المتين
كلمة (المتين) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل على وزن (فعيل) وهو...
العربية
المؤلف | عبد البديع أبو هاشم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - الأعياد الممنوعة |
أمة كاملة لكن عمرها طويل جدا، ومع ذلك من بلاغة القرآن، ومن إعجاز الله لخلقه: يجمع هذه القصة في صفحة ونصف، وقادر على أن يجمعها في أقل من ذلك، لكن يريد أن يقدم لنا من خلالها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، نحمده -سبحانه وتعالى- ونستعينه، ونتوب إليه، ونستهديه، ونستغفره ونعوذ به -سبحانه- من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق بقدرته، وتابعهم رحمة بعنايته، وشرع لهم ما يهديهم إلى ربهم في كل طريق بالطريقة الأقوم، والسبيل الأعظم.
وأشهد أن نبينا عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
نشهد أنه بلغ وأوذي وصبر وما اشتكى إلى ربه، ولكن كان يدعو ربه بالرحمة على قومه مهما أذوه، فكان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، صلوات ربي وسلامه على نبي الرحمة، ورسول الهدى، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن يهديه اهتدى، وصل علينا برحمتك يا رب العالمين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: فقد كنا في لقائنا السابق مع "سورة المعارج"، وفيها بين الله لنا عناد الكافرين من هذه الأمة حتى استعجلوا عذاب الله -سبحانه-، حتى سأل سائل هو بعذاب، هو عذاب واقع، لم يتأخر، لم يتخلف عن موعده، ومع ذلك يسألونه ويستعجلونه إنكارا له، واستبعادا له، وتكذيبا بما يوعدون به، بلغوا في العناد مبلغا عظيما، وتوعدهم الله -تبارك وتعالى- في نهاية السورة، فقال: (َذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) [الزخرف: 83]، وقبلها يقول سبحانه وتعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [المعارج: 40 - 41].
جاءت من بعد "سورة المعارج" "سورة نوح" لتحذر أولئك الأغبياء السفهاء الذين لا ينتبهون للحقائق الواقعة في حياتهم، والسوابق التاريخية التي مضى بها الزمان لا يعتبرون بغيرهم، فإن الذي يكفرون به، ويردون شرعه، هو الذي فعل بقوم نوح ما تسمعون في "سورة نوح".
ففي "سورة نوح" تثبيت لقلب النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إن كنت قد آذيت يا محمد -صلى الله عليه وسلمَ- فقد أوذي من قبل نوح إيذاء شديد، فاسمع فهذا خبره، وإن كنتم تكذبون وتعندون، فاعلموا: أن الله أهلك من كان قبلكم، وأهلك أمثالكم وأشياعكم، وأكثر منكم وَأَشَدَّ قُوَّةً.
واعلموا: أن هذه سنة الله -سبحانه وتعالى- في خلقه، الخلق خلقه، والكون كونه، إذاً، الأمر أمره، والقانون قانونه، والتشريع تشريعه، رضيتم بهذا سعدتم ونعمتم، أبيتم هذا فليس إلا العذاب والضنك والهلاك: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) [نوح: 28].
ف"سورة نوح" -أيها الإخوة الكرام- جاءت من بعد "سورة المعارج" لتحمل هذه المعاني، ولتعط لكل واحد درسا وعبرة، النبي الداعي -صلى الله عليه وسلمَ- بما يلاقي من أذى يجد أمام نوح قد أوذي كثيرا، وكذب طويلا، فيرى ما يقع له هو أقل بكثير مما وقع لغيره كنوح -عليه السلام-، ورسالة إلى المؤمنين القلة المستضعفين في مكة، وإن كنتم قلة مستضعفين مستذلين من الكافرين، فاعلموا أن النصر لكم، والنصر عند الله لا يحتاج إلى عدد ولا قوة سواعد، ولا إلى قوة آلات، فقد نجا الله المؤمنين، وأنعم عليهم بمغفرته ورحمته، وكانوا في حدود الثمانية، وقيل: ثمانية عشر إنسانا، وقيل: ثمانين، فعلى أقصى تقدير: كان مع نوح من المؤمنين ثمانين مؤمنا، حفظهم الله -تعالى- بعد أن أهلك الجميع، حفظهم الله -تعالى- والموت يحيط بهم من كل جانب، ويأتيهم من كل طريق، فيتوقف عندهم، ويصيبهم في سفينة تجري بهم في موج كالجبال.
ونجى نوحا والمؤمنين معه، فسينجو رسولكم -صلى الله عليه وسلمَ- وتنجون يا مؤمنون في كل عصر مهما كنتم متمسكين بدينكم، وطالما أنكم قابضون على شريعة ربكم، لا ترضون بها بديلا، الله ناصركم رغم قلتكم، ورغم ضعفكم، ورغم هوانكم على الناس: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 35].
ورسالة إلى الكافرين: تشعرون بأنكم أقوياء، والأمر بأيديكم، والقرار لكم في مكة، تفعلون ما تشاؤون تضربون هذا، وتجلدون ذاك، وتضعون الصخر على صدر بلال -رضي َالله عنه-: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]، ما ضروا أحدا في شيء، لماذا تؤذوهم؟ تؤذوا من عرفتم فيه قيم الصدق والأمانة، دون أن تجدوها في أحد؟! الآن صار كاذبا، صار خائنا؟! كيف هذا؟!
اعلموا: أن الله أهلك من كان قبلكم وعذبهم، وأخرجهم من الدنيا تماما، وأهلكهم، واستبدل بهم قوما آخرين من نسلهم، أو من نسل المؤمنين، ولكن هؤلاء ماتوا وانقطع نسلهم، ولم يبق لهم ذكر في الدنيا إلا باللعنة، وما عادوا في التاريخ إلا عبرة لغيرهم، وها هي آخر الأمم يضرب الله مثلا لقوم نوح، وهو من أوائل الأنبياء في الدنيا -عليه سلام الله-.
"سورة المعارج" لما تكلمت أو أشارت في أولها وآخرها إلى قدرة الله العظيمة، فهو ذو المعارج، عرفنا أن المعارج هي مصاعد الملائكة بأمر الله من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى الأرض، ينزلون في مسار معين، هذا المسار بعده على وجه الأرض مشيا بقدرة الإنسان، وبسرعة مشي الإنسان مسافة تقضى في خمسين ألف سنة، فالله عال جدا، متعال فوق خلقه، قادر قاهر للظلم. إذاً، أين قدرته؟ مثال على قدرته فيما فعل في قوم نوح، وفيما نصر به نوح -عليه السلام-، صنع سفينة في أرض يابسة، وأنزل الله له الماء من السماء، وأخرجه من الأرض: (فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر: 12]، تناسب جميل رائع بين "سورة المعارج" وبين "نوح"، تسلسل حكيم مما يدلنا -أحبتي في الله- على أن ترتيب سور القرآن إنما هو من عند الله -عز وجل- لو كان من عند البشر مهما كانت علومهم، ما كانوا ليراعوا هذه المناسبات، وهذا الترابط.
"سورة نوح" هكذا سماها الله -عز وجل- أيضا، فأسماء السور من عند الله، وإلا لتعددت الأسماء، واختلفت بين بلد وبلد، وبين زمان وزمان، سماها "سورة نوح" وضع عليها عنوان نبيه -عليه السلام- "نوح"، ولكن كلمة: "نوح" في اللغة من "النياحة"، والنياحة تكون عند الحزن، وكأنها تشير إلى ما يعانيه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- والمؤمنون بمكة، والمؤمنون في كل عصر يعانونه من الكافرين من العناء والأحزان التي ينوح من مثلها الرجال، ومع ذلك فالمؤمنون صابرون، فالمؤمنون على دينهم قابضون لا يفلتونه ولا يتركونه، إنما أقوياء ينتظرون نصر الله -عز وجل- في عزة وكرامة.
هذا شأن المؤمنين الذين اتبعوا الرسل والنبيين -عليهم الصلاة والسلام-، فكان عندهم من الأحزان ما ينوح من مثلها الرجال، وما يتزلزل منه الجبال، قال تعالى عن الكفار: (وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ) أي مكرهم معروف عند الله -عز وجل- من قبل أن يمكروه، ولكن يعبر عن هول مكرهم، فيقول: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46]، مكرهم قد يزلزل الجبال، ولكنه لا يعظم على الله، ولا يعز على الله، فلو شاء لأوقفه، ولو شاء الله ما مكروا، ولو شاء لمنعهم. فمكرهم شديد، والمؤمن صابر، لكن نريد أن نصبر في عزة وفي كرامة، الكل يتنازع، أهل الحق، صدق رسولنا -عليه الصلاة والسلام-: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم"، وها أنتم تقرؤون التاريخ ويدرس في المدارس في الحملة الفرنسية على كذا وكل إمبراطورية ترفع رأسها في الدنيا تريد أن تأخذ أرض المسلمين، وثروات المسلمين، بل قلوب المسلمين أيضا وإلا فلتقطع رقاب المسلمين.
والخطر القادم الذي لوح منذ أيام ورفع رأسه: "الشيعة"، إنهم يريدونها إمبراطورية تاريخية، يريدون أمجاد الفرس؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وجنده من بعده طهروا الدنيا والأرض من كل شرك بالله، دعوا الناس إلى الإسلام بالعدل والحق، فمن قبل أن يسلم فمرحب به، ومن أبى فعليه أن يسالم وإن لم يسلم، فإن حارب حورب، وإن قاتل قوتل، وإن دافع يدفع، لماذا؟ ليس لغرض شخصي، ولا لتحقيق إمبراطورية إسلامية، ولا شيء من هذا الذي يدعونه الملوك في الدنيا، إنما ليحكم قول الله وعباد الله بشرع الله، وأظن أن عاقلا لا يرفض ذلك، والعقلاء قالوا بعقولهم وبالحوادث التي رأوها في الدنيا: "من حكم في ماله ما ظلم"، وكل منا يأبى أن يتدخل أحد ليحكمه في أسرته وبيته.
إذاً، لماذا يستعظم الناس أن يحكم الله خلقه وأرضه بشرعه وهديه، وهو الغني العليم، وهو الحكيم، وهو الرحمن الرحيم الذي لا يريد منا شيئا، ولا يجمع من ورائنا أمراً، إلا أنه يسعدنا في الدنيا، ليسعدنا أكثر وأكثر في جنة عرضها السموات والأرض يوم القيامة.
فأي قانون أنفع للبشر؟ وأي قانون أحكم لقيادة الدنيا؟ إنه القانون الغني الذي لا يريد منا شيئا، إنه القانون العلي الذي لا يخفى عليه شيئا من خلقه، إنه قانون الرحمن الرحيم الذي يعامل خلقه برحمته المطلقة في الدنيا والآخرة.
"سورة نوح" وقد لاقى الأنبياء كلهم من الأحزان والابتزاز من أقوامهم أحزانا بكم هائل، وأحجام كبيرة، تزلزل الجبال، وتنوح الرجال، ولكن الله يسمي الأنبياء: أهل العزم، ويقول للنبي -صلى الله عليه وسلمَ- أن يصبر مثلهم: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، اصبر وصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- كما شهد له: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ) بأية رحمة هذه؟! من أين لك بهذه الرحمة العظيمة الكبيرة الضخمة التي وسعت بها هؤلاء، وإيذائهم وكرههم، فكنت لينا معهم، لست قاسيا، لست قاهرا، لست ظالما، لست بطاشا، إنما كان رحمة على الناس: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159] -طبعا- بالتأكيد مثل هذه السورة، وفيها ضرب المثال للنبي -عليه الصلاة والسلام- بنوح وللمؤمنين وبالمؤمنين مع نوح، وللكافرين بالكافرين مع نوح، هذه السورة بهذا الشكل لا شك أنها مكية نزلت قبل الهجرة، والنبي -صلى الله عليه وسلمَ- والمؤمنون معه يعانون من هذا الأذى، ويعيشون تلك الحياة التي ملئت بالأضرار والمهاجمة والمواجهة الشرسة من الكافرين، ذلك ليصبرهم الله -تعالى-، وليأخذ كلا عبرته بنفسه، فالسورة مكية نزلت قبل الهجرة، وهذا كان زمانها المناسب، وتعالت وتجلت رحمة وحكمة ربنا العظيم.
بدأت "سورة نوح" بالإخبار عن بعثة نوح -عليه السلام-، سورة صغيرة من صفحة ونصف في بعض الطبعات، لكنها جمعت قصة حياة دامت ألف سنة إلا خمسين عاما، تسعمائة وخمسون عاما من الدعوة والمواجهة والمناقشة والمجادلة والأذى والصبر، وهكذا دعوة في كل جوانبها من أول أن بعث الله نوحا -عليه السلام- إلا أن حل العقاب على قومه.
أمة كاملة لكن عمرها طويل جدا، ومع ذلك من بلاغة القرآن، ومن إعجاز الله لخلقه: يجمع هذه القصة في صفحة ونصف، وقادر على أن يجمعها في أقل من ذلك، لكن يريد أن يقدم لنا من خلالها عبرة، فأطال الكلام بعض الشيء، قال تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) الأنبياء جاؤوا ليحذروا البشرية من الأخطار التي تدهمهم وتفاجئهم وتهلكهم: (أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [نوح: 1]، الأنبياء أهل طاعة يطيعون الله -تعالى- فيما أمرهم، ويسعدون بذلك، ويتشرفون به، قام نوح على الفور ككل نبي من بعده أيضا: (قَالَ يَا قَوْمِ) بكل حب وبكل رحمة: (يَا قَوْمِ)، رغم أنهم ضُلال، جُهال، سيكفرون إلا أنه يتباسط معهم في الدعوة، يجعل نفسه منهم، وهم منه: (يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) [نوح: 2]، إني نذير لكم من عند الله -سبحانه وتعالى- من عذاب ينتظركم، فاتقوا الله واسمعوا ما أقول لكم، وأطيعوني فيما أمركم به.
هكذا يدعوهم برحمة، ويبين لهم أن الدنيا منقضية، وأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، لا يمده شيء، ولا يؤخره أحد، إذا جاء فقد جاء، حسم وحزم قاطع: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [نوح: 4]، لو كنتم تدركون هذا؟ فمن وقائع الحياة يستطيع الإنسان العاقل يستشف أن أجل الإنسان إذا جاءه لا يؤخره شيء، ولا يستعجله شيء، فهذا قتل نفسه، أو قتله غيره، فلم يمت طعنا، ولم يمت سما، ولم يمت وعاش بعدها فترة ثم مات، إذاً، حينما أراد أحد أن يقضي أجله وأجله ما يزال ممدودا لا يستطيع هذا القاطع أن يقضي أجلا أجله الله، فيبقى الحي حيا إلى ما شاء الله، وهذا في فرحة، في نشوة، في قوة، في راحة، في نعمة ويأخذه الموت فجأة، أين أسباب الموت؟ لا يعلم، صغير في السن، منعم، مرفه، قوي بصحته، مبتسم، لا اكتئاب ولا حزن، ولا شيء، مما يصيب الإنسان بسكتة، ولا فجأة يموت فيها، إنما مات دون أسباب نراها.
إذاً، الموت ليس بأيدينا، وليس له توقيت محدد لا نعلمه: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [نوح: 4]، دعوة حكيمة رحيمة حانية عاطفة على قوم نوح، هذا ملخصها، هذا مجملها، هذا هو الإطار العام الذي كانت فيه دعوة نوح لقومه لكنهم بعد زمان طويل، وعمل شديد من نوح -عليه السلام- في دعوتهم كذبوا، فقام نوح يعتذر إلى ربه، لا ليعلم ربه ما حدث، فالله يعلم كل شيء، وإنما الأنبياء والدعاة يريدون أن يعذروا لأنفسهم عند الله، يا رب فعلنا ولم يستجب لنا أحد، بلغنا دينك ولم يجبنا أحد، أو أجابنا قليل، ولم يجبنا الكثير، فإنه يقدم العذر لربه قبل يوم القيامة؛ لأنهم سيسألون: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) [المائدة: 109]؟ ماذا أُجبتم من أقوامكم؟ ماذا فعلوا معكم؟ وماذا فعلتم معهم؟ مراجعة حتى للأنبياء والمرسلين، ففي الدنيا يقدمون عذرا لله، يقدمون عذرا لهم عند الله -تبارك وتعالى-، فقام نوح يقول: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا) [نوح: 5]، انظر كيف صور القرآن دعوة نوح كيف كانت؟ كان نوح -عليه السلام- يعمل في دأب يعمل عملا متواصلا، وكذلك الأنبياء جميعا لم يقصروا ولم يوفروا جهدا أبداً.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا) [نوح: 5 - 6]، من العناء والكبر (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ) سدوا أذانهم حتى لا يسمعوا بمبالغة يكادون يدخلون أصابعهم كلها في آذانهم وليس بفاعلين، وكأنهم لو استطاعوا لفعلوا،، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يروا أشكال الأنبياء النيرة، لئلا يروا تلك الأضواء المباركة، فعيونهم خبيثة لا تتلاءم مع هذا الجو النظيف. تغمض عينيك لكي لا ترى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟! والله إننا لنتمنى رؤية نبينا في المنام، ونرجو الله أن يرزقنا صحبته يوم القيامة: (وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح: 7]، إذاً، ليس العيب في الوحي، إنه كلما دعاهم به زادهم عنادا واستكبرا: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا)، ليس العيب في الدعاء، ولا في الدعوة التي يبلغها، ولا في الرسالة التي يدعو إليها، إنما العيب فيهم هم، هم لا يريدون أن يغيروا أنفسهم، هم هكذا وانتهى الأمر، لا يقبلون شيئا جديدا، ولا تطورا، ولا تقدما، ولا رقيا ولا نظافة، ولا طهارة ولا زكاة، ولا شيئا، رضوا بحالهم. فالعيب فيهم هم: (كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) [نوح: 7]، (ثُمَّ) بعد فترة، بعد جهد كبير، بعد بُعد معنوي ومادي: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 9]، قد يكون الجهار أنه يدعو واحدا جهرة ليس سرا، أو يدعو مجموعة صغيرة: (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ) جميعا، خطاب عام لهذا الشعب الضال: (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) بالسر أيضا يكلمهم، ماذا بقي بعد ذلك؟! لم يترك نوح حالا ولا هيئة ولا طريقا ولا طريقة إلا كلمهم بها ودعاهم.
(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 9]، وذكر الله -تعالى- نموذجا مما كان يقوله نوح -عليه السلام- لقومه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) بمعنى: استغفروا الله العظيم، كلمة صغيرة باللسان لا جهد ولا وقت، وحركة خفية في القلب: أن أندم على ذنوبي، وأتمنى أن يغفرها الله لي، وأن يسامحني، لأفتح معه صفحة جديدة. ماذا في ذلك؟ أي تعب؟ أي جهد؟ أي بذل؟ لا شيء، في منتهى البساطة، دين الله -تعالى- بسيط جدا، لا يعطل حياتنا، ولا يأخذ قوتنا، ولا يأخذ أموالنا، فعلام ينكر الناس دين الله؟ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، والاستغفار يكون باللسان والقلب، والقلب فيه ندم على ما فات، ورجاء في الصفح فيما هو آت، واللسان يترجم ذلك في كلمة: "أستغفر الله العظيم"، يا رب أذنبت وأنا عبدك أذنبت، فلمن أذهب، أنت غفار الذنوب، اغفر لي؟ قلها بأي صيغة، وسيد الاستغفار معروف في ديننا: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك..."، هذه أفضل صيغة الاستغفار، ولكن غيرها يكفي ويجزي: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23] أي صيغة تستسيغها وتكلم بها ربك، لا جهد ولا عناء ولا تعب ولا نكد، ومع ذلك: (إِنَّهُ كَانَ) أي لأنه كان غفارا، الله اسمه: الغفور والغفار، فإنه سبحانه وتعالى يحب المغفرة، ويحب أن يفعل هذه الصفة في عباده، والذين أعرضوا عنه ولم يستغفروه وأسرفوا في الذنوب والعصيان، ماذا عليهم وهم بعيد، وليذهبوا إلى الجحيم، فالله غني عن العالمين، ولكن لا، ناد عليهم بنداء الرحمة، بنداء هذه الصفة: "المغفرة": (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]، والله يفرح بتوبة عبده أشد فرحا من أحدنا يضل راحلته في الصحراء، وعليها زاده ومتاعه، ويبحث عنها حتى ييأس من وجودها، فيستظل بظل شجرة، وينام، ثم يقوم فجأة، فإذا بدابته قائمة عند رأسه، وعليها زاده ومتاعه، لم ينقص شيئا منها، ما مدى فرحة هذا العبد؟ فرحة عظيمة، قام يشكر ربه على تلك النعمة أن عادت دابته وماله وزاده، فقام يشكر ربه، فمن شدة الفرحة ذهل قلبه، وذل لسانه، فقام يقول: "اللهم أنت ربي وأنا عبدك"، فأخطأ لسانه: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"، وما درى ماذا قال. العبد يذهل من شدة الفرح، ولكن الله لا يذهل مهما اشتد الفرح، لكنه يفرح أكثر من فرح هذا العبد إذا عبده إليه وهو الغني –سبحانه وتعالى-، بينما أنا وأنت فقراء إلى دوابنا لتحملنا، ولأن عليها زادنا ومتاعنا فنحن فقراء، إذاً، نفرح لكن الله أشد فرحا منا وهو الغني.
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) [نوح: 10]، وستنالون سعادة ونعمة بهذا الاستغفار، بهذه العودة، بهذا الإقبال على الله: (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) [نوح: 11]، وإذا نزل المطر في أرض لا ماء فيها أنبتت الأرض، و (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [الحج: 5]، وكثر الخير، وامتلأت المراعي بالنباتات، والأعشاب، ووجدت الأنعام طعامها جاهزا معدا من عند الله، فتسمن المواشي والأنعام، وتمتلئ الضروع بالألبان، فيشرب الإنسان من ألبانها، ويأكل من لحومها، ويلبس من جلودها، ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها متاعا لكم. وهكذا كل ذلك بانتعاشة اقتصادية عظيمة، ماذا فعل هؤلاء الناس؟ استغفروا ربهم، معادلة في منتهى البساطة في منتهى الربح، صفقة رابحة: (يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا) [نوح: 11]، ليس هذا فحسب: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ) [نوح: 12]، تصلح الأرحام، ويمتد النفس، ويكثر بالاستغفار، بالتوبة إلى الله، بالإقبال على شريعة الله -تعالى- تصلح الحياة بكل جوانبها، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ) أي في الأرض (لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 12]، كل ذلك وغيره لا يساوي نظرة واحدة فيما أعد الله للمستغفرين التائبين المقبلين عليه في الجنة في الآخرة، هذا في الدنيا فقط تصلح دنياكم مؤقتا حتى تلاقوا يومكم هناك في الجنة وتروا ربكم -عز وجل-.
وأنكر عليهم عنادهم، ظلوا مع هذه التذكرة، وهذه الدعوة معارضين كافرين مستكبرين، فأنكر عليهم ذلك: (مَّا لَكُمْ)؟ يعني إيش فيكم؟ ما دهاكم؟ ما الذي حصل لكم؟ (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [نوح: 13]؟ لماذا لا تعظمون أمر الله؟ انظروا في الواقع الذي عميتم عنه يا كفار الذي لم تنظروا فيه، ولم تعقلوه فلم تعرفوه، (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) [نوح: 14]، انظر نعمة الله عليك في خلقك في بطن أمك خلقك أطوارا، نعمة جليلة كيف حول هذه النطفة إلى مضغة، وهذه المضغة إلى علقة، وهذه العلقة إلى هيكل عظمي، ثم هذا الهيكل كساه لحما، ثم أنشأ هذا الهيكل خلقا وشكلا آخر، وصورك في أحسن تقويم، وصورك في أي صورة ما شاء ركبك.
هذا الذي فعل بك كل هذه النعم وأنت لا شيء، وأنت شيء لا يذكر، وأنت قطعة لحم، أو مجموعة دم متجمع ومتجمد، لو تراك أمك لتأففت أن تلمسك في أسبوعها في تلك الحالة، ولو رأك أبوك لتعفف عنك، ما هذا الأذى؟! ولكنك كريم على الله، حولك إلى خلقة كريمة إنسان عاقل ناطق ما شاء الله هو الوحيد الذي يمشي رافعا رأسه، هو سيد هذا الكون بما فيه من مخلوقات، الكل خلق لخدمته، وما خلقنا الله إلا لعبادته. لماذا تتكبر؟ لماذا لا تعظم ربك الذي جعل منك شيئا يذكر؟ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا) [الإنسان: 1]، نعم كان عدما، كان جاهلا لا يعلم به أحد، صار يوما من الأيام شيئا، ربما شيئا كبيرا ما شاء الله، من أين هذا الجمال؟ من أين هذا الرقي؟ إنه من فضل الله عليك، ألا تستغفره؟ ألا تطيعه؟ ألا تعبده؟ ألا توحده؟ إنه الأحق بذلك من غيره.
(مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا) [نوح: 13 - 15] أين أبصاركم؟ (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا)[نوح: 15 - 18] يوم القيامة (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا) [نوح: 19] كالبساط كالفرش كالحصير، كالسجادة، تستريح فوقها وتنام وتقعد وتقضي شؤونك كلها براحة وطمأنينة، جعل فيها جبالا، ولكن ليست كلها جبال حتى بين الجبال واد مستو تستريح عليه، وتأمن فيه بين هذه الجبال الآمنة الراسخة.
(اللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا) [نوح: 17 - 20] العاقل يفهم، ولكن أين العقول؟ (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا) [الأعراف: 179]، فظلوا على كفرهم.
(قَالَ نُوحٌ رَّبِّ) مرة ثانية (إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا) [نوح: 21] اتبعوا من عنده مال، من له أولاد، من له عائلة، من له اسم في هذه الدنيا ولو بالباطل؛ لأن الوليد بن المغيرة –لعنه الله- عمدة في قومه من رؤوس الناس المعدودة، وهو في الأصل ذميم ليس نسبته للمغيرة صحيحة: إنه ولد الزنا، أبوه راع أخطأت معه أمه؛ لأن أباه ذا مال وليس له ولد، حقيقة فجعه بها القرآن، فظل على عناده، فرجع إلى أمه، فصدقت على ما قال الله، واعترفت وأقرت، والاعتراف سيد الأدلة، والله يستره، استر على نفسك، لا، ظل يعاند الله ويحارب رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حتى فجعه الله بتلك الفجيعة.
فقوم نوح أيضا -عليه السلام- تركوا إتباعه واتبعوا أصحاب الأموال، وغير ذلك، كما يقول القائل:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مالٌ | ومن لا عنده مالُ فعنه الناس قد مالوا |
رأيت الناس منفضة إلى من عنده فضة | ومن لا عنده فضة فعنه الناس منفضة |
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهبٌ | ومن لا عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا |
ضلال وهل يبقى المال والذهب والفضة؟ لا دوام له، لا بقاء له، إنما القيمة الحقيقة بالإيمان، بالصلة الحقيقية بالله: (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) [نوح: 21 - 22]، مكر بنوح يقتلون، يخرجون يفعلون فيه الأفاعيل أكبر من كبير، فهو كبار، مبالغة شديدة في مكرهم؛ كما قال تعالى: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46]، شيء يزلزل الجبل، ومع ذلك ينجي الله نوحا والمؤمنين معه، وينجي رسولنا -صلى الله عليه وسلمَ- وأصحابه معه، وهكذا سنة الله أن ينجي المؤمنين: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، الله جعلها حقا واجبا عليه.
(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) من ضمن عناد الناس أنهم تواصوا وأوصى بعضهم بعضا بالصبر على عبادة الأصنام، والثبات على ذلك: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ) يعني لا تتركون (آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ)، عددوا أسماءها، جملة مرة، وتفصيلا مرة: (وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح: 23]، هذه أسماء آلهة من قوم نوح كانت أسماءً لبعض الصالحين قبلهم، فلما ماتوا، وفي فترات متقاربة عز موتهم على الناس، فصورهم بتصاوير، رسموا لهم صورا، ومع الزمان تتآكل الصور فرسموها على أحجار، ووضعوها في أماكنهم العامة، وأماكن اجتماعهم حتى يذكروهم بخير، حتى يتمثلوا بصلاحهم فيفعلوا مثلهم، مع الزمان وتتابع الأجيال رأى الأولاد الصغار والأحفاد آباءهم وأجدادهم ينظرون إلى هذه الصور، وإلى تلك التماثيل بنظرة إقبال وإعجاب، لا يعبدونها، ولكن دخلت إلى قلوب الأحفاد عبادة، صارت عبادة، مع أجيال وأجيال صارت هذه الأصنام آلهة يتواصى الناس بعبادتها، وقالوا: (لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) [نوح: 23 - 24].
فلما حرم الإسلام عندنا الصور لا تعجبوا؟ ولا يقل أحد: أنا لا أعبدها! نعم أنت الآن لا تعبدها ولكن من يضمن لنا غدا قد تعبدها غدا أو بعد غد؟ قد يعبدها ولدك؟ قد يعبدها حفيدك؟
وضعت صورة للحاج الكبير حينما مات -رحمة الله عليه-، وقدرت، وعظمت الصورة، وعلقت في جدار البيت، فهذا رأس الضيف، ورأس العائلة، مع الأيام تشاجر الأولاد على الميراث، ربما ضرب بعضهم بعضا، أو خاصم بعضهم بعضا، أو قتل بعضهم بعضا، لمن تشتكي الحجة الكبيرة؟! للحاج الكبير تذهب إلى صورته تقف أمامها وتناديه: "هكذا يا حاج تركتني للهم هذا، لو كنت توصي أولادك وتوفق بين أولادك، أتعبوني!" تشتكي إليه همها، وكأن بيده شيئا، وكأنه يملك تفريج كربها! كان يجب أن تلجأ لله، وأن تسجد لله، ليرفع هذه النقمة عن أولادها وبيتها، لكن مع الجهل، مع شدة الحب لمن مات، والتسليم، ظنت أن هذه الصورة وصاحبها الميت يستطيع أن يفعل شيئا، فربما تنتظر أن يأتيها في المنام، فيقول لها: "قدمي كذا وكذا، وأعطي الولد كذا وكذا، وأعطي البنت كذا وكذا..."، إذاً، تنتظر منه ردً أيضا؟
وهكذا تتحول هذه الصورة الورقية البسيطة إلى عبادة فيما بعد، عشاق الصور كذلك يلجأ بالصورة للذكرى، ولكن مع الأيام تنقلب الصورة حية، فيقبلها ويعشقها ويحبها، ويتخيلها كأنها شخص قائم بين يديه! ذلك تصور طبعي، والشيطان يلعب فيه كثيرا حتى صارت الصور آلهة، يتواصى الناس بها: (وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا) [نوح: 23 - 24] أي من قبل هؤلاء، (وَلَا تَزِدِ) نوح يدعو (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) [نوح: 24 - 25].
هذا كلام القرآن كلام مختصر موجز مفيد: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا)، كلمة: (أُغْرِقُوا) فقط أخذت وقتا طويلا، رأت الدنيا فيها أحداثا عظيمة، الكون كله -أحبتي- تجاوب مع المؤمنين شفاعة، السماء تنزل ماءها، الأرض تتفجر عيونا، وتخرج ماؤها، الأمواج تعلو وتتلاطم، وتنتقي الكافرين فتهلكهم، والمؤمنون في السفينة لا تقربهم، إنما تحملها الأمواج، أو تسترها وتواريها حتى لا يصيبها أذى. الكون كله بسمائه وأرضه ومائه تتجاوب مع نوح -عليه السلام- ومع المؤمنين معه، اعلم أن هذه ليست خاصية لنوح، فقد ذكر الله عن داود -عليه السلام- أن الجبال كانت تسبح معه والطير ليس بصدى بصوت، وتردد صوت، كما نسمع في الآلات الحديثة، وإلا فهذا الصوت يتردد ولو ناديت بين الجبال بأي نداء لرددت الجبال صوتي معه، ولو ناد أبو جهل قديما بين الجبال: "يا وليد بن المغيرة " ترددت الجبال "يا وليد بن المغيرة... يا وليد بن المغيرة" لعدة مرات، هذه ليست كرامة إنما الكرامة والمعجزة أن تنطق الجبال بلغة المتكلم، أن تسبح معه بلغته وبتسابيحه، بلغة لو سمعها السامع من البشر لفهمها، والطيور كذلك تنزل من السماء وتحلق فوق رأس داود، وتسبح معه.
(وَسَخَّرْنَا) تسخير (مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) [الأنبياء: 79] هذا إعجاز من الله -تبارك وتعالى- لداود، وكذلك لغيره من الأنبياء كلها، بل والمؤمنون أتباعهم، أنت.. وأنت.. وأنت.. ونحن جميعا حينما نوثق الصلة بالله، حينما نكون لله، وتضيق بنا الأمور، الكون يتفاعل معنا بفضل الله -تبارك وتعالى-، والحديث في ذلك يطول، وليس المقام مقامه، لكن اعلموها مجملة حتى تفصل لكم في موعد آخر، الكون يتجاوب كله مع المسبحين والمؤمنين، حتى إذا مات بكت عليه السموات والأرض لموته.
إذاً، حينما كان حيا يسبح هنا، ويسجد هنا، ويقرأ قرآنا هنا؛ كانت الجبال والطيور والأرض والسموات تفرح من حوله فرحا به بدليل أنه حين مات، وانقطع عمله، بكت السموات والأرض، وكأنها في افتقار إليه، أما فرعون والظالمون حينما ماتوا: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 29]، فالكون يتجاوب.
(أُغْرِقُوا) بسبب أخطائهم وبكفرهم: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) أغرقوا؛ لأنها كانت سهلة على الله، هذا الحدث عم الأرض كلها، أغرق كل ما على الأرض، السماء كلها تنزل ماؤها، والأرض كلها تخرج ماؤها، ويغرق الجميع، ولم يبق بعد ذلك إلا نوح والقلة المؤمنة معه، منهم تناسلت هذه البشرية التي نستكثرها اليوم ونستعظمها، ونريد أن نحدد نسلها.
كل هؤلاء من مجموعة قليلة لكن كلهم كانوا مؤمنين، بدأت البشرية بداية جديدة صحيحة سليمة طاهرة، ولذلك يقال عن نوح أبو البشرية الثاني، أبوها الأول آدم؛ لأنها منه نشأت أولا، وأبوها الثاني نوح -عليه السلام-؛ لأنها نشأت من جديد منه، ومن المؤمنين معه من كل زوجين اثنين، وحتى كل شيء الحيوانات والطيور غرقت مع الغارقين، وأخذوا بشؤم الكافرين، إلا زوجين من كل صنف حملوا في السفينة لتنشأ منهم حياة جديدة.
أما أولئك الكفار فأغرقوا: (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) أول ما يموت الإنسان يرى نهايته في الآخرة، وطالما حكمت المحكمة العليا التي لا مثلها، ولا أعلى منها، حكمت بدخوله النار، وبتعذيبه فيها، فلا تغيير ولا استئناف ولا استرجاع للكلام.
(فَأُدْخِلُوا نَارًا) حكم عليهم بالنار، حكما نهائيا: (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا) [نوح: 25]، ما كان من نصير ينصرهم، ولا مدافع يدافع عنهم؛ لأن الله قدرته عظيمة، و"ذو المعارج -سبحانه وتعالى- هو العلي فوق خلقه، فمن ذا الذي يبلغه ليشفع عنده فضلا على أن يرد قضاءه؟
(وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26] انتهت أمة نوح، انتهت التسعمائة وخمسون عاما من الدعوة، وجاءت النهاية، أوحى الله إلى نوح كما في "سورة هود" -عليه السلام-: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ) [هود: 36]، لا تنتظر أن يؤمن أحد بعد ذلك، من آمن فقد آمن، ومن كفر كفر إلى الأبد.
انظر إلى رحمة الأنبياء ما دعا نوح على قومه طيلة هذه الفترة إلا حينما أخذ هذا البيان من رب العزة والجلال، عند ذلك دعا دعوته: (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح: 26]، لماذا؟ الله يعلم ولكن يطرح نظريته: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ) المؤمنين القلة (يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27]، كما يقول العرب: "الحية لا تلد إلا حية"، هكذا يقول الناس، الله قال أبلغ منها: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 27].
أما المؤمنون فقد نالوا المغفرة: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [نوح: 28]، -رب اجعلنا منهم يا رب-، هذه دعوة نوح -عليه السلام-: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) [نوح: 28] أي إلا هلاكا على هلاكهم، هذا في الدنيا فقط، أما في الآخرة فكيف تتخيل؟ ماذا ينتظرهم؟ هذا الهول الشديد العظيم الذي لم تر الدنيا مثله كان لهم في الدنيا فقط، الدنيا الصغيرة، الدنيا القليلة، الدنيا القصيرة، ما بالك بحياة أبدية؟ كيف يكون لهم العذاب يوم القيامة؟
اللهم نجنا، واعف عنا، ولا تجعلنا إلا تبعا للمؤمنين من قبلنا.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم فاستغفروه دائما إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله العظيم، ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي عصيانه -تعالى-، ومخالفة أمره، فهو القائل –سبحانه وتعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت: 46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
أيها الأحبة الكرام: كان هذا سياق "سورة نوح" فترتيب آياتها في سورتها، ولمحة سريعة عن عبرها ودروسها، إذاً، فهدف هذه السورة التي تهدف إليه والرسالة القصيرة التي تبعثها إلى أمة القرآن حيث ذكرت هذه السورة عندنا في القرآن: أن يا نبي هذه الأمة -عليه الصلاة والسلام-، ويا كل داعية خلفه على الطريق، ومن بعده على المنابر الأرضية أو الفوقية تدعون إلى الله: اعلموا أنكم منصورون، وأنكم مؤيدون، وأنكم محفوظون -بإذن الله-، فاثبتوا على دعوة الله، واصبروا عليها، وتحملوا في ذلك الأذى مهما كان؛ فإنما ينتظركم عند الله من خير أعظم بكثير من الدنيا وما فيها، فأنتم خير من يعلم أن الدنيا ليست هي دار القرار، وإنما هي دار عبور وانتظار، ودار القرار والبقاء والخلود إنما هي الآخرة، ولكم فيها جنة عظيمة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أو عقل أو خيال أحد.
وتقول أيضا للمؤمنين وهم أتباع هؤلاء الأنبياء وهؤلاء الدعاة: اثبتوا وراء أئمتكم ودعاتكم، ولا تكونوا السيف الذي يضرب رقابهم، فتوقعوا الفتنة بينهم، أو تتطاولوا عليهم، أو تشيعون الشائعات حولهم، أو تفسدوا حياتهم، أو... أو إلى آخره، بل كونوا خدمة لهم، كونوا معونة، وعناية لهم؛ لأنهم قادتكم إلى الخير، أحبوا العلماء والدعاة أكثر من غيرهم في الناس، فالدعاة والعلماء يأخذوننا إلى الجنة في الآخرة، والسعادة في الدنيا، وربما أخذنا غيرهم إلى سعادة في الدنيا فقط، أو إلى سعادة في جانب معين من جوانب الحياة دون جوانب أخرى، فخير الناس من دعا إلى الله: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33]، وعرفنا أن هذه الآية نزلت في المؤذنين.
إذاً، ليس هناك أحسن ممن يدعو إلى الله بدءًا من المؤذن في المسجد يدعو إلى الصلاة لله، ثم بعد ذلك وفوقه من يدعون الناس إلى الخير، والإيمان بالله، والطاعة لله، وبعد ذلك حتى ترتقي في أعلى السلسلة إلى الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-.
وفيها في هذه الهدف: تحذيرا للكافرين -كما قلنا-، فعلى من تغير قلبه جهة شرع الله ظن أن دين الله لا يسعده، ظن أن الصلاة والصيام والالتزام بالدين يؤخره ويخلفه، أو يمنعه من فرصة العمل، أو يعطله عن حياة، أو نجاح، أو ما إلى ذلك: اعلم أنك قد أخطأت في هذا الفهم، إنما كتب الله النصر والبقاء والعزة والرفعة والنجاة لأهل الإيمان به، ولك في هذا الموقف شاهد عظيم، لا أريدك أن تسمعه منه فقط، بل أقوله وتخيله أنت بخيلك كأنك تعيش في ذلك الزمان الأول، وترى بعين وجهك نوحا -عليه السلام- إماما أمينا في السفينة الأمان ينادي على فلذة كبده، وحبة قلبه، ولده مهما كان، فهو ولده ينادي عليه والأمواج تقذف به هنا وهناك، أمواج كالجبال يظهر فترة، ويختفي أخرى، وأبوه يناديه: (بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ) [هود: 42]، قال بعناده: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء) هو لا يرى الله، ولكن يرى الماء الذي أمامه، الماء الذي طغى مرة واحدة على الدنيا، الماء الذي جاء بشأن لم تره الدنيا قبل ذلك، ولن تراه بعد ذلك.
شكل رهيب، ويظن أنه يستطيع أن يقف على رأس جبل لينجو من هذا الموج الذي فاق الجبال، فحتى عينه خطأ: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء)، قال نوح هناك في الأعالي ينادي على ولده: (لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ) ادخل في رحمة الله، تعال إلى رحمة الله يا بني؟ (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) لحظة شديدة، لحظة قاسية، لكن قدر الله لا مجاملة، لا عواطف في هذا الكافر يقتل ولو كان أبا لنبي أو ابنا لنبي، أو عما أو خالا لنبي، مهما كانت قرابته فلا قيمة له عند الله.
والنسب لا ينفع مع الكفر: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ) [المؤمنون: 101]، انقطع النسب ولا يقدر أن يسأل الله بما له من نسب: يا رب أنا قريب فلان! يا رب كان أبي عالما كبيرا! يا رب كان جدي رجلا صالحا قانتا لك! ارحمني من أجله! إلا إن كان مؤمنا على ضعف، لكنه في مركبة الإيمان، في سفينة النجاة معلق بجدارها فالله يرفعه كرامة للمؤمنين من قومه وأهله والشافعين له، إنما كافر -نعوذ بالله- يكره دين الله، يعترض على أوامر الله، يجادل الله في أحكامه: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].
فلنحذر من هذه الروح الخبيثة التي تبث في أفكارنا وعقولنا، البغض لدين الله -تعالى-، الظن أن دين الله سبب التخلف، سبب الرجعية، ولذلك ترى المسلمين متخلفين والكفار الذين تقولون عنهم: إنهم كفار متقدمون أقوياء مسيطرون مهيمنون، لا والله ثم والله ثم والله، أحلف صادقا، ليس الدين هو السبب في ذلك، وإنما أحوالنا مكر لنا وأثر فينا، وفعل فينا، وصدق علينا، فصرنا كذلك، لكن لو أطلق لنا العنان، لو أعطينا حريتنا كغيرنا، لو سمع للحق صوتا، وسمح له بالكلام؛ لأرى الإسلام الدنيا نفسه، ولأعلم الإسلام الدنيا قوته وعلمه وحكمته، بل شهد الكفار في أيامنا بأن الحضارات القائمة إنما أصولها إسلامية، قواعدها عربية.
فلتفتشوا عن تاريخكم، ولتبحثوا عن تراثكم تجدونه تحت قوائم تلك الحضارات، وهي بضاعتنا سرقت منا، واختلست منا، واغتصبت منا، علما وكتبا وعلماء، أخذوا من بيننا، وأقيمت بهم حضارات هناك، وانصبغت بصبغتهم، وصدرت إلينا باسمهم، ونسي الإسلام، ونسي المسلمون.
فاعلموا -أحبتي في الله- أن "سورة نوح" تشير إلى أن طريق الجنة فيه أحزان فلا تبتئسوا، ولا تيأسوا، هي أحزان تمر ولابد لأحصل على تلك الوردة أن أشاك بعدة شوكات، لابد، ولأحصل على هذا الشهد لا بد أن تلدغني تلك النحلة، لا ينال خير بنوم، ولا ينال علو بركود وقعود إنما لا بد أن يكون من قيام، أن تقوم له، وتعمل له، وتتحمل، وفي تجارتنا وصناعتنا تمرسنا على ذلك، هذه الصفقة خسرت فيها، أفهم: لماذا