البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

القاهر

كلمة (القاهر) في اللغة اسم فاعل من القهر، ومعناه الإجبار،...

القصاص والحدود

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. الرضا بالأحكام الشرعية من براهين الإيمان .
  2. الحكمة من تشريع القصاص والحدود .
  3. ذكر أهم الحدود الشرعية .
  4. ثمرات تطبيق الحدود. .

اقتباس

فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَسْطٌ لِلْعَدْلِ، وَتَسْكِينٌ لِثَوْرَةِ النُّفُوسِ، وَشِفَاءٌ لِلصُّدُورِ، وَقَطْعٌ لِأَسْبَابِ الثَّأْرِ وَالِانْتِقَامِ. وَبِذَا يَحِلُّ الْأَمْنُ، وَيَزُولُ الْخَوْفُ، وَتُوأَدُ الْفَوْضَى، وَيَرْضَى ذَوُو الْقَاتِلِ وَذَوُو المَقْتُولِ. وَفِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ رَدْعٌ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَلِلُّصُوصِ عَنِ السَّرِقَةِ، وَلِلْمَحَارِبِينَ المُفْسِدِينَ عَنْ قَطْعِ الطُّرُقِ السَّالِكَةِ وَتَرْوِيعِ النُّفُوسِ الْآمِنَةِ، وَإِخْرَاسٌ لِلْأَلْسُنِ الْقَاذِفَةِ، وَحِفْظٌ لِلْعُقُولِ مِمَّا يُغَيِّرُهَا، وَحِمَايَةٌ لِلدِّينِ مِنَ التَّلَاعُبِ بِهِ..

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ؛ شَرَعَ لَنَا مِنَ الدِّينِ أَحْكَمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنَ الْكَلَامِ أَحْسَنَهُ، وَبَعَثَ إِلَيْنَا خَاتَمَ رُسُلِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ هُدَاةِ أُمَّتِهِ؛ نَحْمَدُهُ عَلَى مَا لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا هَدَانَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَحْكَامِ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا عَدْلَ إِلَّا فِي شَرِيعَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَالظُّلْمُ مَا خَالَفَ حُكْمَهُ وَشَرْعَهُ ?أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ? [المائدة: 50].

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِهِ، وَالْتَزِمُوا حُكْمَهُ، وَعَظِّمُوا شَرِيعَتَهُ، وَلَوْ طَعَنَ فِيهَا الطَّاعِنُونَ، وَانْتَقَدَهَا المُنْتَقِدُونَ، وَحَرَّفَهَا المُحَرِّفُونَ، وَحَادَ عَنْهَا المُعْرِضُونَ؛ فَإِنَّهَا حَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ?قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ? [يونس: 108].

أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ لَوَازِمِ عُبُودِيَّةِ المُؤْمِنِ لِلَّـهِ -تَعَالَى-، وَمِنْ بَرَاهِينِ إِيمَانِهِ بِشَرِيعَتِهِ؛ رِضَاهُ بِأَحْكَامِهَا وَحُدُودِهَا، وَالْيَقِينُ بِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- مَا شَرَعَهَا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهَا لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؛ لِأَنَّ خَالِقَ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا، وَمُشَرِّعَ الْأَحْكَامِ لِأَهْلِهَا وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَإِذَا كَانَتْ جِهَةُ الْخَلْقِ وَالشَّرْعِ وَاحِدَةً اتَّسَقَتِ الْأَحْكَامُ وَانْتَظَمَتْ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا خَلَلٌ وَلَا تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَلَلُ وَالتَّنَاقُضُ بِأَنْ يَشْرَعَ النَّاسُ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يُضَاهِي شَرْعَ اللَّـهِ -تَعَالَى-، أَوْ يُطَبِّقُوا أَحْكَامَهُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، بِسَبَبِ الْجَهْلِ أَوِ الْهَوَى.

وَمِمَّا شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- لِعِبَادِهِ الْقِصَاصَ فِي النُّفُوسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا؛ لِوَأْدِ الثَّارَاتِ، وَإِطْفَاءِ نِيرَانِ الِانْتِقَامِ، وَإِحْلَالِ الْأَمْنِ فِي النَّاسِ، وَإِزَالَةِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ.

وَلَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يُعَظِّمُونَ الثَّأْرَ وَالِانْتِقَامَ، وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْعَفْوِ أَوِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا قُتِلَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ لَمْ يَهْدَأُوا حَتَّى يُصِيبُوا ثَأْرَهُمْ، وَيَشْفُوا صُدُورَهُمْ بِالِانْتِقَامِ مِمَّنْ قَتَلَهُ، وَمِنْ مَقُولَاتِهِمُ المَشْهُورَةِ: "الدَّمُ لَا يُغْسَلُ إِلَّا بِالدَّمِ". وَقِيلَ لِأَعْرَابِيٍّ: "أَيَسُرُّكَ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلَا تُسِيءُ إِلَى مِنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: بَلْ يَسُرُّنِي أَنْ أُدْرِكَ الثَّأْرَ وَأَدْخُلَ النَّارَ".

وَبِقَتْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَفْنَى عَشِيرَةٌ وَتُقْتَلُ قَبِيلَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّأْرَ وَالِانْتِقَامَ حِينَ يَثُورُ لَا يَخْمُدُ إِلَّا بِفَنَاءِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَقَدْ فَنِيَتْ بَكْرٌ وَتَغْلِبُ فِي دَمِ وَائِلِ رَبِيعَةَ، وَاسْتَمَرَّ الثَّأْرُ وَالِانْتِقَامُ فِيهِمْ أَرْبَعِينَ عَامًا.

فَلَمَّا جَاءَ اللهُ -تَعَالَى- بِالْإِسْلَامِ أَلْغَى بِهِ رُسُومَ الْجَاهِلِيَّةِ وَثَارَاتِهَا، وَشَرَعَ الْقِصَاصَ الْعَادِلَ ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى? [البقرة: 178]، وَجَعَلَهُ اللهُ -تَعَالَى- حَيَاةً لِلنَّاسِ بِاسْتِبْقَاءِ النُّفُوسِ الْبَرِيئَةِ، وَإِنْزَالِ الْقِصَاصِ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ ?وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [البقرة: 179]، كَمَا شَرَعَ اللهُ -تَعَالَى- الصُّلْحَ وَالدِّيَةَ وَالْعَفْوَ، وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ الْقِصَاصَ حُكْمَهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ ?وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ? [المائدة: 45].

وَحَرَّمَ سُبْحَانَهُ قَتْلَ النُّفُوسَ بِمَا لَا يُوجِبُ قَتْلَهَا، كَمَا حَرَّمَ عَزَّ وَجَلَّ مُجَاوَزَةَ الْحَدِّ فِي الْقَتْلِ بِأَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ الْقَاتِلِ مِنْ ذَوِيهِ ?وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا? [الإسراء: 33].

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ الزِّنَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: ?وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا? [الإسراء: 32]؛ وَذَلِكَ لِحِفْظِ المُجْتَمَعَاتِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، وَمِنْ حَمْلِ السِّفَاحِ. فَكَانَ حَدُّ الزَّانِي غَيْرِ المُحْصَنِ - وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ زَوَاجٌ - الْجَلْدَ وَالتَّغْرِيبَ، ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّـهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ? [النور: 2]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ...» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

وَأَمَّا الزَّانِي المُحْصَنُ – وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ لَهُ الزَّوَاجُ – فَحَدُّهُ الرَّجْمُ حَتَّى المَوْتِ، وَقَدْ رَجَمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الزِّنَا مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ –رَضِـيَ اللهُ عَنْهُ-: «إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّـهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللهُ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّـهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، أَوِ الِاعْتِرَافُ» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ الْقَذْفِ، وَهُوَ حَدٌّ فِيمَنْ رَمَى أَحَدًا بِفَاحِشَةٍ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَيُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حَتَّى يَتُوبَ؛ وَذَلِكَ لِحفْظِ أَعْرَاضِ النَّاسِ مِنْ أَنْ تَلُوكَهَا الْأَلْسُنُ، وَيَقَعَ فِيهَا الْفُسَّاقُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ الْأَحْقَادِ وَالضَّغَائِنِ وَالثَّارَاتِ ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ? [النور: 5].

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ السَّرِقَةِ؛ حَتَّى تُحْفَظَ الْأَمْوَالُ وَتُصَانَ؛ وَلِئَلَّا يَعْتَادَ النَّاسُ أَخْذَ مَا لَيْسَ لَهُمْ ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّـهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [المائدة: 38]، وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّـهِ، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّـهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» (رَوَاهُ الشَّيْخَانِ).

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ شُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ وَلِأَنَّهَا تُذْهِبُ الْعُقُولَ، وَتُسَبِّبُ وُقُوعَ الْجَرَائِمِ، قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي حَدِّ الْخَمْرِ: «جَلَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ). فَيُجْلَدُ شَارِبُ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، فَإِنْ لَمْ يَرْتَدِعِ النَّاسُ عَنْ شُرْبِهَا، زِيدَ فِي الجَلْدِ إِلَى ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ المُحَارَبَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ?إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ? [المائدة: 33].

 وَالمَشْهُورُ أَنَّ الْآيَةَ فِي قُطَّاعِ الطُّرُقِ الَّذِينَ يُخِيفُونَ النَّاسَ، فَيَقْتُلُونَ وَيَسْلُبُونَ الْأَمْوَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «مَنْ شَهَرَ السِّلَاحَ فِي قُبَّةِ الْإِسْلَامِ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ، ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وَقُدِرَ عَلَيْهِ، فَإِمَامُ المُسْلِمِينَ فِيهِ بِالْخِيَارِ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ». فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا مَالًا تَحَتَّمَ قَتْلُهُمْ وَصَلْبُهُمْ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا تَحَتَّمَ قَتْلُهُمْ فَقَطْ. وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا وَلَمْ يَقْتُلُوا تَحَتَّمَ أَنْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَافُوا النَّاسَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، وَلَا أَخَذُوا مَالًا نُفُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ.

وَمِنْ حُدُودِ اللَّـهِ تَعَالَى: حَدُّ الرِّدَّةِ؛ فَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ اسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا، وَأَنْ يَكْفِيَنَا شُرُورَ أَنْفُسِنَا، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا التَّسْلِيمَ بِحُكْمِهِ وَشَرْعِهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ ?وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ? [البقرة: 223].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَسْطٌ لِلْعَدْلِ، وَتَسْكِينٌ لِثَوْرَةِ النُّفُوسِ، وَشِفَاءٌ لِلصُّدُورِ، وَقَطْعٌ لِأَسْبَابِ الثَّأْرِ وَالِانْتِقَامِ. وَبِذَا يَحِلُّ الْأَمْنُ، وَيَزُولُ الْخَوْفُ، وَتُوأَدُ الْفَوْضَى، وَيَرْضَى ذَوُو الْقَاتِلِ وَذَوُو المَقْتُولِ.

وَفِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ رَدْعٌ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَلِلُّصُوصِ عَنِ السَّرِقَةِ، وَلِلْمَحَارِبِينَ المُفْسِدِينَ عَنْ قَطْعِ الطُّرُقِ السَّالِكَةِ وَتَرْوِيعِ النُّفُوسِ الْآمِنَةِ، وَإِخْرَاسٌ لِلْأَلْسُنِ الْقَاذِفَةِ، وَحِفْظٌ لِلْعُقُولِ مِمَّا يُغَيِّرُهَا، وَحِمَايَةٌ لِلدِّينِ مِنَ التَّلَاعُبِ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبَي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).

فَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ فِيهَا خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ شَرِقَ بِهَا الْكُفَّارُ وَالمُنَافِقُونَ، وَلَوْ وَصَمُوهَا بِالْوَحْشِيَّةِ وَالْهَمَجِيَّةِ، وَلَوْ زَعَمُوا أَنَّ الْعَالَمَ قَدْ تَغَيَّرَ، وَلَا يُنَاسِبُهُ إِقَامَةُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ فِيهِ؛ فَإِنَّ الْإِجْرَامَ هُوَ الْإِجْرَامُ، وَالِاعْتِدَاءَ هُوَ الْاِعْتِدَاءُ.

بَلْ إِنَّ أَمْنَ الْبَشَرِ بَاتَ يَتَقَلَّصُ بِسَبَبِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمُوا بِهَا حِفْظَ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ، بَيْنَمَا هُمْ يَحْفَظُونَ حُقُوقَ المُجْرِمِينَ، وَيَتَغَافَلُونَ عَنْ ضَحَايَاهُمْ. وَاللهُ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَنَا بِالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِهِ ?فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا? [النساء: 65].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...