الأعلى
كلمة (الأعلى) اسمُ تفضيل من العُلُوِّ، وهو الارتفاع، وهو اسمٌ من...
العربية
المؤلف | راشد البداح |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام - الحياة الآخرة |
ففي موقف ذلك الرجل الذي هو آخر داخلٍ للجنة، تتجلى لنا الرهبة والرحمة معًا؛ فالمرء ليس بضامن جنة ربه إلا برحمة ربه، وهو قبل ذلك على خوف وخطر أن يُحرم فلا يُرحم. وأما مقام الرحمة فإن الله رحِم ذلك...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ظَهَر لأوليائه بنعوت جلاله، وتعرَّف إليهم بما أسداه إليهم من إفضاله، وأشهد ألا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وسد إلى جنته جميع الطرق؛ فلم يُفتح لأحد إلا من طريقه، فنشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد. أما بعد: فاتقوا الله؛ فإنكم في شهرٍ التقوى فيه أقوى.
منذ الأمس وتلك الأبواب العظيمة مفتوحة، أتدرون كم سعة تلك الأبواب؟ "إنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِها مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً".
ما تلكم الأبواب يا ترى؟! إنها أبواب الجنة الثمانية كلها مفتوحة طيلة رمضان. والمقلق المفزع أن هذه الأبواب على سعتها الهائلة "سيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ، وكل باب منها كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ"([1]). "حتى إن أهل الجَنَّة لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكَادَ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ"([2]). فهل تتخيل أنك تزاحم بهذه الصفة؟!
وما دمنا في شهر الرحمات والبركات وتفتح الجنات، فلنسأل أنفسنا:
أتعرفون قصة آخر رجل يدخل الجنة؟ إنها قصة عجيبة، حتى لقد ضحك منها الصحابة تعجبًا، بل ضحك منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ضحك منها رب العالمين جل جلاله.
قال صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ؛ أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ، .. وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ، هو آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ .. فَهْوَ يَمْشِي مَرَّةً، وَيَكْبُو مَرَّةً، وَتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا (أي كَتَم أنفاسي قبح رائحة النار)، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، (أي: وهج حرارتها)؛ فَاصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ! فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو اللَّهَ، فَيَقُولُ: لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ أَنْ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ! لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. فَيَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا رَبِّ! قَرِّبْنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ! فَيَقُولُ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو، فَيَقُولُ: لَعَلِّي إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ تَسْأَلُنِي غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَعِزَّتِكَ! لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ.
فَيُعْطِي اللَّهَ مَا شَاءَ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهُ، فَيُقَرِّبُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ (فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ فَلأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا، وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ! لَعَلِّي إِنَّ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. . وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا، وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا، .. ثُمَّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ.. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ! أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ؛ لأَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا، لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ! أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَرَبُّهُ يَعْذِرُهُ؛ لأَنَّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا، فَيُدْنِيهِ مِنْهَا، فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ-، فَإِذَا رَأَى مَا فِيهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
ثُمَّ يَقُولُ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ! ثُمَّ يَقُولُ: أَوَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتَ أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهُ؟ وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! لاَ تَجْعَلْنِي أَشْقَى خَلْقِكَ! فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ، فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبِّ! أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: أَلاَ تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ r، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ.
فَيَقُولُ اللَّهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ! فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى! فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ! فَيَأْتِيهَا، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى! فَيَقُولُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ!
فَإِذَا ضَحِكَ مِنْهُ أَذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قِيلَ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا! فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: تَمَنَّ مِنْ كَذَا! فَيَتَمَنَّى، حَتَّى تَنْقَطِعَ بِهِ الأَمَانِيُّ،
فَيَقُولُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ، وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ، فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ.. مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ.. ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ، فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فَتَقُولاَنِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ".
ففي موقف ذلك الرجل الذي هو آخر داخلٍ للجنة، تتجلى لنا الرهبة والرحمة معًا؛ فالمرء ليس بضامن جنة ربه إلا برحمة ربه، وهو قبل ذلك على خوف وخطر أن يُحرم فلا يُرحم. وأما مقام الرحمة فإن الله رحِم ذلك الرجلَ، وأكرمه ووقاه، ثم أعطاه أضعافًا مضاعفة، لم تخطُر على قلبه.
وتأملوا كيف أن الرجلَ الداخلَ للجنة بَادَرَ لِلْحَلِفِ وقال: "لَا وَعِزَّتِك" لِمَا وَقَعَ لَهُ مِنْ قُوَّة الْفَرَح بالله، وقُرب قَضَاءِ حَاجَته. وقُوَّة الطَّمَع فيما طُبِعَ عَلَيْهِ الْآدَمِيّ.
وَفِي هذه القصة العجيبة: عظيم فَضْل الدُّعَاء، وَقُوَّة الرَّجَاء فِي إِجَابَة الدَّعْوَة وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي أَهْلًا لِذَلِكَ فِي ظَاهِر الحال، لَكِنَّ فَضْل الْكَرِيم وَاسِع.
فعلى كل مسلم أن يكثر من دعاء ربه، لا سيما قبل الإفطار، وفي الأسحار، وفي خلوته مع ربه، وأن يحسن الظن بمولاه؛ فمهما كنت متماديًا بالمعصية فإن رحمة الله تَسَعُك إذا انطرحت معترفًا بما كنتَ مقترفًا. فإذا كان ربنا قد يجيب دعاء المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمؤمنين -مع تقصيرهم- أولى وأحرى.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا"([3]). وحياء الرب –تعالى- من عبده نوع مدهشٌ لا تدركه الأفهام؛ لأنه حياء كرم وبر وجود وجلال، حتى إنه يستحيي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام، بل من استحيا من الله استحيا الله منه"([4]).
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك. سبحانك ما قدرناك حق قدرك. وجهك أكرم الوجوه، وجاهُك أعظم الجاه، وعطيِّتك أعظم العطيِّة. تُطاعَ فتَشكُر. وتُعصى فتَغفِر.
اللهم نشكو إليك ضعفَ قوتِنا، وقلةَ حيلتِنا، وهوانَنا على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربنا، إن لم يكن بك غضب علينا فلا نبالي، غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لنا.
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَرَى مَكَاننا، وَتَسْمَعُ كَلامنا، وَتَعْلَمُ سِرّنا وَعَلانِيَتنا، ولا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنا، نَحْنُ البُؤَساءُ الفُقَراء، الْمُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُون، الْوَجِلُون الْمُشْفِقُون، الْمُقِرُّون الْمُعْتَرِفُون بِذُنُوبِهم، نَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ، وَنَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ.
اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أَشْقِياء، وَكُنْ بِنا رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.
([3])رواه الترمذي (3556) وحسنه وابن حبان (876)، والحاكم (1/ 497) وصححاه والذهبي. قال ابن حجر في الفتح (11 / 143): إسناده جيد.