السبوح
كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...
العربية
المؤلف | عدنان مصطفى خطاطبة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
فقد ندرس ونحصل على الشهادات، وقد نكون أساتذة أصحاب شهادات، لنا مكانتنا عند الخلق وفي موازينهم وهم معجبون بنا لمكانتنا العلمية، ولكن ميزان الله يقول بأن العالم الذي لا ينفعه علمه ولا يتقي الله في حياته العلمية والوظيفية، يحمل الشهادة ولكن لا يشهد له دينه ولا صلاته ولا ورعه ولا أمانته بأنه كان فيها على الصراط المستقيم، فإن هذا العالم وذلك المدرس وأولئك المتعلمون وأصحاب الشهادات هم كالحمار يحمل أسفارا! تنتظرهم جهنم ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد: فقبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما في الحديث الصحيح: "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زمان يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ! مَا أَظْرَفَهُ! مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ"، ما أجلده! ما أعقله! وما في قلبه مثقال ذرة من إيمان! فيه إشارة إلى أن موازين الناس ستختلف اختلافا كليا مع ميزان الله تعالى، يقال للإنسان: ما أظرفه! ما أعقله! يُكال له المدح والثناء، وترفع قيمته وفقا لموازين الناس، أما في ميزان الله فهو لا شيء!لا شيء! فما قيمة الإنسان بدون التزام؟.
أيها الإخوة المؤمنون: لنصغ إلى ميزان الله، ماذا يقول في قيمة وقدْر الإنسان الذي يسفِّه الالتزام، الذي يطلّق الالتزام، يقول الحق سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [الأعراف:157]، هذا إنسان طائع لله, آتاه الله علما ودينا، ورفع مكانته وقدره بالالتزام, ولكن هذا الإنسان الملتزم سرعان ما هبت علية رياح الفتنة، وسموم الدنيا، فأقبل عليها يعبّ منها عبّاً، ويغرف من وديانها غرْفا، فأخذ شيئا فشيئا يتخلى عن الالتزام، يتخلى عن العبودية لله تعالى، ويولّي وجهه تلقاء قبلة الشهوات، حتى وصل إلى مرحلة خلع فيها ثوب التديّن والالتزام، وغرق في وحل الدنيا كما غرق وما يزال يغرق فيه كثير من المسلمين اليوم، في عصرنا هذا خاصة, فماذا أصبحت مكانته الحقيقية عند الله؟
ماذا أصبحت قيمته في ميزان الله -الآن- الآن بدون التزام؟ يقول الحق سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) [الأعراف157-158].
سبحان الله! لو تفكّرنا جيدا بهذا الموقف، والله إنه لموقف كبيرٌ كبير! هذا الإنسان بعد أن كان يوصف بأنه إنسان ربّاني لأنه كان ملتزما، وبعد ذلك: وإذا بالله يصفه بأنه كالكلب، نعم كالكلب.
لتكون هذه رسالة واضحة للناس بأن الله لا يعْبث مع خلقه، ولا يلهو معهم، ولا يجاملهم, وبأن ميزانه واحد وثابت يسري على الكلّ، فمن كان ملتزما فله الكرامه، ومن ألقى بالالتزام وراء ظهره ألقى الله به في قائمة الحيوانات، فلا كرامة له كائنا من يكون.
نعم، يا أيها الأخوة، ما قيمة المسؤول بدون التزام؟ ما قيمته؟ وميزان الله يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في مسند أحمد وإسناده قوي: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوبقه الجور".
فالناس قد ترفع من قيمة المسؤول وصاحب المنصب لمنصبه ولكرسيه ولعرشه، ولكن ميزان الله مختلف تماما مع موازين الخلق، فإن ميزان الله يقدّر صاحب المنصب هذا إن أقام العدل وهو على منصبه واتقى ربه -عز وجل-، وإلا فلا قدر له عند الله ولا كرامة، مهما نفخ الناس فيه، ومهما لمّعوا له منصبه فإن جهنم بانتظاره، يأتيها مغلولة يداه إلى عنقه، لا ينفعه يومها إلا عدله وتقواه.
نعم، يا أيها الأخوة: ما قيمة طالب العلم والمُدرس بدون التزام؟ ما قيمة الشهادات وأصحابها بدون التزام؟ وميزان الله يقول فيه, كما في الحديث, أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان يقول اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة".
فقد ندرس ونحصل على الشهادات، وقد نكون أساتذة أصحاب شهادات، لنا مكانتنا عند الخلق وفي موازينهم وهم معجبون بنا لمكانتنا العلمية، ولكن ميزان الله يقول بأن العالم الذي لا ينفعه علمه ولا يتقي الله في حياته العلمية والوظيفية، يحمل الشهادة ولكن لا يشهد له دينه ولا صلاته ولا ورعه ولا أمانته بأنه كان فيها على الصراط المستقيم، فإن هذا العالم وذلك المدرس وأولئك المتعلمون وأصحاب الشهادات هم كالحمار يحمل أسفارا! تنتظرهم جهنم وهي أولى بهم من غيرهم؛ لأن أهل العلم هم الأولى بأن يتقوا الله تعالى.
نعم، يا أيها الأخوة، ما قيمة الموظّف والتاجر والعامل بدون التزام؟ وميزان الله يقول -كما في الحديث الشريف-: "فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ"، وفي الحديث كذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ترك صلاة العصْر فقد حبط عملُه".
ففي موازين الناس قد تكون أيها الموظف وأيها التاجر مُغتبَطا، ويتمنى بعض الناس مكانك، وتقدم لك التحيات، وتكال لك المدائح، ولكن في ميزان الله فرض واحد يفوتك تنخسف عند الله أسفل سافلين، فكيف أنت أيها الموظف الكبير وأيها التاجر الغني إذا كنت مهملا للصلاة، أو غاشاً، أو آكلا للحرام، فما تظن قدْرك في ميزان الله بعدها؟.
نعم، يا أيها الأخوة، ما قيمة أصحاب التنعم واللهو، أولئك الغارقون في عالم اللّذائذ والشهوات والتمتع بالدنيا على حساب آخرتهم، ما قيمتهم وميزان الله يقول فيهم، كما في الحديث الصحيح، عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِى النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ!".
صبغة واحدة، غطّة واحدة، غمسة واحدة، أنْسَتْ هذا الغارِق في عالم الترف والشهوات كلّ لذائذه طول عمره،لم يعد يذكر شيئا من تلك الشهوات والسفرات، واللهو والمهرجانات، والخيمات والنومات، والشواطئ الساحرات، والفنادق الهادئات، فهو في ميزان الله محترق، ناشف مرباد، وإن كان في موازين الناس منتفخ البطن، مبتسم الوجه، هنيء الحياة كما يبدو لهم.
نعم، يا أيها المؤمن العاقل، ما قيمتي؟ وما قيمتك؟ ما قيمتها؟ وما قيمتهن؟ وما قيمتهم؟ ما قيمة الإنسان دون التزام؟ وميزان الله الحق يقول: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
فكُنْ -يا أيها الإنسان- ما شئت، كُنْ ملكا أو عبدا، كنْ مسؤولا أو عاملا، كن غنيا أو فقيرا، كنْ عالما أو جاهلا، كنْ وجيهاً أو وضيعاً، كنْ ما بَدَا لك في هذه الدنيا؛ لا ولن يكون لك قَدَرٌ عند الله حتى تكون ملتزماً بشرع الله، لا ولن يحفل الله بك حتى تكون معظِّما لشرع الله، قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: "إِنَّهُ لَيَأْتِى الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ"، جناح بعوضة! لا بعوضه كاملة! ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: اقْرَؤوا إن شئتم: (فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف:105].
ولكن -أيها الأخوة- بالمقابل : ما قيمة الإنسان بالالتزام؟ لنستمع إلى هذا الموقف الذي وقع في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- والذي يكشف لنا عن شيء من قيمة العبد الملتزم: ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى بَرْزَةَ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ فِي مَغْزًى لَهُ فَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟". قَالُوا: نَعَمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟". قَالُوا: نَعَمْ فُلاَنًا وَفُلاَنًا وَفُلاَنًا. ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟". قَالُوا لاَ. قَالَ: "لَكِنِّى أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا فَاطْلُبُوهُ". فَطُلِبَ فِي الْقَتْلَى، فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ ثُمَّ قَتَلُوه،ُ فَأَتَي النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: "قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ، هَذَا مِنِّى وَأَنَا مِنْهُ، هَذَا مِنِّى وَأَنَا مِنْهُ".
هذه هي قيمة الإنسان الملتزم بشرع الله، وهذه مكانته، إن لم يعلم به الناس, يعلمه رب الناس, وان لم يقدّره البشر، يقدّره ربّ البشر، وإن لم يهتم به أهل الدنيا, يهتم به أهل الجنة، وإن لم يعترف له بمكانة اجتماعية في الدنيا الفانية، فله المكانة الرفيعة في الآخرة الباقية.
أيها الملتزم، أيها الطائع لربك، أيها المتبع لنبيك -صلى الله عليه وسلم-: تمسك بما أنت عليه رغم الفتن، وأصبر على ما أنت عليه رغم المحن.
أيها الشاب المستقيم: اصبر على ما أنت عليه، رغم عوارض الدنيا الجاذبة، وشهواتها الفتاكة؛
أيها الفتاة المتحجبة، حبيبة عائشة وفاطمة، تمسكي بما أنت عليه من العفاف والخير رغم عوارض الشر؛ فدهركم هذا -أيها الملتزمون- وأيامكم هذه -أيتها الملتزمات- هي أيام الصبر والصابرين والصابرات، التي بشركم عليها محمد -صلى الله عليه وسلم- بأعظم البشرى, فأصغوا إليه حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ". قَالَوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ!".
أيها الملتزمون: أيها العابدون لرب العالمين: أنتم، أنتم لا غيركم، أنتم مَحطُّ أنظار الله من هذه الدنيا، لولا وجودكم لأهلك الله الخلق عن بكرة أبيهم، لولا توحيدكم وسجودكم، لولا صلاحكم ودعوتكم، لما أذن الله للصبح أن يسفر، ولا للشمس أن تشرق؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ الشَّعِيرِ أوِ التَّمْرِ لاَ يُبَالِيهُمُ اللهُ بَالَةً".
ولذلك عندما تفرغ الأرض من الموحدين والصالحين، تبدأ أعاصير الساعة المدمرة باجتياحها, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِى الأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ"، فالله الله بالملتزمين! ليحفظهم الله، وليرعاهم، وليزيدهم من فضله؛ فالحق بهم يا أيها الإنسان، واركب في مركبهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيتها الأمة الملتزمة، أيها السائرون على درب محمد -صلى الله عليه وسلم-: أنتم أنصار محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودعوته، وأمته؛ أنتم الذين بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ببقائكم قلباً حيًّا ينبض في جسم هذه الأمة، ونوراً مشعاً يضيء دياجير الظلام في حياة الأمة، ويكشف عنها البهتان والغمة.
أنتم مَن وصفكم رسول الله عليه وسلم: بقوله -كما في الصحيح-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق". نعم، "ظاهرين على الحق"، متمسكين بالحق، ولا ينصرون إلا الحق؛ وما زال أتباع الحق في هذه الأمة -على مر التاريخ- يتصدون لكل كلمة باطل، ولكل مقولة زور يُرمى بها الإسلام ونبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم-.
وما زلنا نرى -ولله الحمد- تلك المواقف الصادقة التي يقفها أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجه مَنْ ينعثوا قمامتهم وسمومهم على دعوة الحق، وتنزف ألسنتهم بالحقد والشتم والإيذاء على دعاة الأمة، قصدا إلى تعطيل مسيرة الإسلام، وشلّ فاعلية دعاته.
ولكنً نبينا -صلى الله عليه وسلم-, وصف أتباعه بأنهم: "لا يضرهم من خذلهم ولا من آذاهم", فهم يدفعون الباطل ويدافعون عن الحق، ويمضون على درب محمد -صلى الله عليه وسلم- بلا كلل ولا ملل، وإن استنكف المستنكفون، ولكنَّ الملتزمين والدعاة العاملين على درب النبوة والصحابة سالكون، وثابتون، ومرابطون، وبمولاهم واثقون، ولربهم عابدون، وبدينهم ملتزمون.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا يا رب العالمين.