العظيم
كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...
العربية
المؤلف | عبدالمحسن بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الصلاة |
المساجِدُ عزُّ المسلمين، وشرَفُهم وشعارُ دينهم، ومن عَمَرَها بالصلاةِ فيها والذكرِ، رفَعَه الله وأسعَدَه وشرَحَ صدرَه، وتعليمُ الكتابِ والسنةِ فيها امتِثالٌ لأمرِ الله ببنائها، وإحياءٌ لسنَّة المرسلين فيها، وبركةٌ في الوقتِ والعملِ، وصلاحٌ للنفسِ والولدِ، ومن حُرِم فيها من الخيرِ أو صدَّ عنه فقد فاتَهُ فضلٌ عظيم.
الخطبة الأولى:
إنّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرور أنفُسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتَّقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكُوا من الإسلام بالعُروَة الوُثقَى.
أيها المسلمون: فاضَلَ الله بين خلقهِ واختارَ ما شاء بفضلِه، وتعَبَّدَنا بمعرفة ما جاء النصُّ بتفضيلِه والامتِثالُ بالمشروعِ فيه، وللمُسلم في هذا باعِثٌ على السبقِ إلى الفضائل، والتنافُس على أعلى المراتب، ومنشَأُ التفاضُل بين الخلقِ التقوَى وتحقيق العبودية، وأفرادُ الجنس الواحد يتفاوَتُون في ذلك تفاوُتًا كبيرًا.
قال - عليه الصلاة والسلام - عن رجُلَين: «هذا خيرٌ من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا» (رواه البخاري).
والأرض منازلها على قَدر ذلك، وأحبُّها إلى الله مواطِن عبوديته، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ البلاد إلى الله مساجِدُها» (رواه مسلم).
وذلك لما خُصَّت به من العبادات والأذكار، واجتماع المؤمنين، وظُهور شعائِر الدين.
وأشرفُ المساجد وأعظمُها المسجد الحرام، أولُ مسجدٍ وُضِعَ في الأرض، وهو منارةُ هدايةٍ للناس، (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]، أوجَبَ الله حجَّه والطوافَ به وجعَلَه قبلةً لعباده المؤمنين، والصلاةُ فيه بمائة ألفِ صلاةٍ فيما سِواه.
وثاني المساجدِ فضلاً مسجِدُه - عليه الصلاة والسلام -، مسجِدٌ أسِّسَ على التقوَى من أول يوم، وصلاةُ فيه خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سِواه إلى المسجد الحرام، وهو آخرُ مسجِدٍ بنَاه نبيٌّ.
والمسجِدُ الأقصى أُولى القبلَتَين ومسرَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وُضِعَ في الأرض بعد المسجِدِ الحرام.
وإلى هذه المساجد الثلاثة تُشدُّ الرِّحالِ دون سِواها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تُشدُّ الرحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجِدي هذا، ومسجِد الحرام، ومسجِد الأقصى» (متفقٌ عليه).
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "وما سِوَى هذه المساجد لا يُشرع السفرُ إليه باتِّفاق أهل العلم".
ومسجِدُ قُباء أُسِّس على التقوَى من أول يومٍ، وكان - عليه الصلاة والسلام - يأتِيه كل سبتٍ ماشِيًا وراكِبًا، و«من تطَهَّر في بيتهِ ثم أتى مسجِدَ قُباء فصلَّى فيه صلاةً كان له كأجر عمرة» (رواه ابن ماجه).
وليس في الأرض مسجِدٌ له مزيدُ فضلٍ سِوى الثلاثة مساجِد ومسجِد قُباء، وما سِوى ذلك فلها حكم سائر المساجد.
المساجِد بيوتُ الله أضافها لنفسه تشريفًا وتكريمًا، وأكثَرَ من ذكرِها، عُمَّارُها هم صفوةُ الخلق من الأنبياء وأتباعهم، قال - سبحانه -: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة: 127].
وحين وصَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى قُباء بنى مسجِدَها، ولما نزَلَ المدينة بنى مسجِدَه.
جعَلَ الله من مقاصِد سُنَّةِ التدافُع بين الناسِ سلامتها وحفظَها، قال الله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) [الحج: 40].
بناؤها قُربةٌ وعبادةٌ، وعَدَ الله مَن بنَاها بالجنة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من بنَى مسجِدًا لله بنَى الله له في الجنة مثلَه» (متفقٌ عليه).
قاصِدُها أجرُه عظيم، «له بكلِّ خطوةٍ يخطُوها حسنة، ويرفعُه بها درجة، ويحُطُّ عنه بها سيئة» (رواه مسلم.
بل ورجُوعُه منها إلى بيته يُكتَبُ له مثل ذلك، قال رجُلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أريدُ أن يُكتَبَ لي ممشَايَ من المسجِدِ ورجُوعِي إذا رجَعتُ إلى أهلي، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «قد جمَعَ الله لك ذلك كلَّه» (رواه مسلم).
ومن الرِّباطِ: كثرةُ الخُطا إليها وانتظار الصلوات فيها، «ومن غدَا إلى المسجد أو راحَ، أعدَّ الله له في الجنة نُزُلًا كلما غدَا أو راحَ» (متفقٌ عليه).
و«أعظمُ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعَدُهم فأبعَدُهم ممشَى، والذي ينتظِرُ الصلاةَ حتى يُصلِّيها مع الإمام أعظمُ أجرًا من الذي يُصلِّي ثم ينامُ» (متفقٌ عليه).
ومن أسباب مغفِرة الذنوب: المشيُ إليها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من توضَّأَ للصَّلاةِ فأسبغَ الوضوءَ ثمَّ مشى إلى الصَّلاةِ المَكتوبةِ، فصلاَّها معَ النَّاسِ أو معَ الجماعةِ أو في المسجدِ غفرَ اللَّهُ لَهُ ذنوبَهُ» (رواه مسلم).
لزُومُها ومحبَّتُها من أسباب الهدايةِ والصلاحِ، ومن السبعةِ الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظلُّه: رجلٌ قلبه مُعلَّقٌ في المساجد.
قال النوويُّ - رحمه الله -: "ومعناه: شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعة فيها".
«وإذا دخل المسلم المسجد كان في صلاةٍ ما كانَت الصلاةُ تحبِسُه، وتُصلِّي عليه الملائكةُ ما دامَ في مجلِسِه الذي يُصلِّي فيه، تقولُ: اللهم اغفِر له، اللهم ارحَمه» (رواه البخاري).
المساجدُ مُعظَّمةٌ في سالِفِ الأمم، أمَرَ الله إبراهيمَ وإسماعيلَ بتطهير المسجد الحرام، فقال: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة: 125].
وامرأةُ عِمرَان نذَرَت ما في بطنِها لخدمةِ المسجِد الأقصى: (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) [آل عمران: 35].
والإسلامُ أعلَى مكانَتَها، وعظَّم من يقوم بخدمَتِها، سأَلَ - عليه الصلاة والسلام - عن امرأةٍ كانت تقُمُّ مسجِدَه فقالوا: ماتَت، فقال: «دلُّونِي على قبرِها»، فدلُّوه فصلَّى عليها (رواه البخاري).
ولما بالَ أعرابيٌ في المسجِدِ أمَرَ - عليه الصلاة والسلام - بذَنُوبٍ من ماءٍ فهُرِيقَ عليه، ثم علَّمَه حُرمَتَها وقال له: «إن هذه المساجد لا تصلُحُ لشيءٍ من هذا البول» (رواه مسلم).
ومن آداب المساجِدِ: أخذُ الزينَةِ لها: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31].
ومن تعظيمها: لزُوم السكينَةِ والوَقارِ في الهيئة والمِشيَةِ إليها، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا أُقيمت الصلاة فلا تأتُوها تسعَون وأْتُوها تمشُون عليكم السكينة، فما أدرَكتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتِمُّوا» (متفقٌ عليه).
وإذا وصَلَها تشريفًا لها يُقدِّم رِجلَه اليُمنَى عند دخولها، ولكونِها موطِنَ عبادةٍ ورحمةٍ ودُعاء إذا دخَلَها قال: «اللهم افتَح لي أبواب رحمتك»، وإذا خرَجَ قال: «اللهمَّ إني أسألُك من فضلِك» (رواه مسلم).
وتحيَّةً لها من دخَلَها لا يجلس حتى يُصلِّي ركعتين.
والأذان فيها عِصمةٌ وأمان، كان - عليه الصلاة والسلام - يستمِعُ للأذان في الغَزو، فإن سمِعَ أذانًا أمسَكَ، وإلا أغارَ.
والصفوفُ المُقدَّمةُ فيها يتنافَسُ إليها السابِقُون، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لو يعلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأوَّلِ ثمَّ لم يجِدوا إلاَّ أن يستَهِمُوا عليهِ لاستَهَمُوا» (رواه مسلم).
واحترامًا للفريضةِ فيها إذا أُقيمَت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتُوبة.
وبيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكمةَ من عِمارة المساجِد بقوله: «إنما هي لِذِكرِ اللهِ - عز وجل -، والصلاةِ، وقِراءةِ القرآنِ» (رواه مسلم).
وإحياؤها يكون بالذكرِ والعلمِ، قال - سبحانه -: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36].
وأثنَى الله على من عَمَرَها بالطاعةِ، ووصفهم بأنهم رجالٌ عصَمَهم الله من فتنةِ الدنيا: (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36، 37].
بل وشهِدَ لهم بالإيمانِ والهدايةِ، فقال - سبحانه -: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].
والملائكةُ تشهَدُ المساجِدَ وتستمِعُ للخُطب وتحُفُّ مجالسَ العلمِ فيها، «وما اجتَمَعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ، يتلُون كتابَ اللهِ، ويتدارَسُونه بينهم إلا نزَلَتْ عليهم السكِينةُ، وغشِيَتْهم الرحمةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذكَرَهم اللهُ فيمن عنده» (رواه مسلم).
وتلقِّي العلمَ فيها خيرٌ من متاعِ الدنيا، قال - عليه الصلاة والسلام -: «أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجدِ فيعلَمُ - أي: يتعلَّم - أو يقرأُ آيتيْنِ من كتابِ اللهِ خيرٌ لهُ من ناقَتَيْنِ، وثلاثٌ خيرٌ لهُ من ثلاثٍ، وأربعٌ خيرٌ لهُ من أربع، ومن أعدادِهنَّ من الإبلِ» (رواه مسلم).
وقد اتَّخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مسجِدِه موطِنًا للتعليم، فأثمَرَ جيلاً لا كان ولا يكون مثله.
وكان يحُثُّ على الإقبالِ على حِلَقِ الذكرِ والعلمِ فيه، فقال عن ثلاثة نَفَر: «أمَّا أحدُهم فأَوَى إلى اللهِ فآوَاه اللهُ، وأمَّا الآخرُ فاستَحيَا فاستَحيَا اللهُ منه، وأمَّا الآخرُ فأعرضَ فأعرضَ اللهُ عنه» (متفقٌ عليه).
المساجِدُ تهدأُ فيها الروحُ وتسكُنُ فلا يُرفع فيها صوتُ نزاعٍ أو خُصومةٍ أو لغَط، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم وهيشَات الأسواقِ» - أي: لا تكونُ في المساجد - (رواه مسلم).
ولمّا سمِعَ عُمر - رضي الله عنه - رجُلَين يرفعَان أصواتَهما في المسجد دعَا بهما ثم قال: "لو كنتُما من أهل البلَدِ لأوجَعتُكُما، ترفَعَان صوتَكُما في مسجِدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -" (رواه البخاري).
وهي مكانُ الأمن والأمان والطمأنينة، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من مَرَّ في شيءٍ من مساجِدِنا أو أسواقِنا بنَبلٍ، فليأخُذْ على نِصالِها، لا يعقِرْ بكفِّه مُسلِمًا» (متفقٌ عليه).
وتعظيمًا لشأنِ المُتعبِّدِ فيها لا يُؤذَى ولو باللَّمس؛ جاء رجلٌ يتخطَّى رقابَ الناس يوم الجمعة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجلِس فقد آذَيتَ» (رواه أبو داود).
بل لا يُؤذَى بشمِّ رائحةٍ يكرَهُها، وعاقَبَ من كان ذا رائحةٍ كريهةٍ ألا يدخُل المسجِدَ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من أكل ثُومًا أو بصلاً فليَعتزِلنا، أو ليعتزِلَ مسجدَنا، وليقعد في بيتِه» (متفقٌ عليه).
قال ابنُ الأثير - رحمه الله -: "ليس ذلك من باب الأعذار، وإنما أمَرَهم بالاعتِزال عقوبةً لهم ونكالاً".
وهي موطِنُ الراحة وتذكُّر الآخرة، وتقوِيَة الصِّلَة بالله، والبُعد عن الدنيا؛ فنُهِيَ عن البيع والشراء فيها وزُجِرَ عن ذلك، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا رأيتُم من يبيعُ أو يبتاعُ في المسجدِ، فقولوا: لا أربَحَ اللهُ تجارتَك» (رواه الترمذي).
بل نهَى عن إشغالِ الناس بهمُوم الدنيا، فقال: «من سمِعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجد فليقُل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا» (رواه مسلم).
ولكَون المسجد مُنطلَق السعادة والسدادِ، كان - عليه الصلاة والسلام - إذا قدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد فصلَّى فيه (رواه البخاري).
وأولُ واجبٍ على كل عبدٍ: إخلاصُ دينه لله، وألا يدعُو في المساجد أو غيرها سِوَى الله، قال - سبحانه -: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18].
وهي محلُّ انتِفاع الأحياء بها، وإدخالُ القبور فيها يُنافِي ذلك، ووسيلةٌ إلى عبادةِ غيرِ الله.
والمعصيةُ قبيحةٌ في كل زمانٍ ومكانٍ، وتزدادُ قُبحًا في بيوتِ الله؛ كالغِيبةِ، والنظرِ إلى الحرام، وسماعِ أصواتِ المعازِفِ في وسائل الاتصال.
ومن مقاصِدِ الشريعة في المساجد: ائتِلافُ القلوب واجتِماعُ الكلِمة، فلا يجوز أن يُتَّخذَ منها أو فيها فُرقةً واختِلافًا، قال - جلَّ وعلا -: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) [التوبة: 107].
ومن بنَى أبِنيةً يُضاهِي بها المساجدَ من المشاهد ونحوها، فهي كمسجِد الضِّرار وأشدُّ، ومن أصولِ الدين ألا تُختصُّ بُقعة بقِصدِ العبادة فيها إلا المساجِد خاصَّة، والمساجِدُ جميعُها تشترِكُ في العباداتِ إلا ما خُصَّ به المسجد الحرام من الطوافِ.
وبعدُ .. أيها المسلمون:
فالمساجِدُ عزُّ المسلمين، وشرَفُهم وشعارُ دينهم، ومن عَمَرَها بالصلاةِ فيها والذكرِ، رفَعَه الله وأسعَدَه وشرَحَ صدرَه، وتعليمُ الكتابِ والسنةِ فيها امتِثالٌ لأمرِ الله ببنائها، وإحياءٌ لسنَّة المرسلين فيها، وبركةٌ في الوقتِ والعملِ، وصلاحٌ للنفسِ والولدِ، ومن حُرِم فيها من الخيرِ أو صدَّ عنه فقد فاتَهُ فضلٌ عظيم.
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) [الأعراف: 29].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولجميعِ المُسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون: صلاةُ الجماعة في المساجِد من شعائِر الإسلام ومن الواجِبات، وقد همَّ - عليه الصلاة والسلام - بإحراقِ من تخلَّفَ عنها، وعُدَّ تركُها من صفاتِ المُنافقين، ولم يأذَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لرجُلٍ أعمى لا قائِدَ له أن يتخلَّف عنها.
والإسلامُ شامِخٌ عزيزٌ بمساجِده وأحكامه وبالمؤمنين، إن حُورِب اشتدَّ، وإن تُرِك امتدَّ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليبلُغَنَّ هذا الأمرُ - أي: أمر الإسلام - ما بلَغَ الليلُ والنهارُ، ولا يترُكُ اللهُ بيتَ مدَرٍ - أي: بيتًا في مدينةٍ -، ولا وبَرٍ - أي: بيتًا من شَعر في باديةٍ - إلا أدخَلَه اللهُ هذا الدينَ» (رواه أحمد.
أي: سيدخُلُ اسمُ الإسلام جميع بيوت الأرض من حاضِرةٍ وباديةٍ، ولن يستطيعَ أحدٌ أن يمنَعَ ظُهُوره، قال - سبحانه -: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) [التوبة: 32].
قال ابنُ كثيرٍ - رحمه الله -: "مثَلُهم في ذلك كمثَل من يُريدُ أن يُطفِئ شُعاعَ الشمس أو نورَ القمر بنفخِه، وهذا لا سبيلَ إليه، فكذلك ما أرسلَ الله به رسولَه لا بُدَّ أن يتِمَّ ويظهَر، ولهذا قال: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32]".
وما يتوالَى على المسلمين من فِتنٍ، وحروبٍ، ودمارٍ، وتشريدٍ، وتسليطِ الأعداء تذكيرُ بالرجوعِ إلى الله والمساجِد، والصلواتِ، والقرآن، قال - سبحانه -: (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وقد وعَدَ الله بنصرِ المؤمنين وإن ضعُفَت الأسبابُ أو تخَّلَفت؛ فنصَرَ - سبحانه - المسلمين في بدرٍ وهم قِلَّة، واجتمَعَ المشركون من كل مكانٍ على مُحاصَرَة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتالِهِ، فأرسلَ عليهم يوم الأحزابِ ريحًا وجنودًا لم يرَوها، فتفرَّق المشركون وخُذِلُوا.
والله قادِرٌ على نصرِ عبادِه المؤمنين، ولحكمةِ الابتِلاء لهم قد يُدِيلُ عليهم الأعداءَ لينالَ المسلمون الشهادةَ، والصبرَ على المُصاب، والتعلَّق بالله، قال - سبحانه -: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) [محمد: 4]، وقال - سبحانه - عن أعدائِهم: (فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم: 84].
والدعاءُ سلاحُ المؤمنين في السرَّاء والضرَّاء، والطاعةُ تجلِبُ النصرَ وتُعجِّلُ به، وإذا اشتدَّ الكربُ وعظُمَ الخَطبُ أتَى الفرَجُ، (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) [الأنعام: 132].
ثم اعلَموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الراشِدين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلُون: أبي بكرٍ، وعُمرَ، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّر أعداءَ الدين، واجعَل اللهم هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا رخاءً، وسائرَ بلادِ المُسلمين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم عجِّل لهم بالفرَجِ والنصرِ والتمكينِ يا رب العالمين.
اللهم وأدِر دوائِرَ السَّوء على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم زلزِلِ الأرضَ من تحت أقدامِهم، وألْقِ الرُّعبَ في قلوبهم يا قوي يا عزيز.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم وفِّق إمامَنا لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك، ووفِّق جميعَ وُلاة أمورِ المسلمين للعمل بكتابِك وتحكيم شرعِك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أمِّن حدودَنا، واحفَظ بلادَنا، واصرِف عنها كل مكروهٍ وفتنٍ يا ذا الجلال والإكرام.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].
فاذكُروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكرُوه على آلائِه ونعمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.