الرب
كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - صلاة العيدين |
الأَيَّامُ تَمضِي وَالأَعوَامُ تَنقَضِي ، وَالبَشَرُ يَذهَبُونَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَلا يَعُودُونَ ، وَفي كُلِّ عَامٍ يَشِبُّ صِغَارٌ وَيَكتَهِلُ شَبَابٌ ، وَيَشِيخُ كُهُولٌ وَيَمُوتُ شُيُوخٌ ، وَنَفقِدُ وُجُوهًا كُنَّا نَرَاهَا ، وَيَغِيبُ عَنَّا مَن كَانَ مِلءَ السَّمعِ وَالبَصَرِ مِنَّا (وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكرَامِ) ذَلِكُم – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – أَنَّ اللهَ الوَاحِدَ الأَحَدَ الفَردَ الصَّمَدَ ، لم يَخلُقِ البَشَرَ لِلبَقَاءِ وَالدَّوَامِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُم عَلَى هَذِهِ الأَرضِ حَيَاةً مَحدُودَةً ، وَأَجَلاً مُسَمًّى لا يَستَأخِرُونَ عَنهُ سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ ، بَل يَمُوتُونَ وَيُرَدُّونَ إِلى اللهِ مَولاهُم الحَقِّ (أَلا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ)..
الخطبة الأولى:
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ. اللهُ أَكبَرُ كَبِيرًا، وَالحَمدُ للهِ كَثِيرًا، وَسُبحَانَ اللهِ بُكرَةً وَأَصِيلاً.
الحَمدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأَرضِ وَلَهُ الحَمدُ في الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ، أَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحسَانٍ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة: 21].
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، تَتَوَالى الشُهُورُ وَتَتَصَرَّمُ الأَيَّامُ، وَهَا نَحنُ في خِتَامِ العَامِ، في مَوسِمٍ حَافِلٍ وَيَومٍ فَاضِلٍ، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ –: "أَعظَمُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ يَومُ النَّحرِ" (رَوَاهُ الإِمَامُ أَحمَدُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
أَجَل – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – الأَيَّامُ تَمضِي وَالأَعوَامُ تَنقَضِي، وَالبَشَرُ يَذهَبُونَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَلا يَعُودُونَ، وَفي كُلِّ عَامٍ يَشِبُّ صِغَارٌ وَيَكتَهِلُ شَبَابٌ، وَيَشِيخُ كُهُولٌ وَيَمُوتُ شُيُوخٌ، وَنَفقِدُ وُجُوهًا كُنَّا نَرَاهَا، وَيَغِيبُ عَنَّا مَن كَانَ مِلءَ السَّمعِ وَالبَصَرِ مِنَّا (وَيَبقَى وَجهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكرَامِ) [الرحمن: 27].
ذَلِكُم –أَيُّهَا المُسلِمُونَ– أَنَّ اللهَ الوَاحِدَ الأَحَدَ الفَردَ الصَّمَدَ، لم يَخلُقِ البَشَرَ لِلبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُم عَلَى هَذِهِ الأَرضِ حَيَاةً مَحدُودَةً، وَأَجَلاً مُسَمًّى لا يَستَأخِرُونَ عَنهُ سَاعَةً وَلا يَستَقدِمُونَ، بَل يَمُوتُونَ وَيُرَدُّونَ إِلى اللهِ مَولاهُم الحَقِّ (أَلا لَهُ الحُكمُ وَهُوَ أَسرَعُ الحَاسِبِينَ) [الأنعام: 62].
لَقَد جَعَلَ – سُبحَانَهُ - البَقَاءَ لِنَفسِهِ، وَتَفَرَّدَ بِالمُلكِ وَالخَلقِ وَالأَمرِ وَالتَّدبِيرِ، وَأَمَّا البَشرُ فَقَد خَلَقَهُم لِغَايَةٍ عَظِيمَةٍ كَرِيمَةٍ، بَيَّنَهَا لَهُم بِقَولِهِ: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ) [الذاريات: 56].
وَفي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتي يُختَمُ بها العَامُ، وَتِلكَ الشَّعَائِرِ وَالمُشَاعِرِ وَالمَنَاسِكِ، يَعِيشُ المُسلِمُ مُوَحِّدًا مُتَفَكِّرًا، ذَاكِرًا مُكَبِّرًا، حَامِدًا شَاكِرًا، تَائِبًا مُستَغفِرًا، مُلَبِّيًا مُخبِتًا وَجِلاً، رَاجِيًا خَائِفًا، مُقِيمًا لِلصَّلاةِ مُنفِقًا، مُعَظِّمًا لِلشَّعَائِرِ وَالحُرُمَاتِ، وَفي الحَجِّ وَالعَجِّ وَالثَّجِّ، وَالأَضَاحِي وَالهَديِ وَأَيَّامِ العَشرِ وَالتَّشرِيقِ، يَظهَرُ التَّوحِيدُ جَلِيًّا –أَيُّهَا المُسلِمُونَ–، وَيَتَبَيَّنُ في كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَيَتَكَرَّرُ في كُلِّ فِعلٍ وَتَركٍ، وَيَبرُزُ مِن مَشعَرٍ إِلى مَشعَرٍ وَمِن مَنسَكٍ إِلى مَنسَكٍ، يَدُورُ العَبدُ في كُلِّ شَأنِهِ حَولَ تَوحِيدِ رَبِّهِ وَالإِخلاصِ لَهُ، وَيَنطَلِقُ مِنهُ في كُلِّ مَا يَأتي وَيَذَرُ، يُمسِكُ مُنذُ دُخُولِ العَشرِ عَنِ الأَخذِ مِن شَعرِهِ وَظُفُرِهِ وَبَشَرَتِهِ، طَاعَةً للهِ وَامتِثَالاً لِلأَمرِ وَاقتِدَاءً وَاهتِدَاءً.
وَالحَاجُّ يَخرُجُ مِن بَيتِهِ سَائِرًا إِلى بَيتِ رَبِّهِ، يَعلَمُ أَنَّ اللهَ يَسمَعُهُ وَيَرَاهُ، فَيُفَارِقُ أَهلَهُ وَوَلَدَهُ وَأَحبَابَهُ، وَيَخرُجُ مِن أَرضٍ عَاشَ فِيهَا وَيَترُكُ مَوطِنًا أَلِفَهُ، وَيَتَكَلَّفُ السَّفَرَ مِن أَقصَى الشَّرقِ أَوِ الغَربِ، وَيَقطَعُ القِفَارَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، يَفعَلُ ذَلِكَ طَاعَةً للهِ القَائِلِ: (وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبرَاهِيمَ مَكَانَ البَيتِ أَنْ لا تُشرِكْ بي شَيئًا وَطَهِّرْ بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 26- 27].
يَخرُجُ المُسلِمُ وَهُوَ في قِمَّةِ الغِنى وَالثَّرَاءِ، فَيَلبَسُ لِبَاسَ الفُقَرَاءِ، وَيَعِيشُ عِيشَةً الضُّعَفَاءِ، قَد يَكُونُ في حَيَاتِهِ كُلِّهَا لم يَخرُجْ مِن بَلَدِهِ وَلا فَارَقَ مَسكَنَهُ، وَلَكِنَّ عُبُودِيَّةَ الوَاحِدِ الأَحَدِ بَعَثَت هِمَّتَهُ، وَتَوحِيدَهُ لِرَبِّهِ أَخرَجَهُ، وَابتِغَاءَ مَا عِندَ الخَالِقِ الرَّازِقِ جَاءَ بِهِ، دَعَاهُ دَاعِي التَّوحِيدِ، وَنَادَاهُ مُنَادِي الإِيمَانِ، وَأَلهَبَ قَلبَهُ الشَّوقُ إِلى البَيتِ العَتِيقِ، وَأَشعَلَ فُؤَادَهُ الحَنِينُ إِلى رُؤيَةِ المَشَاعِرِ العَظِيمَةِ، وَحُضُورِ المَشَاهِدِ الكَرِيمَةِ.
وَتَرَاهُ مِن حِينِ وُصُولِهِ إِلى المِيقَاتِ وَفي أَوَّلِ أَعمَالِ الحَجِّ، يَغتَسِلُ وَيَتَطَهَّرُ وَيَتَجَرَّدُ، فَيَتَذَكَّرُ بِذَلِكَ الآخِرَةَ وَالمَصِيرَ المَحتُومَ، حِينَ تُخلَعُ ثِيَابُهُ مِن عَلَى جَسَدِهِ، وَيُغَسَّلُ لِيَأتِيَ رَبَّهُ فَردًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةً، فَإِذَا أَحرَمَ رَفَعَ صَوتَهُ بِالتَّوحِيدِ مُلَبِّيًا مُكَرِّرًا كَلِمَةَ التَّوحِيدِ: "لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ لا شَرِيكَ لَكَ".
وَبَعدَ الإِحرَامِ يُمسِكُ عَنِ الطِّيبِ وَالنِّسَاءِ وَالشَّهَوَاتِ وَالمَلَذَّاتِ طَاعَةً للهِ – سُبحَانَهُ -، الَّذِي أَحَلَّهَا لَهُ قَبلَ أَن يَدخُلَ في حَجِّهِ وَعُمرَتِهِ، ثم جَعَلَهَا عَلَيهِ حَرَامًا في نُسُكِهِ، لِيَعلَمَ بِذَلِكَ أَنَّ رَبَّهُ - سُبحَانَهُ – هُوَ الَّذِي يَحكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكمِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَعَبدٌ مَأمُورٌ لا يُقَدِّمُ وَلا يُؤَخِّرُ، بَل يَسمَعُ وَيُطِيعُ وَيُسَلِّمُ تَسلِيمًا.
فَإِذَا أَرَادَ أَن يَطُوفَ بِالبَيتِ وَيَسعَى بَينَ الصَّفَا وَالمَروَةِ، تَذَكَّرَ عَظَمَةَ اللهِ الَّذِي شَرَّفَ هَذَا البَيتَ وَعَظَّمَهُ، وَفَضَّلَهُ وَكَرَّمَهُ، وَتَذَكَّرَ أَبَا الأَنبِيَاءِ وَإِمَامَ الحُنَفَاءِ، الَّذِي خَصَّهُ اللهُ فَبَنَاهُ، وَرَفَعَ قَوَاعِدَهُ مِن أَجلِ التَّوحِيدِ وَكَلِمَةِ الإِخلاصِ، وَأَرسَاهَا لِيُعبَدَ فِيهَا اللهُ وَحدَهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ (وَإِذْ يَرفَعُ إِبرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيتِ وَإِسمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجعَلْنَا مُسلِمَينِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَينَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 127- 128].
وَفي المَشَاعِرِ المُقَدَّسَةِ، في عَرَفَةَ وَمُزدَلِفَةَ وَمِنًى، وَالَّتي فَضَّلَهَا اللهُ وَجَعَلَهَا مَوَاقِفَ لِعِبَادَتِهِ، وَأَلزَمَ عِبَادَهُ بِالوُقُوفِ بها أَوِ المَبِيتِ فِيهَا، في أَوقَاتٍ مُحَدَّدَةٍ وَحُدُودٍ مُعتَبَرَةٍ، وَقَبلَ ذَلِكَ في المَوَاقِيتِ المَكَانِيَّةِ الَّتي يُحرِمُ مِنهَا، يَتَذَكَّرُ المُسلِمُ أَنَّ الأَمرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ (وَرَبُّكَ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَختَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبحَانَ اللهِ وَتَعَالى عَمَّا يُشرِكُونَ) [القصص: 68].
وَالأَمرُ نَفسُهُ في أَمَاكِنِ الرَّميِ وَعَدَدِ الحَصَيَاتِ الَّتي يُرمَى بِهَا وَحَجمِهَا وَقَدرِهَا، وَعَدَدِ أَشوَاطِ الطَّوَافِ وَالسَّعيِ، وَالحَلقِ وَالتَّقصِيرِ وَالذَّبحِ، وَتَوقِيتِ كُلِّ عَمَلٍ مِنهَا، كُلُّهَا تَتَبَيَّنُ فِيهَا عُبُودِيَّةُ العَبدِ لِرَبِّهِ، وَوُجُوبُ امتِثَالِهِ لأَمرِهِ وَإِن لم يَعقِلِ الحِكمَةَ وَيَعلَمْهَا.
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَفي كُلِّ شِبرٍ في البِقَاعِ المُقَدَّسَةِ يَرَى الحَاجُّ جُمُوعًا مُتَبَايِنَةَ الأَقطَارِ، مُتَبَاعِدَةَ الأَمصَارِ، مُختَلِفَةَ اللُّغَاتِ مُتَعَدِّدَةَ اللَّهَجَاتِ، وَاقِفَةً بَينَ يَدَيِ اللهِ في لَحظَةٍ وَاحِدَةٍ، مُتَذَلِّلَةً مُتَبَذِّلَةً، خَاشِعَةً مُتَخَشِّعَةً، يَرفَعُونَ أَكُفَّهُم إِلى اللهِ دَاعِينَ مُبتَهِلِينَ، فَلا يَخفَى عَلَيهِ - سُبحَانَهُ - مَكَانُهُم، وَلا تَختَلِطُ عَلَيهِ أَصوَاتُهُم، وَلا تَغَيبُ عَنهُ مَسَائِلُهُم، وَلا تُعيِيهِ حَوَائِجُهُم.
حَتَّى إِذَا كَانَ يَومُ عَرَفَةَ وَدنَا الرَّبُّ – سُبحَانَهُ –يُبَاهِي بِالحُجَّاجِ مَلائِكَتَهُ، كَانَ أَفضَلُ دُعَاءٍ هُوَ كَلِمَةَ التَّوحِيدِ، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "خَيرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَومِ عَرَفَةَ، وَخَيرُ مَا قُلتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِن قَبلِي: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ" (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
وَفي هَذَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ - أَكبَرُ دَاعٍ إِلى التَّوَجُّهِ إِلى اللهِ لا إِلى غَيرِهِ، وَاللُّجُوءِ إِلى جَنَابِهِ دُونَ مَن سِوَاهُ (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُوني أَستَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر: 60].
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
وَأَمَّا مَشَاهِدُ التَّوحِيدِ في يَومِكُم هَذَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ -، وَهُوَ اليَومُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ يَومَ الحَجِّ الأَكبَرِ، فَإِنَّ الحُجَّاجَ يَستَفتِحُونَ فِيهِ بِرَميِ جَمرَةِ العَقَبَةِ، فَيَتَذَكَّرُونَ مَوقِفًا مِن مَوَاقِفِ التَّوحِيدِ لإِبرَاهِيمَ الخَلِيلِ – عَلَيهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ – ذَاكَ الإِمَامُ الحَنِيفُ الَّذِي امتُحِنَ فَصَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ اللهُ، حَيثُ رَأَى وَرُؤيَا الأَنبِيَاءِ حَقٌّ أَنَّهُ يَقتُلُ وَلَدَهُ وَيَذبَحُهُ، فَبَادَرَ مُمتَثِلاً أَمرَ رَبِّهِ، وَيُجِيبُهُ ابنُهُ الَّذِي رُبِّيَ عَلَى التَّوحِيدِ وَالاستِسلامِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (قَالَ يَا أَبَتِ افعَلْ ما تُؤمَرُ سَتَجِدُني إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فَلَمَّا أَسلَمَا وَتَلَّهُ لِلجَبِينِ. وَنَادَينَاهُ أَنْ يَا إبراهيم. قَد صَدَّقتَ الرُّؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ. وَفَدَينَاهُ بِذِبحٍ عَظِيمٍ. وَتَرَكنَا عَلَيهِ في الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبرَاهِيمَ. كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ. إِنَّهُ مِن عِبَادِنَا المُؤمِنِينَ) [الصافات: 102- 111].
فَإِذَا رَمَى المُسلِمُ جَمرَةَ العَقَبَةِ وَذَبَحَ هَديَهُ أَو أُضحِيَتَهُ، تَذَكَّرَ هَذَا الابتِلاءَ، وَتَذَكَّرَ أَنَّهُ سَيُمتَحَنُ في أَهلِهِ وَمَالِهِ وَنَفسِهِ، فَإِن قَدَّمَ مَا عِندَ اللهِ عَلَى مَا عِندَ نَفسِهِ، كَانَ مُحسِنًا مُؤمِنًا، وَرَفَعَ اللهُ ذِكرَهُ وَأَعلَى قَدرَهُ.
وَذَبحُ الحَاجِّ هَديَهُ وَالمُقِيمِ أُضحِيَتَهُ، مَشهَدٌ عَظِيمٌ مِن مَشَاهِدِ التَّوحِيدِ، حَيثُ يُرِيقُ الدَّمَ لِفَاطِرِ الأَرضِ وَالسَّمَاءِ، قَائِلاً: باِسمِ اللهِ وَاللهُ أَكبَرُ، مُتَذَكِّرًا قَولَ رَبِّهِ: (قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ) [الأنعام: 162- 163].
وَيَقِفُ الحَاجُّ لِيَتَحَلَّلَ مِن نُسُكِهِ فَيَحلِقُ شَعرَ رَأسِهِ أَو يُقَصِّرُ، وَيَتَشَبَّهُ بِهِ المُقِيمُ فَيُقَلِّمُ أَظَافِرَهُ وَيَقُصُّ شَارِبَهُ، وَيَحلِقُ مَا احتَاجَ إِلى حَلقِهِ أَو يُقَصِّرُ، يَفعَلُونُ ذَلِكَ عُبُودِيَّةً للهِ - عَزَّ وَجَلَّ – وَامتِثَالاً لأَمرِهِ، وَطَاعَةً لَهُ - جَلَّ جَلالُهُ - وَقُربَةً إِلَيهِ، وَاقتِداءً بِمَن أُمِرُوا بِالاقتِدَاءِ بِهِ، وَهَكَذَا فَالحَجُّ وَمَا بِهِ مِن مَنَاسِكَ، وَالهَديُ وَالأَضَاحِي، وَالتَّلبِيَةُ وَالتَّكبِيرُ عِندَ الرَّميِ وَالذَّبحِ، كُلُّهَا تَوحِيدٌ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ وَوُقُوفٌ عِندَ حُدُودِهِ، وَإِظهَارٌ لِلعُبُودِيَّةِ وَالانقِيَادِ، وَعَظَمَةِ الخَالِقِ – سُبحَانَهُ – وَافتِقَارِ المَخلُوقِ وَضَعفِهِ (وَإِذْ بَوَّأنَا لإِبرَاهِيمَ مَكَانَ البَيتِ أَن لا تُشرِكْ بي شَيئًا وَطَهِّرْ بَيتيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللهِ في أَيَّامٍ مَعلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِن بَهِيمَةِ الأَنعَامِ فَكُلُوا مِنهَا وَأَطعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ. ثُمَّ لْيَقضُوا تَفَثَهُم وَلْيُوفُوا نُذُورَهُم وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّت لَكُمُ الأَنعَامُ إِلاَّ مَا يُتلَى عَلَيكُم فَاجتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوثَانِ وَاجتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ للهِ غَيرَ مُشرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخطَفُهُ الطَّيرُ أَو تَهوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ. ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ) [الحج: 26- 32].
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الَّذِي شَرَحَ صُدُورَنَا لِلرَّشَادِ، وَوَفَّقَنَا لِلتَّوحِيدِ وَصَحِيحِ الاعتِقَادِ، أَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، شَهَادَةً أَرجُو بها النَّجَاةَ يَومَ المَعَادِ.
اللهُ أَكبَرُ اللهُ أَكبَرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبَرُ، اللهُ أَكبَرُ وَللهِ الحَمدُ.
عِبَادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ رَبَّكُم، وَاستَغفِرُوهُ مِن ذَنبِكُم، وَاستَعِدُّوا بِطَاعَتِهِ لما أَمَامَكُم، لا تَغُرَّنَّكُمُ الفَانِيَةُ فَتُؤثِرُوهَا عَلَى البَاقِيَةِ، أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا شَهرَ رَمَضَانَ وَحُجُّوا البَيتَ الحَرَامَ، وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَأَحسِنُوا، تَصَافَوا وَتَوَاصَلُوا، وَتَصَافَحُوا وَتَصَالَحُوا، أَفشُوا السَّلامَ، وَأَطعِمُوا الطَّعَامَ، تَوَاضَعُوا وَلِينُوا، وَإِيَّاكُم وَقَطِيعَةَ الأَرحَامِ وَهَجرَ الأَقَارِبِ وَالجِيرَانِ.
إِنَّكُم في أَيَّامِ عِيدٍ وَأَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ، يَحرُمُ صَومُهَا، وَتُعَظَّمُ الشَّعَائِرُ فِيهَا، فَعَظِّمُوا كُلَّ مَا عَظَّمَ رَبُّكُم تُفلِحُوا، كُلُوا وَاشرَبُوا وَتَهادَوا وَتَصَدَّقُوا، وَضَحُّوا بِأَطيَبِ مَا تَجِدُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، قَالَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "أَربَعٌ لا تَجُوزُ في الأَضَاحِي: العَورَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالعَرجَاءُ البَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالعَجفَاءُ الَّتي لا تُنقِي" (رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَهلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.
يَا نِسَاءَ المُسلِمِينَ، إِذَا صَلَّتِ المَرأَةُ خَمسَهَا، وَصَامَت شَهرَهَا، وَحَصَّنَت فَرجَهَا، وَأَطَاعَت زَوجَهَا، قِيلَ لها: ادخُلِي الجَنَّةَ مِن أَيِّ أَبوَابِ الجَنَّةِ شِئتِ ؛ أَلا فَاحفَظْنَ حَقَّ اللهِ وَحَقَّ الأَزوَاجِ، وَالْزَمْنَ البُيُوتَ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولى، وَلا تَخضَعْنَ بِالقَولِ فَيَطمَعَ الَّذِي في قَلبِهِ مَرَضٌ وَقُلنَ قَولاً مَعرُوفًا، كُنَّ حُصُونًا لِلصَّلاحِ والفَضِيلَةِ، وَلا تَكُنَّ جُسُورًا لِلفَسَادِ وَالرَّذِيلَةِ، أَكثِرْنَ الصَّدَقَةَ تَكُنْ لَكُنَّ حِجَابًا مِنَ النَّارِ.
اللهُ أَكبرُ اللهُ أَكبرُ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكبرُ، اللهُ أَكبرُ وَللهِ الحَمدُ.