المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | حمزة بن فايع آل فتحي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقد خفيت الأخلاق في زمن أجهم فيه الظلم واللؤم والدناءة، أكلت رواتب العمال، والتهمت حقوقهم، وديست كرامتهم، أما رواتبهم فهي إن لم تؤكل تأخرت، وإن لم تتأخر نُقِصت. وأما حقوقهم فلم يُحفظ لهم حق الإسلام ولا حقّ الأخوة ولا حق الولاية. وأما كرامتهم فليس لهم وزن ولا مقدار عند كثير من الناس، يُعاملون معاملة الحقراء، بكل معاني القهر والذل والاستخفاف، بل...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 ، 71].
أيها الناس: استأجر كفيل أجيرًا على شغل ما، بذل العامل دمه ووقته، واستفرغ وسعه ونشاطه، واحتمل شدائد العمل إذا اشتدت الشمس وسال العرق والتهب الوجه، ولم يزل كادحًا لإنجاح الصنعة وإتمام الشغل، فتم النجاح والإتقان، وحصل للأجير النصب والإعياء والضعف والارتخاء. ذهب الأجير لاستلام أجره وحقه، فما كان من صاحب العمل إلا أن راغ وتنكر وضاق وتنمّر، وأظهر استياءه منه، وادعى الرداءة والضعف في الصنعة بلا دليل، وطرد الأجير بعدما أكل قوته والتهم جهده وتعبه، وأبدى كلّ استعداد للذهاب لمحكمة الحقوق ونحوها. ما علم الجاهل المسكين أنه لا يخاصم أجيرًا خاملاً ولا قاضيًا غائبًا، ولا يخاصم مؤسسة نائية، إنه يخاصم رب العالمين وقاصم الظالمين وديان الخلق أجمعين.
هذه صورة من صور ظلم العمال والأجراء والخدم، فلقد انكشفت الحقيقة ولم يعد الأمر سرًّا.
تفشت صور الظلم واستطالت، وصدعت أنباؤها وتعاظمت، وبانت أحوالها وأحزنت. لقد نُزعت الرحمة من قلوب كثير من الكفلاء، وهانت عرى إسلامهم، وتمزقت خيوط إنسانيتهم، فعاملوا العمال الأجراء شر معاملة، واستعملوهم أشد استعمال، وجازوهم أبشع جزاء.
هل سمعتم بأظلم ممن لم يعطِ العمال رواتب سنة أو سنتين؟! وهل أتاكم خبر بخس الأجور؟! وهل رأيتم سوء حياتهم ومعاشهم؟!
أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
لقد خفيت الأخلاق في زمن أجهم فيه الظلم واللؤم والدناءة، أكلت رواتب العمال، والتهمت حقوقهم، وديست كرامتهم، أما رواتبهم فهي إن لم تؤكل تأخرت، وإن لم تتأخر نُقِصت. وأما حقوقهم فلم يُحفظ لهم حق الإسلام ولا حقّ الأخوة ولا حق الولاية. وأما كرامتهم فليس لهم وزن ولا مقدار عند كثير من الناس، يُعاملون معاملة الحقراء، بكل معاني القهر والذل والاستخفاف، بل قل: معاملة البهائم عند بعض الظَّلَمة وإن كان للبهائم رحمة.
معاشر المسلمين: إن شيوع الظلم في الناس علامة شر وفساد، وأذانُ محق وعذاب، فكيف إذا مورس الظلم بصورة بشعة مع طبقة المستضعفين كالعمال؟! وهم إن كانوا مسلمين يرجى بهم النصر والرحمة والفرج، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ابغوني ضعفاءكم، هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟! بدعائهم واستغفارهم".
إن الأمة لتهون عند الله وتحرم كثيرًا من الخير بسبب ظلمها الضعيف وتسلطها على المسكين، روى ابن ماجه بسند حسن عن جابر -رضي الله عنه-، والحديث عند أبي يعلى في المسند والبيهقي في السنن، قال: قال جابر -رضي الله عنه-: لما رجَعَت إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مهاجرةُ البحر قال: "ألا تحدثوني بأعاجيبَ ما رأيتم بأرض الحبشة؟!"، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلّتها، فلما ارتَفعت التفَتَت إليه فقال: سوف تعلم -يا غُدَر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخِرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "صدقت صدقت، كيف يقدِّس الله أمةً لا يؤخذُ لضعيفِهم من شديدِهم".
أيها الإخوة الكرام: لماذا يعامل بعضنا العمال بتسلط واحتقار؟! يأكل جهدهم، ويشق عليهم، ويسيء إليهم بأحطّ العبارات والألفاظ، لا يراقب الله فيهم، ولا يمنحهم شهامة، ولا يؤدّي لهم نوعَ شفقة ورعاية. من المؤسف أن طبقة العمال في هذا الزمان من أشدّ الطبقات تورطًا في الظلم والعسف والمهانة، لا يحصل هذا في بلد كافِر، بل في بلد مسلم، يعرف أهله العدل والرحمة والإحسان كما يعرفون أهليهم وأبناءهم.
أين أنتم من صنيع أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- مع غلامه إذ حاطه برحمة متناهية وإحسان سام؟! ثبت في الصحيح عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذَة وعليه حُلة، وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر: أعيرته بأمة؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".
أيها الإخوة: لا يُنكَر وجود طائفة في العمال ضعيفة الدين والأمانة، لكن الأصل أن يعطى المكفول أو العامل حقّه بموجب العقد والشرط، ولا تبخس الأجور ولا تؤخّر، وقد صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عَرقُه".
وأما ما يصنعه بعض الكفلاء من تغريم العامل أو الأجير سنويًّا أو شهريًّا حتى بلغ ببعضهم أن يستقدم العمال لأجل هذا الغرض، فهؤلاء ما يأكلون في بطونهم إلا النار، وباطل ما كانوا يعملون. كيف يجيز هؤلاء الظلمة لأنفسهم أكل تعب غيرهم وحصاد ثمار مشاقهم، حيازة أموال ليس لهم فيها أي جهد أو عمل؟! إن هذا لشيء عجاب!
معاشر الكفلاء وغيرهم: تصوّروا عاملاً مظلومًا أُكل ماله ونهكت نفسه، رفع يديه إلى السماء منتقمًا من سيده وكفيله، يطلب العون والنصر، وقد قال تعالى: (أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]، وفي الصحيحين قال –صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: "واتقِ دعوة المظلم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، وفي الحديث الآخر: "إن الله يرفعها فوق الغمام ويقول: وعزتي وجلالي، لأنصرنك ولو بعد حين". هل تحب أن تكون في هذا الصف يومًا من الأيام؟!
هما طريقان ما للمرء غيرهما | فانظر لنفسك ماذا أنت تختارُ |
اللهم انفعنا بالكتاب والسنة، وجنبنا الظلم والغفلة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هنا أصول وقواعد مهمة في استقدام العمال واستخدامهم؛ منها:
أولاً: الحذر من استخدام الكفار وذوي العقائد الفاسدة، ممن يجلبون شرورًا خطيرة على هذه البلاد الطاهرة، والذين لا يؤمَنون على المعايش والمصالح، وقد روى مالك في الموطأ بسند صحيح أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان".
ثانيًا: إعطاؤهم حقوقهم وعدم ظلمهم وبخس شيء منها، حسب الشروط المتفق عليها في العمل، وليحذر المسلم ظلم هؤلاء فإنه من الخطورة بمكان، وفي الصحيح قال -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة".
ثالثًا: أمرهم بالصلاة وزجرهم عليها، فإنها عمود الإسلام، والفارق بين المسلم والكافر، وقد لوحظ تقصير كثير من الكفلاء في ذلك وإهمالهم لها لدرجة أن العمال يعملون في أوقات الصلاة دون رقيب أو حسيب.
رابعًا: حسن التعامل مع المسلمين منهم ورحمتهم والشفقة بهم، وفي ذلك من الفوائد ما لا يحصى، وقد صح عنه أنه قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
خامسًا: دعوتهم وتعميق معاني الإسلام في نفوسهم بإحضار الكتب والأشرطة الملائمة للغتهم. ومن المؤسف أن يقال هنا: إنه يأتي عمال مسلمون بجهالات وخرافات من بلدانهم، ولا يقدم لهم كفلاؤهم شيئًا من النصح والتذكير، وذلك عن طريق مكاتب الجاليات وغيرها. ومنهم من يمكث بضع عشرة سنة في المملكة، ولا يتعلم من أمور الدين شيئًا، بل ربما رجع كما أتى، وإذا ابتلي بكفيل جائر، حمل أفكارًا سيئة عن هذه البلاد وأهلها، فضلاً عن تنكره للإسلام وتصوّره مفاهيم باطلة عنه.
وصلوا وسلموا -يا عباد الله- على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا".
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم جنبنا الزلل والفتن والمحن، واجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين...