الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | أحمد شريف النعسان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إنَّ في تَعَاقُبِ الشَّدَائِدِ والرَّخَاءِ, والعُسْرِ واليُسْرِ, والضِّيقِ والفَرَجِ, والخَوْفِ والأَمْنِ, والفَقْرِ والغِنَى، كَشْفٌ عن مَعَادِنِ النَّاسِ, وطَبَائِعِ قُلُوبِهِم ونُفُوسِهِم، حَيثُ يَتَمَحَّصُ المُؤمِنُونَ, ويَنكَشِفُ الزَّائِفُونَ, ومن عَلِمَ حِكْمَةَ اللهِ -تعالى- في تَصْرِيفِ الأُمُورِ, وجَرَيَانِ الأَقْدَارِ, فَلَن ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيَا عِبَادَ اللهِ: إنَّ في تَعَاقُبِ الشَّدَائِدِ والرَّخَاءِ, والعُسْرِ واليُسْرِ, والضِّيقِ والفَرَجِ, والخَوْفِ والأَمْنِ, والفَقْرِ والغِنَى, كَشْفٌ عن مَعَادِنِ النَّاسِ, وطَبَائِعِ قُلُوبِهِم ونُفُوسِهِم, حَيثُ يَتَمَحَّصُ المُؤمِنُونَ, ويَنكَشِفُ الزَّائِفُونَ, ومن عَلِمَ حِكْمَةَ اللهِ -تعالى- في تَصْرِيفِ الأُمُورِ, وجَرَيَانِ الأَقْدَارِ, فَلَن يَجِدَ اليَأْسُ إلى قَلبِهِ سَبِيلاً.
يَا عِبَادَ اللهِ: مَهمَا أَظلَمَتِ الطُّرُقُ, وعَظُمَتِ الخُطُوبُ وتَوَالَتْ, ومَهمَا تَكَاثَرَتِ النَّكَبَاتُ, ومَهمَا ضَاقَ الحَبْلُ على الوَتَدِ, فَلَن يَزدَادَ الإنسَانُ المُؤمِنُ إلا ثَبَاتاً ورُسُوخاً ويَقِيناً بِقَولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "عَجَباً لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ, إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ, وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ, إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ, وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ, فَكَانَ خَيْراً لَهُ" [رواه مسلم].
يَا عِبَادَ اللهِ: مِمَّا لا شَكَّ فِيهِ بأَنَّ نِعَمَ اللهِ -تعالى- عَلَينَا لا تُعَدُّ ولا تُحصَى, ولكنْ أَعظَمُ النِّعَمِ على الإطلاقِ: نِعمَةُ الإسلامِ ونِعمَةُ الإيمَانِ, قال تعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].
وقال تعالى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ) [الأنعام:125].
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:7].
يَا عِبَادَ اللهِ: فَكِّرُوا وَأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ, وهذا الضِّيقَ والكَربَ, وهذا المَكْرَ والخِدَاعَ, وهذا الغَلاءَ الفَاحِشَ, وهذهِ القَسْوَةَ التي تَمَكَّنَتْ في قُلُوبِ كَثِيرٍ من النَّاسِ, وهذهِ المُؤَامَرَةَ الفَاضِحَةَ, بأَنَّ اللهَ -تعالى- أَكرَمَكُم بِأَعظَمِ النِّعَمِ على الإطلاقِ, ألا وهيَ: نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ, وأنْ جَعَلَكُمُ اللهُ -تعالى- من أَهلِ القُرآنِ, ومن الذينَ قَالَ فِيهِم مَولانَا -عزَّ وجلَّ-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر:32].
يَا عِبَادَ اللهِ: اُنظُرُوا حَولَكُم فَإِنَّكُم تَجِدُونَ مِمَّن حَولَكُم في هذهِ الأَزمَةِ مَن فُتِنَ فِيهَا, فانقَلَبَ رَأساً على عَقِبٍ, وانطَبَقَ عَلَيهِ قَولُهُ تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) [الحج:11].
وانطَبَقَ عَلَيهِ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ, فِتَناً كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ, يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً, أَوْ يُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً, يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا" [رواه مسلم].
وأَنتُم بِفَضْلِ اللهِ -تعالى- عَلَيكُم نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ رَاسِخَةٌ في قُلُوبِكُم, أَمَا تَكفِي هذهِ النِّعمَةُ؟
يَا عِبَادَ اللهِ, يَا مَن تَتَقَلَّبُونَ على جَمْرٍ من نَارٍ في هذهِ الأَزمَةِ: اِصبِرُوا وصَابِرُوا, واثبُتُوا على الحَقِّ, واثبُتُوا على دِينِكُم وإسلامِكُم وإِيمَانِكُم, وصَدِّقُوا اللهَ -تعالى- القَائِلَ: (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) [آل عمران:74] لَقَدِ اختَصَّكُمُ اللهُ بِأَعظِمِ النِّعَمِ, ألا وهيَ نِعمَةُ الإسلامِ والإيمَانِ.
هذهِ النِّعمَةُ العَظِيمَةُ التي مَا عَرَفَ قَدْرَهَا كَثِيرٌ من النَّاسِ, لَقَد حَرَمَهَا اللهُ -تعالى- بَعضَ أَقَارِبِ سَادَاتِ الخَلْقِ من الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ.
يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ أَبَا طَالِبٍ عَمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- كَانَ من أَقرَبِ النَّاسِ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-, ولكِنَّهُ حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, وأَنتُم أَكرَمَكُمُ اللهُ -تعالى- بِهَا, أَمَا تَكفِيكُم هذهِ؟
أَمَا قَالَ لَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ-: "يَا عَمِّ, قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ, كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ" [رواه الشيخان].
ولكِنَّ عَمَّهُ لَم يَقُلْهَا, وأَنتَ بِفَضْلِ اللهِ -تعالى- تَقُولُهَا صَبَاحاً ومَسَاءً, أَمَا تَكفِيكَ هذهِ الكَلِمَةُ, وأَنتَ تَعِيشُ هذهِ الأَزمَةَ؟
يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ أَبَا سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, ولَم يَقُلْهَا عِندَمَا دَعَاهُ إِلَيهَا سَيِّدُنَا إبرَاهِيمُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ قال تعالى مُخبِراً عن هذا المَشْهَدِ: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:41-47].
يَا عِبَادَ اللهِ: أَمَا تَعلَمُونَ أنَّ وَلَدَ سَيِّدِنَا نُوحٍ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- قَد حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ, عِندَمَا دَعَاهُ إِلَيهَا سَيِّدُنَا نُوحٌ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-؟ قال تعالى مُخبِراً عن هذا المَشْهَدِ: (حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:40-43].
يَا عِبَادَ اللهِ: قَدِّرُوا نِعمَةَ اللهِ -تعالى- عَلَيكُم وأَنتُم تَعِيشُونَ هذهِ الأَزمَةَ, قَدِّرُوا نِعمَةَ الإسلامِ والإيمَانِ, وحَافِظُوا عَلَيهَا من الضَّيَاعِ في هذهِ الأَزمَةِ, فالنَّاسُ يُغَربَلُونَ في هذهِ الأَزمَةِ, كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً, يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ, وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا -وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ-" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ, فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ, وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ, وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ, وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ" [رواه أحمد].
أَنتُم في نِعمَةٍ عَظِيمَةٍ حُرِمَهَا عَمُّ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ- أَبُو طَالِبٍ, وحُرِمَهَا وَالِدُ سَيِّدِنَا إبرَاهِيمَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-, وحُرِمَهَا ابنُ سَيِّدِنَا نُوحٍ -عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-, فلا تَهِنُوا ولا تَحزَنُوا, وسَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا في الحَيَاةِ الدُّنيا وفي الآخِرَةِ، آمين.
أقُولُ هَذا القَولَ, وأستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم, فَاستَغفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.