المتعالي
كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...
العربية
المؤلف | عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
وسماحة الإسلام لا تنافي الحزمَ والعزم خاصةً في الحفاظ على المقدَّسَات، وكذا في تعزيز النزاهة ومكافَحَة الفساد، ومواجَهَة التطرف والإرهاب، وخَطَر المخدِّرَات والمُسْكِرات، والتصدي بحزم للافتراءات والشائعات عبر المواقع والشبكات، ومحاولات إسقاط الرموز والنَّيْل من ذوي الهيئات والمقامات من أفراد ومؤسَّسَات.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمدك اللهم ربنا ونستعينك ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، لك الحمد تعظيما لوجهك قائما، وأنت إلهي ما أحق وما أحرى لك الحمد يا ذا الكبرياء، ومن يكن بحمدك ذا شكر فقد أحرز الشكر.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، خصَّنا بشريعة سامية الأحكام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبد الله ورسوله، خير الأنام المبعوث بالسماحة والقيم العظام، اللهم فصل وبارك وأنعم على نبينا محمد بن عبد الله الذي انتشل البرية -بإذن ربه- من جاهلية ضرام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، أئمة الهدى الأعلام والتابعين ومن تبعهم بإحسان وصدق لا يرام، وسلم يا ذا الفضل سلاما أبدا على الدوام ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فقد جلت خصائص التقوى ومزاياها فكانت مثابة لغفران زلات النفس وخطاياها وصلاحها في دينها ودنياها، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) [الطَّلَاقِ: 5]، فالزموا -رحمكم الله- تقوى إله العالمين فإنها عز وحرز في الدنا والمرجع فيها غنى الدارين فاستمسك بها والزم تنل ما تشتهيه وتدعي.
معاشر المسلمين: النَّاظِرُ في نصوص الشريعة الإسلامية، المتتبِّع لأحكامها ومقاصدها لا يعتريه رَيْبٌ أنها إنما وُضِعَتْ لمصالح العباد وتحقيق الخير لهم، ودَفْعِ الضَّرر ورفع الحرج عنهم في دينهم ودنياهم، ومع أنها تَتَّسِمُ بالجزالة في اللفظ، والدِّقة في التعبير، والوُضُوح في الفِكْرَة، واليُسْرِ في فَهْم المعنى، إلا أنه لا تعقيد في ألفاظها، ولا مُعَمَّيَات في معانيها، ولا إيهام في مقاصدها، بل كلما تعمق المرء في فهمها وإدراك مآلاتها ومقاصدها افعوعمت بصيرته بالحقيقة الخالصة والجحجحة الشاخصة الخصيصةَ المشرقةَ التي تميز الإسلام وتوشيه أكاليل الفَلَاح والصلاح، إنها خصيصة اليسر والسماحة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده).
ويأتي التذكير -يا عباد الله- بهذا الموضوع المهم في زمن انتشر فيه سوء الفهم للإسلام الحق بين طرفي الإفراط والتفريط والغلو والجفاء.
معاشر المؤمنين: لقد شرع الله -جل وعلا- الإسلام رَحْمَةً بالبشرية ورأفةً بها؛ لا تَعْتَاصُ أحكامُه على العِبَاد، بل رَاعَى فيه ما تقتضيه النفوسُ، وما جُبِل عليه الخَلْق البسوس، ورَفَعَ عنهم الإصْرَ والحَرَج، قال جل شأنه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الْحَجِّ: 78]، قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "وما جعل عليكم ربكم في الدين الذي تَعَبَّدَكُمْ به من ضِيقٍ، بل وَسَّع عليكم، فجَعَل التوبةَ من بَعْضٍ مَخْرَجًا، والكفَّارةَ مِنْ بَعْضٍ، والقَصَاصَ مِنْ بَعْض، فلا ذنبَ يُذْنِبُ المؤمنُ إلا وله منه في دين الإسلام مَخْرَجٌ" انتهى كلامه -رحمه الله-.
فالإسلام دين السَّعَةِ والسَّمَاحة واليُّسْرِ والسهولة، والوسط والاعتدال، وإن من القواعد المقررة عند علماء الشريعة: أن الأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، فكل ما في هذه الأرض مُبَاحٌ للإنسان أن يتناوله أكلًا وشُرْبًا وتصرفًا، إلا ما جاء النصُّ بتحريمه لخُبْثه أو ضرره، والمستقرئ لأحكام التشريع يجد أن المحرمات قليلةٌ جِدًّا بالنسبة للمباحات، والإسلام حينما حرَّم ذلك لم يحرِّمه عَبَثًا بل حرَّمَه لضرورة، قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الْأَعْرَافِ: 157].
ورغم ذلك فالمحرَّمَات تُباح عند الضرورات، فمبادئ الشريعة وقواعدها ليست على درجة واحدة، بل بعضها يَحْمِل أحكامًا مُخَفَّفَةً جِدًّا؛ مراعاةً للظروف والعوائد والحالات والأزمان، وقد شرَع اللهُ هذه الأحكامَ تخفيفًا على عباده وسمَّاها العلماء: الرُّخَصَ، وحَثَّ عبادَه على الأخذ بها في مواطنها، روى الإمام أحمد في المسند من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ".
أيها المسلمون: وإن وَلَّيْنَا مداركَنا شطرَ بعض ما قررته أحكام الشريعة السامقة تلألأت أمام أعيننا جُمَانات في سِلْك الدُّرَر؛ فهذا الدين العظيم الذي سَطَعَ بُرْهَانُه، ونَجَمَ سُلْطَانُه، لم تُغْفِل قواعِدُهُ ومَبَادِؤُهُ العظيمة الأخذَ بالعُرْف والعادة؛ لأن عُرْفَ كل بلد إنما يُعَبِّر عن حالتها التي تعيشها، وعاداتها وتقاليدها، ومراعاة ذلك من تمام التَّسْهِيلِ والتَّيْسِيرِ والسَّمَاحة؛ ولم يَزَلْ علماءُ الإسلامِ وفقهاءُ المذاهبِ الإسلاميةِ يُعْنَوْنَ بهذا المصدر زمانًا ومكانًا، ظروفًا وأحوالا، فإذا كانت أحكام الشريعة التي لا نَصَّ فيها مُتَكَيِّفَةً مع هذه الأوضاع المُتَغَيِّرَة، والعادات المختلفة، ومنسجمة مع هذه الأحوال المُتَغَايِرَة، والتقاليد غير المؤتَلِفَة، دَلَّ ذلك على غاية السماحة والتيسير، والبُعْد عن التَّعَنُّتِ والتعسير، فَرَبُّ العالمين الرَّحِيمُ بِخَلْقِه، اللَّطيفُ بهم شَرَع العباداتِ مَبنيةً على السماحة، ورَفْع الحرجِ وعدمِ المشقةِ، وهذا لا يتنافَى مع بعض المشقة في أداء العبادة، لكنها مشقة في الاستطاعة، دون إعنات أو تعجيز.
فمن صور التيسير والسماحة في الطهارة: أنه شَرَعَ المسح على الخُفين والعِمَامة والجَبِيرة، وأجاز التيمم إن عُدِمَ الماء، والصَّلاةَ أجازها في أي بُقعة من الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: "وجُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِدًا وطَهُورَا" (أخرجه البخاري)، وشَرَع قَصْرَ الصلاة في السفر ووقت المطر مع الجَمْع تقديًما أو تأخيرًا؛ فالإسلام لم يترك مَرْحَلَةً من المراحل التي تمر بها العبادة إلا وَحَبَاهَا نوعًا من السهولة والتيسير، وهكذا في كل العبادات؛ في الزكاة والصيام والحج والجهاد.
وإنَّ المتأملَ في أعماق التاريخ ومَسَارِبِهِ، والقَاصَّ لآثارِ البشرية وحضاراتها لا يجد فيما يقف عليه سماحةً واضِحَةَ المعالِم، تامَّةَ الأركانِ، شامِخَةَ البُنْيانِ كسماحة الإسلام؛ فشريعةُ الإسلامِ أكملُ شريعةٍ وأوفاها، وأحكمُ مِلَّةٍ وأحفاها، ولا مِثالَ سواها؛ تُرَاعِي اليُسْرَ والسماحةَ في عنايتها بالعقيدةِ السَّمْحَةِ، والاعتدالِ والوسطيةِ، ومراعاةِ الضروراتِ الخمسِ والمقاصدِ الكبرى، واهتمامها بالمُحْكَمَات والمُسَلَّمات، واليقينيات والقطعيات، واعتبار المآلات في تحقيق المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، والحرص على اجتماع الكلمة ووحدة الصفوف دون مذهبية ولا طائفية (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آلِ عِمْرَانَ: 103].
إسلامنا داليات الحب دانية | في ظلها لأسير الحرب إكرام |
دين السماحة سل الفتوح حين غدا | في كفنا النصر والأسرى وضرام |
أيها المؤمنون: إن من الظُّلم وعدم الإنصاف أن تُختزل سماحة الإسلام في عباداته فحسب، بل العبادات في الإسلام جزء من شريعة تامة كاملة، فَمَن وَلَّى وجهَه شطرَ جانبِ المعاملاتِ في الإسلام أبهرته الأنوارُ السَّاطعةُ للسَّمَاحة الرَّائعة في الآياتِ البَيِّنات والأحاديثِ المُحْكَمَات، فالمعاملات ميدانٌ شَاسِعُ تظهر فيه السماحةُ بجلالها، وتُشرق بأنوارِهَا، روى البخاري في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رَحِمَ الله رَجُلا سَمْحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى"، وفي مسند الإمام أحمد من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أَدْخَلَ اللهُ رَجُلًا الجنةَ كانَ سَهْلًا مُشتريًا وبائعًا وقاضيًا ومُقْتَضِيً"، فهذا في المعاملات العامة.
أما في الأحوال الشخصية والعلاقات الزوجية فنظَّمَها أعظمَ تنظيمٍ، وهَذَّبها أحسن تهذيب، وكما ضَمِنَ لكل واحد حقَّه حثَّ على التسامح والتيسير والتخفيف وحُسْن المعاشرة والمعروف، قال عز وجل: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [النُّورِ: 32]، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَعْظَمُ النِّكَاحِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُ مَئُونَةً".
ومن أوجه السماحة: وَضْعَ الضمانات والاحتياطات التي تُقَلِّل وقوعَ الطلاقِ، وتحافظ على بقاء الأسرة وتماسكها؛ فأوصى الرجالَ بالنساء خيرا، وأمَر النساءَ بطاعة الأزواج، وشرَع عند ظهور الشِّقَاق والخلاف بين الزوجين إقامةَ الحَكَمَيْنِ، قال سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النِّسَاءِ: 35].
معاشر المؤمنين: وحين انتشر الإسلام وصَلُبَ عَمُودُه، وزكَى عَرْفُهُ وعُودُه، وبدأ التشريع للعقوبات والحدود، خَلُصَ من السَّمَاحةِ والرحمةِ بالذؤابة، فكان المِثَالَ، ومَضْرِبَ الأمثالِ؛ ففي الإسلام لا يُجازَى المجرمُ إلا بمثل فِعْلِه، وهذا أدْعَى لِصَدِّه وَرَدْعِهِ، كما أن العقوبة قاصرة على الجاني فقط لا تتعداه إلى أبيه أو أمه أو بَنِيه أو صَحْبِه، قال سبحانه: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الْأَنْعَامِ: 164]، كما نهى الإسلام عن التعسف في العقوبة والجَوْر في تنفيذها أو إجرائها بطريقة أشد من الجناية (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الْإِسْرَاءِ: 33].
كما أفسح المجالَ أمام ولِيِّ المقتولِ فجعله مُخَيَّرًا بين القِصَاصِ أو الدِّيَة أو العفو، في الحديث من حديث أبي شريح الخزاعي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من أصيب بدم أو خبل –والخبل الجرح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث؛ إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه".
بل إن الإسلام من سماحته لم يكتفِ بتشريع العفو فحسب، بل راح يناشد الوِجْدَان ويخاطب الضمير، فحبَّب في العفو ورَغَّب فيه، روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عِزًّا"، ومن عظيم سماحة الإسلام أنه حَرَّم الاقتصاصَ من الحامل أو إقامة الحَدّ عليها حتى تضع حملَها وتُرضعه، بل وأمر بالسَّتر ودرء الحدود قدرَ الاستطاعةِ، روى الترمذي من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ".
وكما تجلَّت سماحة الإسلام في حال السلم فكذلك في حال الحرب، فنهى عن الغل والغدر وقتل المرأة والوليد والشيخ الكبير والرهبان والمعاهدين والمستأمنين وأهل الذمة.
وهكذا سَمَا الإسلام بسماحته وبديع شِرْعَتِهِ وأحكامه فوق كل الشرائع والمِلَل، بل إنه أمرنا بالقِسْطِ والعدل حتى مع المخالف، قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [الْمَائِدَةِ: 8]، فأصبح الإسلام بهذه التعاليم المُشْرقة زهرةَ التاريخ العابِقَة، ومُزْنَة النور الوَادِقَة، ووجه الكمال المُشْرِق، وصارت أحكامه وتشريعاته البرهانَ الخالدَ المحجاج على أن رسالة الإسلام رسالةُ السَّمَاحة والسَّلام والعِزّ والشَّرف والوِئَام، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [الْبَقَرَةِ: 185]، وقال سبحانه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الْحَجِّ: 78].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لم يزل بصفات الكمال متصفا، بدلائل ربوبيته وآلائه إلى عباده متعرفا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من أقر له بالتوحيد معترفا، ونزهه عن الشرك ونفى، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، أزكى البرية محتدا وشرفا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم واشكروه على نعمه الوافرة وآلائه المتكاثرة.
إخوة الإيمان: ولسنا في قَرَن تكرار الحديث وإن أكدناه مثنى وثلاث ورباع أنَّ سماحة الإسلام ليست ضَعْفًا أو اسْتِكانةً، ولَا ولَنْ تكونَ مَطِيَّةً لاحتلال أرضِه أو استباحَةِ حُرُمَاته، وإنَّ أَرْوَاحَنَا لَرَخيصةٌ أمام مُقَدَّسات الإسلام وصيانة حُرُمَاتِه، وإن البادئ بالعدوان لَهُوَ الإرهابيُّ الحقيقيُّ، وليس إرهابيًّا مَنْ دَافَعَ عن أرضه وعِرْضِهِ ومقدساته، وإن قضية المسلمين الكبرى في هذا الزمان هي قضية المسجد الأقصى المبارك الأسير، والقدس العربية الإسلامية، والتي ستظل إلى أبد الآبدين عربيةً إسلاميةً مهما عانَد المعاندُون أو كَابَرَ المكابرون، ألا فلْيَعْلَمِ الناسُ جميعًا أنه لا يَصْلُحُ العَالَم إلا إذا كانت العدالةُ ميزانَ العلاقاتِ الإنسانيةِ في كل أحوالها فلا يبغي أحدٌ على أحد، ولا يُهْضَم حَقُّ أحدٍ لأجل آخَر، وإن لكم في التاريخ لعبرة، وللباغي في آتي الزمان عبرة.
وسماحة الإسلام لا تنافي الحزمَ والعزم خاصةً في الحفاظ على المقدَّسَات، وكذا في تعزيز النزاهة ومكافَحَة الفساد، ومواجَهَة التطرف والإرهاب، وخَطَر المخدِّرَات والمُسْكِرات، والتصدي بحزم للافتراءات والشائعات عبر المواقع والشبكات، ومحاولات إسقاط الرموز والنَّيْل من ذوي الهيئات والمقامات من أفراد ومؤسَّسَات، والإخلال بالأمن ونشر الفوضى والحطّ من الأقدار والكرامات، في خطير الأجندات وممنهج الأيدلوجيات ولكن هيهات هيهات، وشقّ عصا الجماعة، فإن فئاما من الناس فهمت السماحةَ سَمَاجَةً وسلاجة، والاعتدالَ انهزامية وتحللا وانحلالا، فتنصَّلَت من الواجبات، ونالت من الثوابت والمُسَلَّمَات، وتفلتت من القطعيات، وتكالبت على تلفيق الفتاوَى والأخذ بالرُّخص في غير مواضعها مُتعللينَ باليُسر والسماحة، وقد أبعدوا النجعة ولم يحسنوا الرجعة، ألا وإن من فضل الله -تعالى- على بلادنا بلاد الحرمين الشريفين المملكة العربية السعودية أن جعلها بلاد التسامح والاعتدال، ورائدة الحَزْم والعزم، فجمعت -بفضل الله- سوابقَ الخيرِ وذوائبَ الشرفِ والفخرِ، لا تزال بالخيرات مُسَوَّرة، وبالبركات مُنَوَّرة، فالشمس لا تخفى على مبصِر والمسك مهما صُنت رياه فاح.
بارك الله الجهود وحقق أسنى الآمال والقصود.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 56]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم في صحيحه: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا".
صلى عليه الله ما اتسع المدى | واشتاقت الأرواح للرحمن |
نفسي فداك وكل أهلي والورى | الجذع حن فكيف بالإنسان |
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وارض اللهم عن خلفائه الراشدين الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا خادم الحرمين الشريفين، اللهم وفقه وولي عهده وأعوانه وإخوانه إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم وفق قادة المسلمين إلى تحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك -صلى الله عليه وسلم-، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم واهدهم سبل السلام وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشف مرضانا ومضى المسلمين، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، اللهم احفظ مقدسات المسلمين، اللهم احفظ مقدسات المسلمين، اللهم احفظ المسجد الأقصى المبارك، اللهم اجعله شامخا عزيزا إلى يوم الدين، اللهم عليك بالصهاينة المعتدين المحتلين ومن شايعهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق رجال أمننا، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على ثغورنا وحدودنا اللهم تقبل شهداءهم واشف مرضاهم وعاف جرحاهم وردهم إلى أهلهم سالمين غانمين، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام، اللهم كن لإخواننا في فلسطين وفي العراق وفي بلاد الشام وفي اليمن وفي أراكان وفي كل مكان يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [الْبَقَرَةِ: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.