادِ الْمَسَائِل، لِمُخَالَفَتِهِمْ فِي تَحَقُّقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِيهَا، فَهُمْ مَثَلاً يُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ الرَّأْسِ وَالأَْطْرَافِ مِنَ الشَّاةِ الْمَبِيعَةِ؛ لأَِنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا مَعْلُومَةً.
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَرُّوا بِرَاعِي غَنْمٍ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرٌ، فَاشْتَرَيَا مِنْهُ شَاةً وَشَرَطَا لَهُ سَلَبَهَا (65) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ:
25 - حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ التَّخْصِيصُ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْقَصْرُ، لأَِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِي الْمُخَصَّصِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا. وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ هَذَا حَيْثُمَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ الْمُعْتَبَرَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، فَيَثْبُتُ فِي الْعُقُودِ وَالْوُعُودِ وَالنُّذُورِ وَالأَْيْمَانِ وَالطَّلاَقِ، وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، فَلَوِ اسْتَثْنَى مِنَ الْمَبِيعِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنَ الْعَيْنِ، أَوْ مَنْفَعَةً مَعْلُومَةً لِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الاِسْتِثْنَاءَاتِ الْبُطْلاَنُ لِمَانِعٍ (66) .
مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ:
26 - الاِسْتِثْنَاءُ بِالْمَشِيئَةِ إِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهُ يُسْتَتْبَعُ أَثَرُهُ وَهُوَ: إِبْطَال حُكْمِ مَا قَبْلَهُ. وَهَذَا الإِْبْطَال إِمَّا بِمَعْنَى الْحِل بَعْدَ الاِنْعِقَادِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى مَنْعِ الاِنْعِقَادِ، فَإِذَا بَدَا لِلْحَالِفِ مَثَلاً أَنْ يَسْتَثْنِيَ بَعْدَ تَمَامِ يَمِينِهِ تَنْحَل يَمِينُهُ بِاسْتِثْنَائِهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ نِيَّةَ الاِسْتِثْنَاءِ بَعْدَ تَمَامِ الْيَمِينِ. وَاَلَّذِي يَنْوِيهِ الْحَالِفُ قَبْل الْفَرَاغِ مِنْ يَمِينِهِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ يَمِينِهِ (67) . 27 - أَمَّا مَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُبْطِل الْيَمِينَ (68) ، لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ الَّتِي قُدِّمَ ذِكْرُهَا. وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى اتِّجَاهَيْنِ:
الاِتِّجَاهُ الأَْوَّل: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الاِسْتِثْنَاءِ يَثْبُتُ فِي صِيَغِ الإِْخْبَارِ، وَإِنْ كَانَ إِنْشَاءَ إِيجَابٍ، لاَ فِي الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ. فَلَوْ قَال: اعْطُوا ثُلُثَ مَالِي لِفُلاَنٍ بَعْدَ مَوْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَل الاِسْتِثْنَاءُ وَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ.
وَعَنِ الْحَلْوَانِيِّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ كُل مَا يَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، كَالطَّلاَقِ وَالْبَيْعِ، بِخِلاَفِ مَا لاَ يَخْتَصُّ بِهِ كَنِيَّةِ الصَّوْمِ، فَلاَ يَرْفَعُهَا الاِسْتِثْنَاءُ فَلَوْ قَال: نَوَيْتُ صِيَامَ غَدٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَهُ أَدَاؤُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ (69)
الاِتِّجَاهُ الثَّانِي: أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بِالْمَشِيئَةِ لاَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَيَّ تَصَرُّفٍ مَا عَدَا الأَْيْمَانَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ. وَبِهِ قَال الأَْوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ - بِاسْتِثْنَاءِ ابْنِ الْمَوَّازِ - أَنَّ الاِسْتِثْنَاءَ (بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ) يُبْطِل الأَْيْمَانَ، وَلاَ يُبْطِل مَا قَبْلَهُ فِي غَيْرِ الأَْيْمَانِ، فَلَوْ أَقَرَّ قَائِلاً: لَهُ فِي ذِمَّتِي أَلْفٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ: إِنْ قَضَى اللَّهُ، لَزِمَهُ الأَْلْفُ؛ لأَِنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَوْ قَضَى (70) .
وَسَوَاءٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكَانَ الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ مُنَجَّزًا أَمْ كَانَ مُعَلَّقًا. قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشِيئَةِ بَعْدَ تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ: إِنَّمَا وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْل الْمُتَقَدِّمِينَ: الأَْيْمَانُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ إِنَّمَا جَازَ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالاِتِّسَاعِ، وَلاَ يَمِينَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلاَّ بِاَللَّهِ، وَهَذَا طَلاَقٌ وَعَتَاقٌ (71) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يُبْطِلُهَا الاِسْتِثْنَاءُ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلاَ يُؤَثِّرُ فِيهِ، كَمَا لَوْ قَال: بِعْتُكَ أَوْ وَهَبْتُكَ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ.
أَمَّا الطَّلاَقُ وَالْعَتَاقُ فَفِي رِوَايَةٍ: تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنِ الْقَوْل فِيهِمَا. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: قَطَعَ أَنَّهُ لاَ يَنْفَعُهُ الاِسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا، وَقَال: مَنْ حَلَفَ فَقَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَيْسَ لَهُ اسْتِثْنَاءٌ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لأَِنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الأَْيْمَانِ. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَال: إِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا تَنَاوَل الأَْيْمَانَ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينِهِ، إِنَّمَا هُوَ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ (72) .
28 - وَذَكَرَ مُتَأَخِّرُو الْحَنَابِلَةِ فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا قَوْلاً ثَالِثًا، قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَنَقَلَهُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ - وَهُوَ أَنَّ إِيقَاعَ الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ لاَ يَدْخُل فِيمَا يُبْطِلُهُ الاِسْتِثْنَاءُ، أَمَّا الْحَلِفُ بِالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ فَيَدْخُل - قَال: وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَال: إِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ (كَمَا لَوْ قَال: عَلَيَّ الطَّلاَقُ لأََفْعَلَنَّ كَذَا) دَخَل فِي حَدِيثِ الاِسْتِثْنَاءِ، وَنَفَعَتْهُ الْمَشِيئَةُ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ كَمَا لَوْ قَال لِزَوْجَتِهِ: إِنْ فَعَلْتِ كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْل هُوَ الصَّوَابُ الْمَأْثُورُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ كَسَعِيدٍ وَالْحَسَنِ، لَمْ يَجْعَلُوا فِي الطَّلاَقِ اسْتِثْنَاءً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنَ الأَْيْمَانِ. ثُمَّ نُقِل عَنِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَلِفَ بِالصَّدَقَةِ وَالْهَدْيِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يَمِينًا مُكَفَّرَةً. وَقَال أَحْمَدُ: إِنَّمَا يَكُونُ الاِسْتِثْنَاءُ فِيمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ (1) . وَتَمَامُ الْقَوْل فِي الاِسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلاَقِ الْمُعَلَّقِ يُنْظَرُ فِي بَحْثِ الأَْيْمَانِ، وَتَمَامُ الْكَلاَمِ عَلَى تَفْرِيعِ مَسَائِل الاِسْتِثْنَاءِ وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ فِيهَا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَيُرْجَعُ فِي كُل مَسْأَلَةٍ مِنْهَا إِلَى بَابِهَا فِي الطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْمَبَاحِثِ الأُْصُولِيَّةِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
__________
(1) لسان العرب - ثنى
(2) حاشية ابن عابدين 2 / 509
(3) سورة القلم / 18
(4) روضة الناظر ص 132 ط السلفية 1385 هـ
(5) جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 9
(6) التوضيح ومعه التلويح على التوضيح 2 / 20 صببح.
(7) المغني 7 / 351
(8) حاشية ابن عابدين 2 / 514
(9) المغني 5 / 155 ط الرياض
(10) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 411
(11) القواعد لابن رجب ص 41، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 288
(12) شرح جمع الجوامع 2 / 3
(13) المستصفى 2 / 164
(14) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 183
(15) المستصفى 2 / 164، وروضة الناظر ص 132
(16) ابن عابدين 2 / 509، وشرح فتح القدير 3 / 143 بولاق
(17) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، وشرح مسلم الثبوت 1 / 326 وما بعدها.
(18) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 15، 16، والأشباه للسيوطي ص 288
(19) سورة النساء / 157
(20) في كشاف اصطلاحات الفنون أنه: ليس جميع أدوات الاستثناء تصلح في الاستثناء المنقطع، وإنما ذلك في " إلا " و " غير " و " بيد أن " خاصة.
(21) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 184، وشرح مسلم الثبوت 1 / 316 وانظر مصطلح (أيمان)
(22) شرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 12
(23) روضة الناظر ص 132
(24) سورة الكهف / 23
(25) الجامع لأحكام القرآن، 10 / 385
(26) سورة الكهف / 23
(27) حاشية ابن عابدين 4 / 459
(28) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والآية من سورة النور / 4
(29) سورة النور / 4
(30) مسلم الثبوت وشرحه 1 / 332 - 338، وشرح جمع الجوامع 2 / 17 - 19، وروضة الناظر ص 135، والتمهيد للأسنوي 392 - 393
(31) شرح المحلي على جمع الجوامع 2 / 17، والمغني 5 / 147
(32) التمهيد ص 391
(33) نهاية المحتاج 6 / 455
(34) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 4 / 458، وحاشية الدسوقي 2 / 388
(35) روضة الناظر ص 132
(36) حديث: " لا يختلى شوكها. . . " أخرجه البخاري " فتح الباري 12 / 205 ط السلفية " والقين: الحداد، واختلى الشوك: جزه رطبا، وعضد الشجر: ضربه ليسقط ورقه.
(37) شرح مسلم الثبوت 1 / 320، 321
(38) تفسير القرطبي 10 / 385، وشرح جمع الجوامع وحاشية البناني 2 / 10 وما بعدها
(39) جمع الجوامع وشرحه 2 / 14
(40) الدر المختار وحاشية ابن عابدين 4 / 458، ومسلم الثبوت 1 / 323، 324
(41) المغني لابن قدامة 5 / 159، 160 نشر مكتبة الرياض الحديثة
(42) ابن عابدين 4 / 458
(43) في فواتح الرحموت أنه من الشافعية، والصواب أنه مالكي كما في الأعلام للزركلي 7 / 46
(44) سورة الحجر 42
(45) سورة يوسف 103
(46) فواتح الرحموت 1 / 335، 336، وجمع الجوامع وشرح المحلي 2 / 14
(47) روضة الناظر ص 133
(48) حاشية الدسوقي 3 / 411 ط دار الفكر.
(49) سورة الكهف / 50
(50) سورة الواقعة / 25
(51) ابن عابدين 4 / 458، والمغني لابن قدامة 5 / 154 وما بعدها ط الرياض. وروضة الناظر ص 132، والإحكام للآمدي 2 / 85 وما بعدها ط محمد صبيح.
(52) المواق بهامش الحطاب 3 / 268
(53) نهاية المحتاج 6 / 456، وحواشي تحفة المحتاج للشرواني 7 / 62
(54) كشاف القناع 5 / 272، والمغني 7 / 158 ط 3
(55) حاشية ابن عابدين 2 / 510، 514
(56) حاشية ابن عابدين 2 / 510
(57) ابن عابدين 2 / 511
(58) نهاية المحتاج 6 / 455، والمغني 8 / 717، وحاشية الدسوقي 2 / 129، 130، 388
(59) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 510
(60) فتح القدير 3 / 143، والدر المختار وحاشية ابن عابدين 2 / 510
(61) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 379 ط مصطفى الحلبي.
(62) الحديث أخرجه النسائي 7 / 296 ط المكتبة التجارية، والترمذي 3 / 585 ط الحلبي وإسناده صحيح.
(63) ابن عابدين 4 / 40، 41
(64) حاشية الدسوقي 3 / 18
(65) المغني 4 / 100 - 103 ط الثالثة وسلب الذبيحة: إهابها وكراعها وما في بطنها - لسان العرب.
(66) القواعد لابن رجب ص 41، ونيل المآرب 1 / 101، 102 و2 / 4 ط بولاق، وجمع الجوامع 2 / 10، ومسلم الثبوت 1 / 316
(67) انظر بحث الأيمان ف 250، 420، من الطبعة التمهيدية للموسوعة.
(68) تفسير القرطبي 6 / 273، 274
(69) فتح القدير 3 / 143، وحاشية ابن عابدين 2 / 506، ونهاية المحتاج 6 / 460، والقلبوبي 3 / 340
(70) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 / 402
(71) المغني لابن قدامة 8 / 719
(72) المغني 8 / 719
الموسوعة الفقهية الكويتية: 184/ 3
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".