البحث

عبارات مقترحة:

البصير

(البصير): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على إثباتِ صفة...

الرءوف

كلمةُ (الرَّؤُوف) في اللغة صيغةُ مبالغة من (الرأفةِ)، وهي أرَقُّ...

المهيمن

كلمة (المهيمن) في اللغة اسم فاعل، واختلف في الفعل الذي اشتقَّ...

حرية شرعية لا تعرف البهيمية

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. الحرية المزعومة وأهدافها خبيثة .
  2. الحرية بين المعنى الصحيح والمعاني المغلوطة .
  3. ضابط الحرية الشخصية والرد عليه .
  4. الأثر السيء للحرية المزعومة .

اقتباس

بِاسمِ الحُرِّيَّةِ تَجَاوَزَ مَفتُونُونَ عَلَى حُدُودِ الشَّرعِ، وَتَطَاوَلُوا عَلَى أَحكَامِ الدِّينِ، وَبِاسمِ الحُرِّيَّةِ عَقَّ أَبنَاءٌ آباءَهُم وَعَصَوا أُمَّهَاتِهِم، وَخَرَجَت زَوجَاتٌ عَن طَاعَةِ أَزوَاجِهِنَّ وَتَمَرَّدنَ عَلَيهِم، بَل وَهَرَبَت فَتَيَاتٌ مِن بُيُوتِ أَهلِيهِنَّ لَمَّا غُرِّرَ بِهِنَّ، فَهَتَكنَ سِترَهُنَّ، وَخَلَعنَ أَثوَابَ الصِّيَانَةِ، وَرَمَينَ جَلابِيبَ العِفَّةِ، وَأَنزَلنَ أَنفُسَهُنَّ في القَاعِ وَأَورَدنَهَا الحَضِيضَ وَالسُّفلَ، بَعدَ أَن كُنَّ في القِمَّةِ وَالعُلُوِّ...

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ: فَـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ)[البقرة:24].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: ثَمَّةَ مُفرَدَةٌ أَو مُصطَلَحٌ رَنَّانٌ، يَكثُرُ في عَالَمِ اليَومِ تَردَادُهُ، وَيَحُومُ حَولَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُثَقَّفِينَ وَالكُتَّابِ وَالمُتَكَلِّمِينَ، وَلأَنَّهُ مَفهُومٌ تَتَطَلَّعُ إِلَيهِ نُفُوسُ البَشَرِ جَمِيعًا لِجَمَالِهِ وَحَلاوَتِهِ، بَل لِكَونِهِ شُعُورًا فِطرِيًّا تَتَنَفَّسَهُ النُّفُوسُ مَعَ الهَوَاءِ؛ فَقَدِ التَقَطَهُ أَعدَاءُ الدِّينِ وَمُحَارِبُو القِيَمِ وَالفَضِيلَةِ، وَرَكِبَهُ كَثِيرُونَ عَلَى مُستَوَى الدُّوَلِ وَالمُنَظَّمَاتِ وَوَسَائِلِ الإِعلامِ، لِلوُصُولِ إِلى أَهدَافٍ دَنِيئَةٍ وَتَحصِيلِ مَآرِبَ خَبِيثَةٍ، أَتَدرُونَ مَا هَذَا المُصطَلَحُ الجَمِيلُ الرَّنَّانُ، إِنَّهُ الحُرِّيَّةُ، نَعَم، الحُرِّيَّةُ الَّتِي هِيَ مُبتَغَى الأَفرَادِ وَمَطلَبُ الشُّعُوبِ، وَبِهَا يَتَغَنَّى الأَحرَارُ وَيَفتَخِرُونَ، وَعَنهَا يَبحَثُ آخَرُونَ وَعَلَيهَا يَبكُونَ، وَإِلَيهَا يَشتَاقُ كُلُّ مُقَيَّدٍ وَمَسجُونٍ.

وَالحُرِّيَّةُ -أَيُّهَا الإِخوَةُ- لَهَا مَعنًى صَحِيحٌ، وَمَعَانٍ كَثِيرَةٌ مَغلُوطٌ فِيهَا، وَمِن أَسَفٍ وَسُوءِ حَظٍّ أَنَّ مَعنَاهَا الصَّحِيحَ كَادَ يَغِيبُ عَن أَذهَانِ كَثِيرِينَ، أَو غُيِّبَ عَنهَا قَصدًا وَعَمدًا، لِتَحِلَّ مَحَلَّهُ المَعَاني المَغلُوطُ فِيهَا، وَالمَقصُودُ بِهَا في الحَقِيقَةِ استِعبَادُ الإِنسَانِ وَإِذلالُهُ مِن حَيثُ أَرَادَ الحُرِّيَّةَ، وَإِدخَالُ رَقَبَتِهِ في رِبقِ عُبُودِيَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، قَد يَستَلِذُّ بَعضَهَا لِجَهلِهِ، أَو يَنخَدِعُ بِهَا لِغَفلَتِهِ، فَيَعِيشُ فِيهَا مُدَّةً مِن عُمُرِهِ قَد تَطُولُ وَتَمتَدُّ، ثم لا يَصحُو مِن نَومَتِهِ وَلا يَنتَبِهُ مِن غَفلَتِهِ إِلاَّ وَهُوَ في أَخَسِّ أَنوَاعِ الرِّقِّ وَأَدنَى دَرَجَاتِ العُبُودِيَّةِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: بِاسمِ الحُرِّيَّةِ تَجَاوَزَ مَفتُونُونَ عَلَى حُدُودِ الشَّرعِ، وَتَطَاوَلُوا عَلَى أَحكَامِ الدِّينِ، وَبِاسمِ الحُرِّيَّةِ عَقَّ أَبنَاءٌ آباءَهُم وَعَصَوا أُمَّهَاتِهِم، وَخَرَجَت زَوجَاتٌ عَن طَاعَةِ أَزوَاجِهِنَّ وَتَمَرَّدنَ عَلَيهِم، بَل وَهَرَبَت فَتَيَاتٌ مِن بُيُوتِ أَهلِيهِنَّ لَمَّا غُرِّرَ بِهِنَّ؛ فَهَتَكنَ سِترَهُنَّ، وَخَلَعنَ أَثوَابَ الصِّيَانَةِ، وَرَمَينَ جَلابِيبَ العِفَّةِ، وَأَنزَلنَ أَنفُسَهُنَّ في القَاعِ وَأَورَدنَهَا الحَضِيضَ وَالسُّفلَ، بَعدَ أَن كُنَّ في القِمَّةِ وَالعُلُوِّ. وَبِاسمِ الحُرِّيَّةِ اعتُدِيَ عَلَى حُقُوقِ الآخَرِينَ وَأُوذُوا؛ إِمَّا بِضَربٍ أَو قَتلٍ، وَإِمَّا بِهَتكِ عِرضٍ أَو أَكلِ مَالٍ، وَبِاسمِ الحُرِّيَّةِ أُتلِفَت مُمتَلَكَاتٌ وَعُبِثَ بِمُقَدَّرَاتٍ، وَخُولِفَت أَنظِمَةٌ وَلم يُوقَفْ عِندَ حَدٍّ.

وَايمُ اللهِ -يَا عِبَادَ اللهِ- لَقَد خَلَقَ اللهُ -تَعَالى- الإِنسَانَ حُرًّا، وَأَعطَاهُ إِرَادَةً وَمَشِيئَةً وَاختِيَارًا، وَلَولا ذَلِكَ لَمَا حَاسَبَهُ وَلا آخَذَهُ عَلَى أَفعَالِهِ، لَكِنَّ أَعظَمَ الحُرِّيَّةِ الَّتِي مَنَحَهَا -تَعَالى- لِلإِنسَانِ أَنْ لم يَجعَلْهُ عَبدًا لِغَيرِهِ، بَل وَلم يَأذَنْ لَهُ أَن يَعبُدَ أَحَدًا سِوَاهُ، قَالَ -سُبحَانَهُ-: (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ)[الذاريات:56]؛ فَالعُبُودِيَّةُ لَهُ -تَعَالى- وَحدَهُ هِيَ عَينُ الحُرِّيَّةِ، بِهَا يَتَحَرَّرُ الإِنسَانُ مِن أَسرِ المَخلُوقَاتِ، وَيَكُونُ في غَايَةِ الحُرِّيَّةِ في نَفسِهِ، وَيَتَمَتَّعُ بِمَا وَهَبَهُ رَبُّهُ مِنَ المُبَاحَاتِ؛ فَيَأَكُلُ مَا شَاءُ وَيَشرَبُ مَا شَاءُ، وَيَلبَسُ مَا شَاءُ وَيَركَبُ مَا شَاءُ، وَيَتَنَقَّلُ حَيثُ شَاءُ وَيَعمَلُ مَا شَاءَ، وَيَبِيعُ وَيَشتَرِي فِيمَا شَاءُ وَيَستَأجِرُ وَيُؤَجِّرُ مَا شَاءُ، وَيَتَزَوَّجُ وَيُزَوِّجُ مَن يَشَاءُ، في حُرِّيَّاتٍ وَمُبَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، لِيَعِيشَ عِيشَةً كَرِيمَةً وَيَحيَا حَيَاةً طَيِّبَةً، بَعِيدًا عَمَّا حَرَّمَهُ عَلَيهِ لِضَرَرِهِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ.

وَلَكِنَّ مِنَ النَّاسِ كَثِيرِينَ لم يُوَفَّقُوا لِلعُبُودِيَّةِ الَّتي فِيهَا عِزُّهُم وَفَلاحُهُم وَنَجَاتُهُم، وَخَرَجُوا عَنهَا بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّهُم خَرَجُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ، إِلى رِقٍّ آخَرَ ابتَكَرَهُ أَعدَاؤُهُم، وَأَدخَلُوهُم فِيهِ مِن حَيثُ لم يَشعُرُوا.

أَجَل –أَيُّهَا الإِخوَةُ– لَقَد جَعَلَ الأَعدَاءُ النَّاسَ عَبِيدًا لِلشَّهَوَاتِ وَالرَّغَبَاتِ عَلَى مُختَلِفِ أَنوَاعِهَا وَأَشكَالِهَا؛ فَصَارَت هِيَ الَّتي تُحَرِّكُهُم وَتُوجِّهُهُم، وَتُقِيمُهُم وَتُقعِدُهُم؛ فَغَدَا هَذَا عَبدًا لامرَأَةٍ، وَصَارَ ذَاكَ عَبدًا لِكَأسٍ وَمُخَدِّرٍ، وَأَصبَحَ الثَّالِثُ عَبدًا لِلمَالِ وَالمَادَّةِ، وَأَضحَى الرَّابِعُ عَبدًا لِلَّهوِ المُنفَلِتِ وَالتَّرفِيهِ المُحَرَّمِ، وَأَمسَى آخَرُونَ عَبِيدًا لِلعَادَاتِ الجَاهِلِيَّةِ وَالرُّسُومِ القَبَلِيَّةِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مَفهُومَ الحُرِّيَّةِ الصَّحِيحَ هُوَ العُبُودِيَّةُ للهِ وَحدَهُ دُونَ سِوَاهُ، الحُرِّيَّةُ الحَقِيقِيَّةُ أَن يُحِبَّ المَرءُ للهِ وَيُبغِضُ للهِ، وَيُعطِي للهِ وَيَمنَعُ للهِ، وَيَعِيشُ للهِ وَيَمُوتُ في سَبِيلِ اللهِ، وَأَلاَّ يَكُونَ لَهُ اختِيَارٌ وَلا خِيَارٌ غَيرُ مَا اختَارَهُ اللهُ وَقَضَاهُ، وَلا وَاللهِ لَيسَ بَعدَ ذَلِكَ وَلا سِوَاهُ إِلاَّ الضَّلالُ وَالهَلاكُ وَالخَسَارَةُ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالى- : (وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا)[الحزاب:36]، وَقَالَ -سُبحَانَهُ-: (إِنَّمَا كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بَينَهُم أَن يَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ)[النور:51-52]، وَقَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إِذَا نَهَيتُكُم عَن شَيءٍ فَاجتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرتُكُم بِأَمرٍ فَأتُوا مِنهُ مَا استَطَعتُم"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ).

تِلكَ هِيَ الحُرِّيَّةُ في الإِسلامِ، لَهَا حُدُودٌ شَرعِيَّةٌ وَمَعَالِمُ رَبَّانِيَّةٌ، لَيسَت في إِعطَاءِ نَفسٍ مَا تَختَارُ مَا لم يُبِحْهُ اللهُ، وَلا في إِتيَانِ العَبدِ المَعصِيَةَ وَتَعَدِّيهِ الحُدُودَ وَارتِكَابِ مَا نُهِيَ عَنهُ، وَلا هِيَ في سَبِّ دِينٍ وَلا في نَقضِ مَبَادِئٍ، وَلا تَطَاوُلٍ عَلَى ثَوَابِتٍ ولا في هَدمِ قِيَمٍ، وَلا في انتِقَادِ مَا جَاءَ في كِتَابٍ أَو سُنَّةٍ لأَنَّ عُقُولاً زَائِغَةً لم تَستَوعِبْهُ، ولا في رَدِّهِ لأَنَّ فِطَرًا فَاسِدَةً لم تَقبَلْهُ، وَلَكِنَّهَا تَصَرُّفٌ وَهَبَهُ اللهُ لِلإِنسَانِ بِمَا يُمَكِّنُهُ مِنِ استِيفَاءِ حَقِّهِ وَأَدَاءِ وَاجِبِهِ دُونَ تَعَسُّفٍ أَوِ اعتِدَاءٍ، وَدُونَ ضَرَرٍ بِنَفسِهِ أَو ضِرَارٍ بِغَيرِهِ.

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّهُ لا حُرِّيَّةَ مُطلَقَةً في الإِسلامِ، وَإِلاَّ لم يَكُنْ لِلعُبُودِيَّةِ للهِ مَعنًى، وَمَن لم يَعبُدِ اللهَ، فَقَد عَبَّدَ نَفسَهُ لِلشَّيطَانِ، قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: (أَلَم أَعهَدْ إِلَيكُم يَا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعبُدُوا الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعبُدُوني هَذَا صِرَاطٌ مُستَقِيمٌ. وَلَقَد أَضَلَّ مِنكُم جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَم تَكُونُوا تَعقِلُونَ)[يس:60- 61].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ)[الأنفال:29].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مِمَّا لَبَّسَ بِهِ الشَّيطَانُ وَأَعوَانُهُ وَإِخوَانُهُ عَلَى النَّاسِ، أَن جَعَلُوا لِلحُرِّيَّةِ ضَابِطًا وَاحِدًا، وَهُوَ أَنَّ الإِنسَانَ حُرٌّ في تَصَرُّفَاتِهِ مَا لم يَضُرَّ بِالآخَرِينَ، وَعَلَيهِ فَإِنَّهُم يُبِيحُونَ لِلفَردِ أَن يَفعَلَ مَا يَشَاءُ وَلَو كَانَ يَعلَمُ أَنَّهُ ضَارٌّ بِهِ وَحدَهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الآخَرِينَ فَلَيسَ حُرًّا فِيهِ إِلاَّ إِذَا رَضُوا هُم بِهِ وَقَبِلُوهُ.

وَالحَقِيقَةُ أَنَّ هَذِهِ النَّظرَةَ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ، وَهِيَ غَيرُ صَحِيحَةٍ وَلا مَقبُولَةٍ عَقلاً وَلا شَرعًا؛ فَلا يَجُوزُ لِفَردٍ وَلا لِجَمَاعَةٍ، لا أَمَامَ النَّاسِ وَلا وَحدَهُم، أَن يَأتُوا مَا فِيهِ ضَرَرٌ بِهِم أَو بِغَيرِهِم؛ فَالحَرَامُ حَرَامٌ في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَالمَمنُوعُ شَرعًا مَمنُوعٌ على كُلِّ حَالٍ؛ فَالكُفرُ لا يُقَرُّ، وَالمَعصِيَّةُ لا تُقَرُّ، وَالمُنكَرَاتُ لا يُرضَى بِظُهُورِهَا وَلا يُسكَتُ عَلَى انتِشَارِهَا، وَلَيسَ في الوُجُودِ مَعصِيَةٌ تَظهَرُ فَيَقتَصِرُ ضَرَرُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَحَسبُ، بَلِ النَّاسُ وَاجِبٌ عَلَيهِم أَن يَعبُدُوا اللهَ جَمِيعًا وَيُسلِمُوا لَهُ (وَمَن يَبتَغِ غَيرَ الإِسلامِ دِينًا فَلَن يُقبَلَ مِنهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ)[آلعمران:85]، وَقَد أُمِرَ نَبِيُّنَا -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- أَن يُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ.

وَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيَ عَنِ المُنكَرِ بِحُجَّةِ أَنَّ النَّاسَ أَحرَارٌ فِيمَا يَشَاؤُونَ فَقَد أَحَلُّوا بِأَنفُسِهِم العُقُوبَةَ؛ فعَن أَبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُم تَقرَؤُونُ هَذِهِ الآيَةَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم)، وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَم يَأخُذُوا عَلَى يَدَيهِ أَوشَكَ أَن يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ مِن عِندِهِ"(رَوَاهُ أَبُودَاوُدَ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

وَهَا نَحنُ نَرَى مُجتَمَعَاتِ الغَربِ الكَافِرَةَ، الَّتي فَهِمَتِ الحُرِّيَّةَ عَلَى أَنَّهَا انطِلاقٌ بِلا قَيدٍ، وَتَحَرُّرٌ مِن كُلِّ ضَابِطٍ، وَتَخَلُّصٌ مِن كُلِّ رَقَابَةٍ، وَصَارَ الفَردُ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ بِلا خَوفٍ؛ فَمَا النَّتِيجَةُ؟! ارتَفَعَ مُعَدَّلُ الجَرَائِمِ لَدَيهِم، وَكَثُرَ فِيهِمُ القَتلُ وَانتَشَرَتِ السَّرِقَةُ، وَعَمَّ الاختِطَافُ وَالاغتِصَابُ، وَشَاعَ الشُّذُوذُ وَالخِيَانَةُ، وَظَهَرَ انحِلالُ الأَخلاقِ في صُوَرٍ لم يَسبِقْ لَهَا مَثِيلٌ.

أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- وَلْنَكُنْ عَبِيدًا لَهُ مُسلِمِينَ رَبَّانِيِّينَ، وَلْنَحذَرْ مِن تَجَاوُزِ حُدُودِهِ وَأَحكَامِ شَرعِهِ بِدَعوَى الحُرِّيَّةِ؛ فَإِنَّهُ (مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ وَمَن أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيدِ)[فصلت: 46].

وصلوا وسلموا...