البحث

عبارات مقترحة:

الشافي

كلمة (الشافي) في اللغة اسم فاعل من الشفاء، وهو البرء من السقم،...

الباسط

كلمة (الباسط) في اللغة اسم فاعل من البسط، وهو النشر والمدّ، وهو...

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الحكمة في الدعوة

الحكمة في اللغة ترجع إلى الحكم وهو المنع،وسميت الحكمة بالحكمة لأنها تمنع الجهل"انظر مقاييس اللغة"(ج2/ص91). قال الخليل: «مرجعها إلى العدل والعلم والحلم»"العين"(ج3/ص66). أما في الاصطلاح: قال الراغب:« والحِكْمَةُ: إصابة الحق بالعلم والعقل" مفردات الراغب"(ص249). بينما عرفها ابن القيم بقوله: « هي الغاية التي يفعل لأجلها، وتكون هي المطلوبة بالفعل، ويكون وجودها أولى من عدمها»"مدارج السالكين لابن القيم"(ج3/ص428) وهي أوضح ماتكون بأنها معرفة تعتمد على أسلوبٍ للتعامل مع الأشخاص والأشياء والأوقات، فالأسلوب القائم على الحق والعلم والحلم أسلوب محبب للمدعو، وسيعطيه فرصة للتفكر والنظر في أمره وماهو عليه، سواء كان في مجادلة أهل اكتاب أو دعوة العصاة من المسلمين.

الأدلة

القرآن الكريم

الحكمة في الدعوة في القرآن الكريم
علّمنا القرآن أنّ كل ما في هذ الكون قائم على حكمة الله في خلقه، وقد سمّى الله تعالى نفسه بالحكيم، ووصف أفعاله بالحكمة، فقال سبحانه: ﴿حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ۖ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ﴾ (القمر: 5). وأخبرنا أن الحكمة عطية منه سبحانه لمن يريد من خلقه، قال تعالى : ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(البقرة: 269). وأسس للدعوة بأساس الحكمة، فقال : ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (125). وقال سبحانه: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. (البقرة: 269). قال أبوجعفر الطبري: «يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده»"جامع البيان"(ج5/ص576). فالحكمة أسلوب أراده الله من عباده لدعوة العباد إليه، والأدلة وافرة والأمثلة كثيرة من كتاب الله على استخدام الحكمة في الدعوة.

السنة النبوية

الحكمة في الدعوة في السنة النبوية
معلم البشرية نبينا محمد علّم الدعاة أن الحكمة أساسٌ في الدعوة، وهي ضالة االمؤمن. فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها». رواه الترمذي (2687). فلا يتردد العبد في البحث عن الحكمة ففيها هدايته ورشاده. فالحكمة مطلب ومبتغى لأنه فيها الخير كله، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحَقِّ، ورجل آتاه الله حِكْمَة ، فهو يقضي بها ويُعَلِّمَها». رواه البخاري (73). وقد بين النبي أن الحكمة هبة من الله حرم منها الكثير، حتى أنه إن كان هناك ثمت حسداً في شيء فليكن في الحكمة. وقد اتصف نبينا محمد بالحكمة في تعامله من الناس، فكان يترك مايعلم حتى يضع كل شيء في مكانه. ومن ذلك موقفه من المنافقين، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهماقال: كنا في غزاة - قال سفيان: مرة في جيش - فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله فقال: «ما بال دعوى الجاهلية» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبيفقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي : «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه»"رواه البخاري"(4905). فمن حكمة النبي أنه ترك قتل المنافقين خشية افتتان الناس، بدعوى أن محمداً يقتل أصحابه. ومن حكمته في تعامله مع أزواجه مارواه البخاري عن أنسٍ_رضي الله عنه-قال: كان النبي- - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصحفة فيها طعام، فضربت التي النبي في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة فانفلقت، فجمع النبي فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة، ويقول: «غارت أمّكم» ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحفة الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كسرت»"رواه البخاري"(5225). وهذا موقف حكيم من النبي -صلى الله عليه-حيث أنه راعى ماحاك في صدر زوجته من الغيرة، مع عدم ظلم الأخرى حقها في صحفتها، فلم يعنف ولم يوبخ. وإنما قام وجمع الطعام بنفسه في الصحفة، ثم لم يترك حق الأخرى فحبس المكسورة وأرسل مكانها غيرها إلى صاحبة الصحفة. قال ابن حجر: «فيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها لأنها في تلك الحالة يكون عقلهاً محجوبا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة»"فتح الباري شرح صحيح البخاري"(ج9/ص325) والمواقف والأدلة على حكمة النبي كثيرة، ينغي للمسلم أن يستفيد منها، فهديه خير هدي، وحكمته ضالة للمؤمن يستنير بها في طريق الحق.

العقل

ثبت بالعقل والشرع أن الدعوة بالحكمة أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، ففيها ينتشر العلم والدين، وتحفظ المجتمعات من المعاصي، وتحفظ من السخط، قال : «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم»"رواه الترمذي"(2169). فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستجيب الله الدعاء، ويحفظ العباد والبلاد من العقوبة.

معالم وإرشادات

المَعْلَم الأول: الداعية إلى الله تعالى يتحرى أوقات الفراغ والنشاط عند المدعويين: فإنه بذلك يمنع وصول مكدرات الملل والسآمة إلى نفوسهم، فيفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا). أخرجه البخاري برقم (68، 2821). قال النووي: (في هذا الحديث الاقتصاد في الموعظة لئلا تملها القلوب فيفوت مقصودها). (شرح النووي على مسلم) (17/164). وقال العيني: (كان يتعهدهم ويراعي الأوقات في وعظهم ويتحرى منها ما كان مظنة القبول، ولا يفعله كل يوم لئلا يسأم). (الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع) (2/57). ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد اللَّه بن مسعود يذكِّر الناس في كل خميس، فقال لـه رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي يتخولنا بها مخافة السآمة علينا. أخرجه البخاري برقم (70). وكان أبو هريرة رضي الله عنه يجعل يوم الخميس من كل أسبوع موعدًا ثابتًا له للتحدث إلى الناس. (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/57). ولم يتفرد ابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهما دون الصحابة بهذا، بل كان ذلك سمة بارزة فيهم، رضوان الله عليهم أجمعين، فهذا عمر رضي الله عنه يقول على المنبر: (أيها الناس لا تبغضوا الله إلى عباده، فقيل كيف ذاك أصلحك الله؟ قال يجلس أحدكم قاصًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه). وقالت عائشة رضي الله عنها لعبيد بن عمير: (إياك وإملال الناس وتقنيطهم). (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/128). وكان الزهري يقول: (إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب). (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/128). وقد ثبت عنه أنه قال: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تُنَفِّروا). أخرجه البخاري برقم (69)، ومسلم برقم (1734). وينبغي للداعية أن يتفرس في وجوه الحاضرين فإذا رأى إقبالًا تكلم، وإلا أمسك، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (حدث القوم ما أقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرت قلوبهم فلا تحدثهم، قيل له: ما علامة ذلك؟ قال: إذا حدقوك بأبصارهم فإذا تثاءبوا، واتكأ بعضهم على بعض فقد انصرفت قلوبهم فلا تحدثهم). (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (1/330). المَعْلَم الثاني: الداعية إلى الله تعالى يراعي قاعدة المصالح والمفاسد (لكل مقام مقال): إن الداعية إلى تعالى كالطبيب إن رأى موضعًا للدواء أعطى، وإلا أمسك، وإن تفاوت عقول الناس ومداركهم يحتمان على الداعية أن يراعي ذلك في مخاطبته للمدعويين، فلا يخاطبهم بما لا تحتمله عقولهم، وتدركه أفهامهم، وكما يقال: رعاية مقتضى الحال قاعدة الحكيم. إن موضوعًا من المواضيع قد يتطرق له دعاة كثيرون ترى لكلام بعضهم صدى في القلوب وأثرًا في النفوس، والبعض الآخر لا ترى لكلامه وزنًا ولا أثرًا، بل إن بعضًا منهم قد يشوش على العقول بما يحدث لهم من بلبلة في الأفكار، وتصادم في الآراء، ما السبب الذي أدى إلى اختلاف النتيجة؟ السبب معروف! وهو أن الداعية الأول قد دعا إلى الموضوع بأسلوب جميل، وخاطب الناس على قد ما تحتمله عقولهم، وراعى في ذلك ظروفهم، وأحوالهم وبيئتهم، وعرض الموضوع بطريقة مناسبة ملائمة. إن من أول ما يجب على الداعية مراعاته في مخاطبة الناس أن يخاطب كل قوم بما يعقلون ويفهمون، حتى تستوعب عقولهم ما يقوله لهم، وحتى لا يحدث فتنة وخللا، وحتى لا تحدث أمور لا تحمد عقباها. قال الله تعالى: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ). قال البخاري: (الرباني هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره). وقد ترك النبي هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم عليه السلام اجتناباً لفتنة قوم كانوا حديثي عهد بجاهلية، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها: (يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت لـه بابين: باباً شرقيّاً، وباباً غربيّاً، فبلغت به أساس إبراهيم). البخاري برقم (1586)، ومسلم برقم (1333). وفي رواية: (إن قومك قصرت بهم النفقة)، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: (فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض) البخاري برقم (1584)، ومسلم برقم (1333). وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها لدفع هذه المفسدة. وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة). وقال أيوب السختياني: (لا تحدثوا الناس بما لا يعلمون فتضروهم). وقال وهب بن منبه: (ينبغي للعالم أن يكون بمنزلة الطباخ الحاذق يعمل لكل قوم ما يشتهون من الطعام). المَعْلَم الثالث: الداعية إلى الله قدوة للناس وأسوة فهو يقابل السيئة بالحسنة: الداعية إلى الله تعالى يتألف الناس بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت. وهذا من أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته. وقد مدح اللَّه رسوله، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). إن للقدوة في عملية التربية أثرًا عظيمًا، فهي من أهم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، وأكثرها فاعلية، ذلك أن لسان الحال أفضل من لسان المقال، فالقول إن لم يصدقه العمل، وخاصة من الدعاة الذين نصبوا أنفسهم لهذا المقام السامي يعتبر في الحقيقة تضييعًا لقيمة هذا القول أيًا كان مبناه، واستخفافًا بالمعاني التي حواها ذلك القول، ولو كانت من عيون المعاني وكرائمها. قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا). قال قتادة: (أي: قادة في الخير، ودعاة هدى، يؤتم بنا في الخير). وقال ابن القيم: (علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا! قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقًا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع الطرق). (الفوائد) (ص61). المَعْلَم الرابع: الداعية إلى الله يستر وينصح ولا يهتك ويُعيِّر: إن النصح بالتعريض دون التصريح أحد العوامل الحساسة المهمة لنجاح الداعية في دعوته، فالنفوس البشرية مجبولة على الأنفة والكبر والاعتداد بالذات، فهي لا تحب أن يواجهها أحد كائنًا من كان بعيوبها صريحةً مكشوفةً، لأنها تعتبر ذلك إهانة لها وتحقيرًا فتلجأ إلى العناد والمحادة والمشاقة، ولا سبيل إلى كسر هذا إلا التعريض في النصح، فإن التعريض في النصيحة يكون أوقع في النفس، وأكثر إرضاء لغرور المدعو وأنفته وشعوره بكرامته، وأوفق لظروف الحال، فيقبل النصيحة، ويعمل بها، لأنه أخبر بعيبه بطريقة غير مباشرة، وبدون أن يفطن به أحد، فيحاول علاج نفسه وإصلاحها. قال الزركشي: (ووجه حُسْنِه - أي التعريض - ظاهر، لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر، كأنك لم تَعْنِه، وهوأعلى محاسن الأخلاق، وأقرب للقبول، وأدعى للتواضع). (البرهان في علوم القرآن) (3/313). وقال الطيبي: (ووجه حسنه: إسماع من يقصد خطابه الحق على وجه يمنع غضبه إذا لم يصرح بنسبته للباطل، والإعانة على قبوله إذ لم يرد له إلا ما أراد لنفسه). (معترك الأقران) للسيوطي (2/292). فالتعريض إذًا يؤدي الغرض المطلوب والهدف المقصود من النصيحة، وهو قبول النصيحة مع تأليف القلوب وعدم نفرتها، ولذا فلا عجب أن قال الزمخشري: (يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح). "الكشاف" للزمخشري (3/116). هذا وقد جعل الإمام الغزالي: (من دقائق صناعة التعليم أن يزجر المتعلم عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيئة ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار). "إحياء علوم الدين" (1/52). ولهذا كان النبي يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله : (ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع أمامه، أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا)، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض. أخرجه مسلم برقم (550). وفقد ناساً في بعض الصلوات، فقال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم). البخاري رقم (644)، ومسلم رقم (651). وقال : (ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة)، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: (لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم). أخرجه البخاري برقم (750). وصنع النبي شيئاً فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي فخطب، فحمد اللَّه، ثم قال: (ما بال أقوام يتنزهون عن شيءٍ أصنعه، فواللَّه إني لأعلمهم باللَّه وأشدّهم لـه خشية). البخاري برقم (6101)، ومسلم برقم (2356). وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). مسلم برقم (1401). وبلغه شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: (ما بال أناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللَّه، من اشترط شرطاً ليس في كتاب اللَّه فليس لـه، وإن شرط مائة مرة، شرط اللَّه أحق وأوثق). البخاري (2561)، ومسلم (رقم (1504). وهذا يدل الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم ورفقاً بهم، وتلطفاً. والداعية يستطيع أن يوجه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب. فهذه أصول يجدر بالداعية إلى الله تعالى أن يراعيها بدعوته، رجاء أن يصيب أمر الله تعالى إذ قال: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعًا لذلك.

محاذير وتنبيهات

من محاذير الحكمة في الدعوة أن يغلب على خُلُق الداعية الغلظة والفظاظة، قال تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (159) ومازكّاه ربه في دعوته إلا لأنه كان ينتقي الألفاظ، ويتحين الفُرَص، ويحسن إلى المدعويين، فاجتمعت القلوب عليه، لعدم فظاظته، وجميل معشره. يحذر الداعية من التشهير بالمدعو، وذلك بدعوته أمام الناس، فالقصد هو النصيحة لا الفضيحة. قال عبد العزيز بن أبي رواد: «كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئا يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره»"جامع العلوم والحكم لابن رجب"(ج1/ص225). والفارق بين النصيحة والتعيير النية والحرص على الستر، فحتى لو كان الخطأ عظيماً، فإن النبي أمر بجلد الأمةالزانية دون أن يثرّب، قال : «إذا زنت أمة أحدكم، فتبين زناها، فليجلدها الحد، ولا يثرب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة، فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر»"رواه البخاري"(6839) قال ابن حجر: «ولا يثرب أي ولا يوبخ»"فتح الباري"(ج1/ص94). من الحكمة أن يحذر الداعي من إملال المدعويين، لحديث عبد الله بن مسعودرضي الله عنه يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: «أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا»"رواه البخاري"(70). فعن عبيد بن عمير، دخل على عائشة فقالت: من هذا؟ فقالوا: عبيد بن عمير فقالت: أعمير بن قتادة؟ قالوا: نعم قالت: " ألم أحدث أنك تجلس ويجلس إليك قال: بلى قالت: فإياك وإملال الناس وتقنيطهم»"الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي"(ج2/ص128).