البحث

عبارات مقترحة:

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

الحيي

كلمة (الحيي ّ) في اللغة صفة على وزن (فعيل) وهو من الاستحياء الذي...

الغني

كلمة (غَنِيّ) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (غَنِيَ...

أين تكمن قوة السلفية؟!

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. بقاء الإسلام الصحيح عبر القرون علَم من أعلام النبوة .
  2. أهمية الحرص على نقاء المنهج السلفي .
  3. مفاسد البدع والتحذير منها .
  4. الحث على التمسك بالسنة والاتباع الصحيح .
  5. مصادر قوة المنهج السلفي .
  6. أسباب الهجوم على المنهج السلفي. .

اقتباس

مَكْمَنُ الْقُوَّةِ فِي المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ إِذَا دُعِيَ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ قَبِلَ وَاسْتَجَابَ، وَعَمِلَ بِهِمَا، وَدَعَا إِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- وَبِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمَا، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ الْيَسَيرِةُ المَفْهُومَةُ، المُحْكَمَةُ المَضْبُوطَةُ؛ هِيَ الَّتِي جَذَبَتْ أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ إِلَيْهَا، حَتَّى صَارَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ كُفَّارٍ وَمُنَافِقِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالشَّكْوَى مِنَ انْتِشَارِ المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ فِي أَوْسَاطِ المُسْلِمِينَ الْجُدُدِ، فَرَاحُوا يُلْصِقُونَ بِهَذَا المَنْهَجِ كُلَّ نَقِيصَةٍ، وَيُحَمِّلُونَهُ أَزَمَاتِ الْعَالَمِ وَمُشْكِلَاتِهِ.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

 وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ بَعَثَ اللهُ -تَعَالَى- نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى النَّاسِ رَسُولًا قَضَى –سُبْحَانَهُ- أَنْ يَبْقَى دِينُهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى إِنَّ المَسِيحَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ يَنْزِلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

وَبَقَاءُ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ عَبْرَ هَذِهِ الْقُرُونِ هُوَ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ؛ فَلَمْ يَصْمُدْ دِينٌ آخَرُ صُمُودَ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَبْقَ مَنْهَجٌ أَصِيلٌ يَمْتَدُّ إِلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ سِوَى مَنْهَجِ أَهْلِ الْأَثَرِ، الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ النُّصُوصَ، وَيَأْخُذُونَ بِالْآثَارِ وَالسُّنَنِ.

إِنَّ المَنْهَجَ الصَّحِيحَ النَّقِيَّ لِلْإِسْلَامِ قَدْ عَجَزَ الْأَعْدَاءُ عَنْ تَغْيِيرِهِ بِغَزْوٍ خَارِجِيٍّ عَسْكَرِيٍّ، كَمَا عَجَزُوا عَنْ مَسْخِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِمَكْرٍ فِكْرِيٍّ ثَقَافِيٍّ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا تَحْرِيفَهُ مِنْ دَاخِلِهِ عَنْ طَرِيقِ الْأُجَرَاءِ المُنَافِقِينَ وَالمُنْحَرِفِينَ، فَيَنْحَرِفُ أَشْخَاصٌ عَنِ الْحَقِّ لَكِنَّ المَنْهَجَ الصَّحِيحَ يَبْقَى، وَيَنْبَرِي طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِهِ لِلذَّبِّ عَنْهُ، وَنَشْرِهِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ.

إِنَّ الْإِدْخَالَ عَلَى أَيِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ بِقَصْدِ تَغْيِيرِهِ يَكُونُ بِالِابْتِدَاعِ وَالتَّشَبُّهِ، فَمِنْ شَأْنِ الْبِدْعَةِ أَنْ تَصْرِفَ النَّاسَ عَمَّا أَلِفُوهُ مِنَ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ جَدِيدٍ إِقْبَالًا عَلَيْهِ، وَحَفَاوَةً بِهِ، وَالنَّفْسُ الْبَشَرِيَّةُ مَيَّالَةٌ إِلَى التَّجْدِيدِ؛ وَلِذَا كَانَتِ الْبِدَعُ تَنْتَشِرُ فِي أَهْلِ الْجَهْلِ انْتِشَارَ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ. وَالتَّشَبُّهُ يَنْقُلُ أَدْيَانَ الْآخَرِينَ وَشَعَائِرَهُمْ فَيُوَطِّنُهَا فِي الْأُمَّةِ المُسْتَهْدَفَةِ.

وَبُولَسُ الْيَهُودِيُّ إِنَّمَا أَفْسَدَ الدِّينَ النَّصْرَانِيَّ بِالِابْتِدَاعِ فِيهِ، فَلَمَّا قَبِلُوا ابْتِدَاعَهُ غَيَّرَ دِينَهُمْ كُلَّهُ فَوُصِفُوا بِالضُّلَالِ، وَانْتَقَلُوا مِنَ التَّوْحِيدِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى التَّثْلِيثِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ بُولَسُ. وَأَهْلُ مَكَّةَ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ كَانُوا عَلَى دِينِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَلَا يَعْرِفُونَ الشِّرْكَ، حَتَّى رَأَى عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الْأَصْنَامَ تُعْبَدُ فِي الشَّامِ فَأْعَجَبَهُ ذَلِكَ، فَنَقَلَهَا مِنَ الشَّامِ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَتِ الْبِدْعَةُ مُفْسِدَةً لِدِينِ النَّصَارَى، وَكَانَ التَّشَبُّهُ مُفْسِدًا لِدِينِ أَهْلِ مَكَّةَ.

وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَلَا غَرَابَةَ أَنْ تَتَوَاتَرَ النُّصُوصُ بِغَلْقِ أَبْوَابِ الِابْتِدَاعِ وَالتَّشَبُّهِ، وَالتَّشْدِيدِ فِي ذَلِكَ؛ حَتَّى جُعِلَ المُبْتَدِعُ مُسْتَدْرِكًا عَلَى الشَّرْعِ، وَجُعِلَ المُتَشَبِّهُ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ.

إِنَّ تَعْظِيمَ النَّصِّ، وَاقْتِفَاءَ السُّنَنِ، وَالْأَخْذَ بِالْأَثَرِ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ لِلْإِسْلَامِ صَفَاءَهُ وَنَقَاءَهُ، فَلَا يُدْخَلُ فِيهِ شَرَائِعُ لَيْسَتْ مِنْهُ، وَلَا تُتْرَكُ شَرَائِعُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ وَالْأَحْكَامَ مَحْفُوظَةٌ فِي السُّنَنِ وَالْآثَارِ، فَالمُحَافَظَةُ عَلَى النَّصِّ مُحَافَظَةٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ؛ وَلِأَنَّ شِدَّةَ النَّهْيِ عَنِ الِابْتِدَاعِ وَالتَّشَبُّهِ تُحِيطُ الدِّينَ بِسِيَاجٍ مَتِينٍ، فَيَبْقَى عَلَى نَقَائِهِ وَصَفَائِهِ.

وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ وَالسُّنَّةِ، فَتَرَاهُمْ يُلَقِّنُونَهُ طُلَّابَهُمْ، وَيُعَلِّمُونَهُ عَوَامَّهُمْ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «يَجِيءُ قَوْمٌ يَتْرُكُونَ مِنَ السُّنَّةِ مِثْلَ هَذَا –يَعْنِي: مِفْصَلَ الْأَصْبُعِ- فَإِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ جَاءُوا بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ كِتَابٍ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَوَّلُ مَا يَتْرُكُونَ السُّنَّةَ، وَإِنَّ آخِرَ مَا يَتْرُكُونَ الصّلَاةُ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ لَتَرَكُوا الصَّلَاةَ.

فَلْنَتَأَمَّلْ كَيْفَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ -وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَائِهِمْ- يُحَذِّرُ مِنْ تَرْكِ قَلِيلِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ قَلِيلِهَا يُؤَدِّي إِلَى الْإِدْبَارِ عَنْهَا، وَاسْتِبْدَالِ غَيْرِهَا بِهَا.

وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ».

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ اللهَ اخْتَارَ مُحَمَّدًا مِنَ النَّاسِ فَهَدَاهُمْ بِهِ وَعَلَى يَدَيْهِ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مَا اخْتَارَ لَهُ وَعَلَى لِسَانِهِ، فَعَلَى الْخَلْقِ أَنْ يَتَّبِعُوهُ طَائِعِينَ أَوْ دَاخِرِينَ، لَا مَخْرَجَ لِمُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ».

وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِذَا وَجَدْتُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُنَّةً فَاتَّبِعُوهَا، وَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ».

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْإِسْلَامِ كَانُوا يَعُدُّونَ الذَّبَّ عَنِ السُّنَّةِ، وَرَدَّ الطُّعُونِ عَلَيْهَا، وَدَعْوَةَ النَّاسِ إِلَيْهَا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَدَّ الْعُدْوَانِ عَلَى الدِّيَارِ يَقُومُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَلَا يُحْسِنُ رَدَّ الْعُدْوَانِ عَلَى السُّنَنِ وَالْآثَارِ إِلَّا أَقَلُّ النَّاسِ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: «سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِيْنٍ يَقُوْلُ: الذَّبُّ عَنِ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ فِي سَبِيْلِ اللَّهِ. فَقُلْتُ ليَحْيَى: الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ، وَيُتْعِبُ نَفْسَهُ، وَيُجَاهِدُ، فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ؟! قَالَ: نَعَمْ، بِكَثِيْرٍ».

بَلْ كَانُوا يَعُدُّونَ التَّمَسُّكَ بِالسُّنَنِ فِي زَمَنِ غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمَ مِنَ الْجِهَادِ، كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ سَلَّامٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «المُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَهُوَ الْيَوْمَ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنَ الضَّرْبِ بِالسُّيُوفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى». يَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ وَهُوَ قَدْ عَاشَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، فَمَاذَا سَيَقُولُ لَوْ رَأَى غُرْبَةَ السُّنَنِ فِي زَمَنِنَا هَذَا؟! وَمَاذَا سَيَقُولُ لَوْ سَمِعَ هُجُومَ مَنْ هَبَّ وَدَبَّ عَلَى السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ؟!

وَانْتُقِدَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ المُنَيِّرِ السَّكَنْدَرِيُّ بِسَبَبِ عَدَمِ مُشَارَكَتِهِ فِي مَعَارِكِ رَدِّ التَّتَارِ عَنْ دِيَارِ المُسْلِمِينَ، فَقَالَ مُعْتَذِرًا: «وَلَا أَجِدُ فِي تَأَخُّرِي عَنْ حُضُورِ الْغَزَاةِ عُذْرًا إِلَّا صَرْفَ الْهِمَّةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ هَذَا المُصَنَّفِ –يَعْنِي: كَشَّافَ الزَّمَخْشَرِيِّ المُعْتَزِلِيِّ- وَالرَّدَّ عَلَى أَقْوَالِهِ الَّتِي تُمَثِّلُ رَأْيَ المُعْتَزِلَةِ..» اهـ.

وَفِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الحجرات: 2] تَخْوِيفٌ مِنْ حُبُوطِ الْعَمَلِ لِمُجَرَّدِ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَكَيْفَ بِمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ يَرُدُّ سُنَّتَهُ، وَيَرْفُضُ حُكْمَهُ، وَيَهْدِمُ شَرِيعَتَهُ، وَيَسْتَبْدِلُ بِهَا رَأْيَهُ وَرَأْيَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ؟!

عَلَّقَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ المُخَوِّفَةِ مِنْ حُبُوطِ الْعَمَلِ، فَقَالَ: «فَحَذَّرَ المُؤْمِنِينَ مِنْ حُبُوطِ أَعْمَالِهمْ بِالْجَهْرِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا يَجْهَرُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. وَلَيْسَ هَذَا بِرِدَّةٍ بَلْ مَعْصِيَةٌ تُحْبِطُ الْعَمَلَ، وَصَاحِبُهَا لَا يَشْعُرُ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ قَدَّمَ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهَدْيِهِ وَطَرِيقِهِ قَوْلَ غَيْرِهِ وَهَدْيَهُ وَطَرِيقَهُ؟! أَلَيْسَ هَذَا قَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ؟».

وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ عَظَمَةَ المَنْهَجِ المُسْتَمَدِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقُوَّةِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْهَجُ الْحَقِّ، وَلَنْ يَغْلِبَ بَاطِلٌ حَقًّا. كَمَا يُبَيِّنُ خُطُورَةَ الْحَيْدَةِ عَنْهُ، الَّتِي قَدْ تَكُونُ سَبَبًا فِي حُبُوطِ عَمَلِ صَاحِبِهَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقَعُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَدْرِي؛ فَيَرُدُّ سُنَّةً أَوْ حُكْمًا أَوْ فَرِيضَةً لِمُجَرَّدِ أَنَّهُ سَمِعَ مُنْحَرِفًا فِي إِذَاعَةٍ أَوْ فَضَائِيَّةٍ يَرُدُّهَا، أَوْ لِأَنَّهُ قَرَأَ لِكَاتِبٍ ضَالٍّ يُشَكِّكُ فِيهَا، نَعُوذُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- مِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَفَسَادِ الْعُقُولِ، وَنَسْأَلُهُ -تَعَالَى- أَنْ يَعْصِمَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ وَالْأَهْوَاءِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ.... 

 الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 131- 132].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِنَّ قُوَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ فِي حِفْظِ سُنَنِهِ وَآثَارِهِ، وَنَشْرِهَا بَيْنَ عَوَامِّ المُسْلِمِينَ، وَدَحْضِ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ. وَكُلُّ مُجَادِلٍ مُبْطِلٍ، وَكُلُّ مُبْتَدِعٍ مُضِلٍّ، وَكُلُّ زِنْدِيقٍ مُعْرِضٍ؛ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَنْ يَقِفَ بِفَلْسَفَاتِهِ وَكَلَامِيَّاتِهِ وَجِدَالِهِ أَمَامَ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ، وَلمَّا كَانَ رُؤُوسُ المُعْتَزِلَةِ يُنَاظِرُونَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ كَانَ يَرُدُّهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَيَنْقَطِعُونَ أَمَامَهُ، فَإِذَا حَاوَلُوا إِخْرَاجَهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إِلَى فَلْسَفَاتِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمْ قَالَ: "أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى أَقُولَ بِهِ"، فَيقُولُونَ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إِلَّا بِهَذَا وَهَذَا؟ فَيَقُولُ: وَهَلْ يَقُومُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِمَا؟ فَيَرُدُّهُمْ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَسَبَبُ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُظْهِرُوا أَمَامَ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَ المُسْلِمِينَ، بَيْنَمَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يَستَطِيعُ أَنْ يَجْهَرَ بِرَدِّ فَلْسَفَاتِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمْ.

وَهَذَا هُوَ مَكْمَنُ الْقُوَّةِ فِي المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِفَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّهُ إِذَا دُعِيَ إِلَى كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ قَبِلَ وَاسْتَجَابَ، وَعَمِلَ بِهِمَا، وَدَعَا إِلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ -تَعَالَى- وَبِرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُودُهُ إِلَى اتِّبَاعِهِمَا، وَهَذِهِ الْعَقِيدَةُ الْيَسَيرِةُ المَفْهُومَةُ، المُحْكَمَةُ المَضْبُوطَةُ؛ هِيَ الَّتِي جَذَبَتْ أَكْثَرَ المُسْلِمِينَ إِلَيْهَا، حَتَّى صَارَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنْ كُفَّارٍ وَمُنَافِقِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالشَّكْوَى مِنَ انْتِشَارِ المَنْهَجِ السَّلَفِيِّ الْأَثَرِيِّ فِي أَوْسَاطِ المُسْلِمِينَ الْجُدُدِ، فَرَاحُوا يُلْصِقُونَ بِهَذَا المَنْهَجِ كُلَّ نَقِيصَةٍ، وَيُحَمِّلُونَهُ أَزَمَاتِ الْعَالَمِ وَمُشْكِلَاتِهِ.

 وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهَجٌ حَقٌّ حِينَ تَرَى تَآزُرَ الْعَلْمَانِيِّ الشَّهْوَانِيِّ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ مَعَ أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ الْخُرَافِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعُبَّادُ الْأَوْثَانِ؛ لِيَرْمُوهُ جَمِيعًا عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَيَتَحَزَّبُوا عَلَيْهِ كَمَا تَحَزَّبَ كُفَّارُ الْعَرَبِ وَالمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَتْبَاعِهِ فِي فَجْرِ الدَّعْوَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَهُمْ مَدْحُورُونَ بِإِذْنِ اللهِ -تَعَالَى- (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لهُمُ المَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...