البحث

عبارات مقترحة:

الوهاب

كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

التواب

التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...

خِيَارُ الْمَجْلِسِ


من معجم المصطلحات الشرعية

ثبوت حق فسخ العقد للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد، ولم يتفرقا بأبدانهما . أو أن يكون لكل من العاقدين الرجوع عن العقد ما لم يقبل الآخر بالبيع كما عند الحنفية . ويُسمّى خيار القبول عند الحنفية . ومن شواهده قول البُهوتي : "يثبت خِيَارُ المجلسِ في البيع لحديث ابن عمر يرفعه : "إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعاً، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر، فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع ". البخاري : 2112، 3/64.


انظر : المجموع للنووي، 9/148، الروض المربع للبُهوتي، ص :322-323، حاشية ابن عابدين، 5/400.

من موسوعة المصطلحات الإسلامية

التعريف

ثبوت حق فسخ العقد للمتعاقدين ما داما في مجلس العقد، ولم يتفرقا بأبدانهما.

المراجع

* بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع : (5/228)
* الذخيرة للقرافـي : (5/20)
* أسنى المطالب في شرح روض الطالب : (2/46)
* الكافي في فقه الإمام أحمد : (2/26)
* معجم الـمصطلحات الـمالية والاقتصادية في لغة الفقهاء : (ص 205)
* معجم لغة الفقهاء : (ص 202)
* معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية : (3/219) -

من الموسوعة الكويتية

التَّعْرِيفُ:
1 - سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْ كَلِمَةِ (خِيَارٌ) فِي مُصْطَلَحِ خِيَارٌ بِوَجْهٍ عَامٍّ، وَأَمَّا كَلِمَةُ (الْمَجْلِسِ) - بِكَسْرِ اللاَّمِ - فَهِيَ تَرِدُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِيمِيًّا، وَاسْمًا لِلزَّمَانِ، وَاسْمًا لِلْمَكَانِ، مِنْ مَادَّةِ (الْجُلُوسِ) وَاسْتِعْمَالُهُ الْمُنَاسِبُ هُنَا هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ، أَيْ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ كَلِمَةَ (الْمَجْلِسِ) تَحْمِل مَعْنَى (مَجْلِسِ الْعَقْدِ) فَهِيَ لَيْسَتْ لِمُطْلَقِ مَجْلِسٍ، بَل لِمَجْلِسِ الْعَقْدِ خَاصَّةً، وَهَذَا التَّقْيِيدُ تُشِيرُ إِلَيْهِ (أَل) فَهِيَ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الذِّهْنِ. وَالْمُرَادُ مَكَانُ التَّبَايُعِ أَوِ التَّعَاقُدِ (1) . فَمَا دَامَ الْمَكَانُ الَّذِي يَضُمُّ كِلاَ الْعَاقِدَيْنِ وَاحِدًا، فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ فَسْخِهِ، إِلَى أَنْ يَتَفَرَّقَا وَيَكُونَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْلِسُهُ الْمُسْتَقِل.
وَمَجْلِسُ الْعَقْدِ: هُوَ الْوِحْدَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وَقْتِ صُدُورِ الإِْيجَابِ، وَتَسْتَمِرُّ طِوَال الْمُدَّةِ الَّتِي يَظَل فِيهَا الْعَاقِدَانِ مُنْصَرِفَيْنِ إِلَى التَّعَاقُدِ، دُونَ ظُهُورِ إِعْرَاضٍ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنِ التَّعَاقُدِ، وَتَنْتَهِي بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ مُغَادَرَةُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ لِلْمَكَانِ الَّذِي حَصَل فِيهِ الْعَقْدُ.
وَفِي حُكْمِ التَّفَرُّقِ حُصُول التَّخَايُرِ. وَهُوَ أَنْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ.
لَكِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لاَ يَبْدَأُ مِنْ صُدُورِ الإِْيجَابِ بَل مِنْ لَحَاقِ الْقَبُول بِهِ مُطَابِقًا لَهُ، أَمَّا قَبْل وُقُوعِ الْقَبُول فَإِنَّ الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ خِيَارًا فِي إِجْرَاءِ الْعَقْدِ أَوْ عَدَمِهِ، لَكِنَّهُ خِيَارٌ يُدْعَى خِيَارُ الْقَبُول، وَهُوَ يَسْبِقُ تَمَامَ التَّعَاقُدِ. هَذَا، وَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجُلُوسِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً فِي هَذَا الْخِيَارِ الْمُسَمَّى (بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ) ، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْفَتْرَةُ الزَّمَنِيَّةُ الَّتِي تَعْقُبُ عَمَلِيَّةَ التَّعَاقُدِ دُونَ طُرُوءِ التَّفَرُّقِ مِنْ مَكَانِ التَّعَاقُدِ. فَالْجُلُوسُ ذَاتُهُ لَيْسَ مُعْتَبَرًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلاَ تَرْكُ الْمَجْلِسِ مُعْتَبَرٌ فِي انْقِضَائِهِ، بَل الْعِبْرَةُ لِلْحَال الَّتِي يَتَلَبَّسُ بِهَا الْعَاقِدَانِ، وَهِيَ الاِنْهِمَاكُ فِي التَّعَاقُدِ.
فَخِيَارُ الْمَجْلِسِ هُوَ: حَقُّ الْعَاقِدِ فِي إِمْضَاءِ الْعَقْدِ أَوْ رَدِّهِ، مُنْذُ التَّعَاقُدِ إِلَى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ.
وَمُعْظَمُ الْمُؤَلِّفِينَ يَدْعُونَ هَذَا الْخِيَارَ (خِيَارَ الْمَجْلِسِ) غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ دَعَاهُ (خِيَارَ الْمُتَبَايِعَيْنِ) (2) وَلَعَل هَذِهِ التَّسْمِيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُثْبِتِ لِهَذَا الْخِيَارِ، وَهُوَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ الْمَرْوِيَّةِ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ (3) . وَبَعْضُ مَنْ لاَ يَأْخُذُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ قَدْ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ أَيْضًا لَكِنَّهُمْ لاَ يُرِيدُونَهُ، بَل يَقْصِدُونَ حَالاَتِ تَخْيِيرٍ أُخْرَى نَاشِئَةً بِأَسْبَابٍ شَرْعِيَّةٍ، تَتَقَيَّدُ مُدَّتُهَا بِمَجْلِسِ نُشُوءِ الْخِيَارِ الَّذِي ثَبَتَ لِمُدَّةٍ لاَ تُجَاوِزُ زَمَنَ الْمَجْلِسِ، نَحْوُ تَفْوِيضِ الطَّلاَقِ لِلزَّوْجَةِ، حَيْثُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا مَا لَمْ تَقُمْ فَتُبَدِّل مَجْلِسُهَا، أَوْ تَعْمَل مَا يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ (4) .

مَشْرُوعِيَّةُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:
2 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَذَهَبَ مُعْظَمُهُمْ إِلَى الْقَوْل بِهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى إِنْكَارِهِ وَاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لاَزِمًا مِنْ فَوْرِ انْعِقَادِهِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول.
فَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، ذَهَبُوا إِلَى إِثْبَاتِهِ، فَلاَ يَلْزَمُ الْعَقْدُ عِنْدَ هَؤُلاَءِ إِلاَّ بِالتَّفَرُّقِ عَنِ الْمَجْلِسِ أَوِ التَّخَايُرِ وَاخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ (5) . وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَبَعْضُ فُقَهَاءِ السَّلَفِ إِلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ (6) . كَمَا نَفَاهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُدَوَّنْ مَذَاهِبُهُمْ، الثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْعَنْبَرِيُّ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ مِنَ السُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: الْمُتَبَايِعَانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ بَيْعَ الْخِيَارِ وَفِي رِوَايَةٍ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَكُونُ الْبَيْعُ خِيَارًا وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ (7) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل إِثْبَاتُ الْخِيَارِ مِنَ الشَّرْعِ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَهُمَا مُتَبَايِعَانِ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول. أَمَّا قَبْل ذَلِكَ فَهُمَا مُتَسَاوِمَانِ. وَالْحَدِيثُ وَإِنْ جَاءَ بِلَفْظِ (الْمُتَبَايِعَيْنِ) يَشْمَل مَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ (8) . وَوَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلُهُ: كَانَتِ السُّنَّةُ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا (9) . وَمِنَ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ، أَنَّ قَوْل الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا، لَهُ حُكْمُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ. وَاسْتَدَلُّوا مِنَ السُّنَّةِ الْفِعْلِيَّةِ بِأَنَّهُ ﷺ خَيَّرَ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْبَيْعِ، أَيْ قَال لَهُ: اخْتَرْ، لِكَيْ يَنْبَرِمَ الْعَقْدُ، وَذَلِكَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتِهِ الأُْخْرَى، أَنَّهُ ﵊ بَايَعَ رَجُلاً فَلَمَّا بَايَعَهُ قَال لَهُ: اخْتَرْ، ثُمَّ قَال: هَكَذَا الْبَيْعُ (10) .
وَهُنَاكَ آثَارٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُرْجَعُ إِلَيْهَا فِي مَظَانِّهَا.
وَاسْتَدَلُّوا لَهُ أَيْضًا بِالْمَعْقُول، كَحَاجَةِ النَّاسِ الدَّاعِيَةِ إِلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ، لأَِنَّ الإِْنْسَانَ بَعْدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا قَدْ يَبْدُو لَهُ فَيَنْدَمُ، فَبِالْخِيَارِ الثَّابِتِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ يُمْكِنُهُ التَّدَارُكُ (11) .
وَاحْتَجَّ النُّفَاةُ بِدَلاَئِل مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ:
فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (12) فَهَذِهِ الآْيَةُ أَبَاحَتْ أَكْل الْمَال بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ، مُطْلَقًا عَنْ قَيْدِ التَّفَرُّقِ عَنْ مَكَانِ الْعَقْدِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَوَازُ الأَْكْل فِي الْمَجْلِسِ قَبْل التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، إِذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ فِي الْمَجْلِسِ لاَ يُبَاحُ لَهُ الأَْكْل، فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عَلَيْهِمْ (13) .
وقَوْله تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (14) فَإِذَا لَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ لاَزِمًا لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقْضِي بِهِ الآْيَةُ (15) .
وَاحْتَجُّوا مِنَ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ ﷺ: مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ (16) فَدَل عَلَى أَنَّهُ لاَ تَقْيِيدَ بِالتَّفَرُّقِ، فَلَوْ كَانَ قَيْدًا لَذَكَرَهُ، كَمَا ذَكَرَ قَيْدَ الاِسْتِيفَاءِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ.
كَمَا أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِإِحْدَى رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُتَبَايِعَيْنِ الَّتِي فِيهَا: فَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يُفَارِقَ صَاحِبَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ (17) ، حَيْثُ تَدُل عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لاَ يَمْلِكُ الْفَسْخَ إِلاَّ مِنْ جِهَةِ الاِسْتِقَالَةِ (18) .
وَحَدِيثِ: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ: عِنْدَ شُرُوطِهِمْ (19) وَالْقَوْل بِالْخِيَارِ بَعْدَ الْعَقْدِ يُفْسِدُ الشَّرْطَ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَعْتَبِرُ الشُّرُوطَ.
وَقَاسُوا الْبَيْعَ وَنَحْوَهُ مِنَ الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ فِي هَذَا عَلَى النِّكَاحِ، وَالْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالْكِتَابَةِ، وَكُلٌّ مِنْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتِمُّ بِلاَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ الدَّال عَلَى الرِّضَا، فَكَذَلِكَ الْبَيْعُ.
كَمَا قَاسُوا مَا قَبْل التَّفَرُّقِ عَلَى مَا بَعْدَهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ (20) .
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ قَالُوا: إِنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ بِمَجْهُولٍ، فَإِنَّ مُدَّةَ الْمَجْلِسِ مَجْهُولَةٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَا خِيَارًا مَجْهُولاً، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مَمْنُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ (21) .
وَكَذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ مُطْلَقًا عَنْ شَرْطٍ، وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْعِوَضَيْنِ فِي الْحَال. فَالْفَسْخُ مِنْ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا، أَوْ تَصَرُّفًا فِي حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالإِْبْطَال مِنْ غَيْرِ رِضَا الآْخَرِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، كَمَا لَمْ تَجُزِ الإِْقَالَةُ أَوِ الْفَسْخُ مِنْ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الاِفْتِرَاقِ (22) .

زَمَنُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ:
3 - الزَّمَنُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ، هُوَ الْفَتْرَةُ الَّتِي أَوَّلُهَا لَحْظَةُ انْبِرَامِ الْعَقْدِ، أَيْ بَعْدَ صُدُورِ الْقَبُول مُوَافِقًا لِلإِْيجَابِ.

أَمَدُ الْخِيَارِ:
4 - أَمَدُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يُمْكِنُ تَحْدِيدُهُ، لأَِنَّهُ مَوْكُولٌ لإِِرَادَةِ كُلٍّ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَطُول بِرَغْبَتِهِمَا فِي زِيَادَةِ التَّرَوِّي، وَيَقْصُرُ بِإِرَادَةِ الْمُسْتَعْجِل مِنْهُمَا حِينَ يُخَايِرُ صَاحِبَهُ أَوْ يُفَارِقُهُ. فَهُوَ يُخَالِفُ فِي هَذَا خِيَارَ الشَّرْطِ الْقَائِمَ عَلَى تَعْيِينِ الأَْمَدِ بِصُورَةٍ مُحَدَّدَةٍ. فَانْتِهَاءُ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا غَيْرُ مُنْضَبِطٍ لاِرْتِبَاطِهِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. وَكِلاَهُمَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ زَمَنُ حُصُولِهِ.
وَلَكِنَّ هُنَاكَ وَجْهًا فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَصَفَهُ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ، مُفَادُهُ: أَنَّ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَمَدًا أَقْصَى هُوَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ كَيْ لاَ يَزِيدَ عَنْ خِيَارِ الشَّرْطِ.
وَهُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ مِنْ مُسْقِطَاتِهِ شُرُوعَ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَإِعْرَاضَهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْدِ مَعَ طُول الْفَصْل. فَهَذَا الْمُسْقِطُ يُقَصِّرُ مِنْ أَجَل الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنَ التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ. لأَِنَّهُ يَحْصُرُهُ فِي حَالَةِ التَّعَاقُدِ الْجَادَّةِ وَهِيَ بُرْهَةٌ يَسِيرَةٌ. وَالرَّاجِحُ لَدَى الشَّافِعِيَّةِ هُوَ الْوَجْهُ الأَْوَّل الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَابِتٌ حَتَّى التَّفَرُّقِ أَوِ التَّخَايُرِ (23) .

انْتِهَاءُ الْخِيَارِ:
5 - أَسْبَابُ انْتِهَاءِ الْخِيَارِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّفَرُّقِ، وَالتَّخَايُرِ (اخْتِيَارِ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ) . وَهُنَاكَ سَبَبٌ ثَالِثٌ يَنْتَهِي بِهِ الْخِيَارُ تَبَعًا لاِنْتِهَاءِ الْعَقْدِ، أَصْلاً، وَهُوَ فَسْخُ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ هُوَ الَّذِي شُرِعَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لإِِتَاحَتِهِ، لَكِنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْعَقْدِ وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَبِيعِ، وَبِالْمَوْتِ، عَلَى خِلاَفٍ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْقَائِلَةِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ.

أَوَّلاً: التَّفَرُّقُ:
6 - يَنْتَهِي خِيَارُ الْمَجْلِسِ بِالتَّفَرُّقِ، وَهُوَ سَبَبٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُثْبِتِينَ لَهُ، وَيُرَاعَى فِيهِ عُرْفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (24) .

ثَانِيًا - التَّخَايُرُ:
اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
7 - مِنْ أَسْبَابِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ اخْتِيَارُ لُزُومِ الْعَقْدِ، عَلَى أَنْ يَحْصُل ذَلِكَ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَيَسْقُطَ بِهِ الْخِيَارُ، وَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولاَ: اخْتَرْنَا لُزُومَ الْعَقْدِ، أَوْ أَمْضَيْنَاهُ، أَوْ أَلْزَمْنَاهُ، أَوْ أَجَزْنَاهُ أَوْ نَحْوَهُ. وَاجْتِمَاعُهُمَا عَلَى اخْتِيَارِ اللُّزُومِ يُسَمَّى: التَّخَايُرُ (25) ، وَلَهُ نَظِيرُ الأَْثَرِ الَّذِي يَحْدُثُ بِالتَّفَرُّقِ.

الْخِلاَفُ فِي التَّخَايُرِ:
8 - اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي انْتِهَائِهِ بِالتَّخَايُرِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ وَصَفَهَا ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّهَا أَصَحُّ إِلَى انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ.
وَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِلَى عَدَمِ انْتِهَاءِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (26) . مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُقْتَصِرَةِ عَلَى التَّفَرُّقِ أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ وَلاَ تَخْصِيصٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، وَأَبِي بَرْزَةَ، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
أَمَّا مُسْتَنَدُ الرِّوَايَةِ الْمُصَحَّحَةِ الَّتِي تَجْعَل الْمُسْقِطَ أَحَدَ الأَْمْرَيْنِ: التَّفَرُّقَ أَوِ التَّخَايُرَ، فَهُوَ الرِّوَايَاتُ الأُْخْرَى الْمُتَضَمَّنَةُ لِذَيْنِكَ الأَْمْرَيْنِ، كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الْمَرْفُوعَةِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ أَيْ لَزِمَ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالأَْخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى (27) .

أَحْكَامُ التَّخَايُرِ:
9 - التَّخَايُرُ إِمَّا أَنْ يَحْصُل صَرَاحَةً بِنَحْوِ عِبَارَةِ: اخْتَرْنَا إِمْضَاءَ الْعَقْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ ضِمْنًا، وَمِثَالُهُ: أَنْ يَتَبَايَعَ الْعَاقِدَانِ الْعِوَضَيْنِ (اللَّذَيْنِ جَرَى عَلَيْهِمَا الْعَقْدُ الأَْوَّل) بَعْدَ قَبْضِهِمَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِلرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ الأَْوَّل. بَل يَكْفِي تَصَرُّفُ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ مَعَ الآْخَرِ بِالْعِوَضِ الَّذِي لَهُ، أَيْ لاَ يُشْتَرَطُ تَبَايُعُ الْعِوَضَيْنِ، بَل هُوَ مُجَرَّدُ تَصْوِيرٍ، وَيَكْفِي بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِسُقُوطِ الْخِيَارِ وَإِمْضَاءِ الْعَقْدِ (28) .
وَانْتِهَاءُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالتَّخَايُرِ، إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ اخْتِيَارُ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ، أَوْ قَال كُلٌّ مِنْهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ لِسُقُوطِ الْخِيَارِ. أَمَّا إِذَا قَال أَحَدُهُمَا لِلآْخَرِ: اخْتَرْ، فَسَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ، فَمَا حُكْمُ خِيَارِ السَّاكِتِ؟ وَمَا حُكْمُ خِيَارِ الْقَائِل؟ خِيَارُ السَّاكِتِ بَعْدَ التَّخْيِيرِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ السَّاكِتَ لاَ يَنْقَطِعُ خِيَارُهُ (29) .
وَالْقَوْل الثَّانِي لِلْحَنَابِلَةِ: سُقُوطُ خِيَارِهِ. وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الأَْوَّل بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يُبْطِل خِيَارَهُ فَلَمْ يَحْصُل الرِّضَا، إِنَّمَا سَكَتَ عَنِ الْفَسْخِ أَوِ الإِْمْضَاءِ. فَإِسْقَاطُ خِيَارِهِ يَتَنَافَى مَعَ حَقِّهِ فِي الْخِيَارِ وَالاِخْتِيَارِ بِنَفْسِهِ (30) .
وَاسْتُدِل لِلاِتِّجَاهِ الثَّانِي بِقِيَاسِ السُّقُوطِ عَلَى الثُّبُوتِ، فَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لاَ يَتَجَزَّأُ فَلاَ يَثْبُتُ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَكَذَلِكَ سُقُوطُهُ، لِيَتَسَاوَيَا فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ، كَمَا تَسَاوَيَا فِي قِيَامِهِ وَنُشُوئِهِ (31) .

خِيَارُ الْمُنْفَرِدِ بِالتَّخْيِيرِ:
أَمَّا خِيَارُ الَّذِي بَادَرَ إِلَى تَخْيِيرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ هَذَا بِشَيْءٍ، فَفِيهِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ رَأْيَانِ:
الأَْوَّل: سُقُوطُ خِيَارِهِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ - بِدَلاَلَةِ تَعْلِيقِ الْحَدِيثِ مَصِيرَ خِيَارِ الْعَاقِدِ عَلَى صُدُورِ التَّخْيِيرِ مِنْهُ، وَلأَِنَّهُ جَعَل لِصَاحِبِهِ مَا مَلَكَهُ مِنَ الْخِيَارِ فَسَقَطَ خِيَارُهُ.
الرَّأْيُ الثَّانِي: لاَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ، لأَِنَّهُ خَيَّرَ صَاحِبَهُ فَلَمْ يَخْتَرْ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، لأَِنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى التَّخْيِيرِ كَانَ بِقَصْدِ الاِجْتِمَاعِ عَلَى رَأْيٍ وَاحِدٍ لَهُمَا، فَلَمَّا لَمْ يَحْصُل بَقِيَ لَهُ خِيَارُهُ (32) .

اخْتِيَارُ فَسْخِ الْعَقْدِ:
10 - سَوَاءٌ حَصَل الْفَسْخُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِصُدُورِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ تَمَسَّكَ الآْخَرُ بِإِجَازَةِ الْعَقْدِ، ذَلِكَ أَنَّ الْفَسْخَ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِْجَازَةِ حِينَ اخْتِلاَفِ رَغْبَةِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لأَِنَّ إِثْبَاتَ الْخِيَارِ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفَسْخِ دُونَ الإِْجَازَةِ لأَِصَالَتِهَا. وَالْفَسْخُ - كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ - مَقْصُودُ الْخِيَارِ (33) .
وَفَسْخُ الْعَقْدِ مُسْقِطٌ لِلْخِيَارِ تَبَعًا، لأَِنَّ سُقُوطَهُ كَانَ لِسُقُوطِ الْعَقْدِ أَصْلاً، فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ أَيْضًا لاِبْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَحَسَبَ الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ " إِذَا بَطَل الشَّيْءُ بَطَل مَا فِي ضِمْنِهِ " (34) .
وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ حُصُول الْفَسْخِ مُبَاشَرَةً، أَوْ عَقِبَ تَخْيِيرِ أَحَدِهِمَا الآْخَرَ، فَالأَْثَرُ لِلْفَسْخِ، لأَِنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الْخِيَارِ (35) .

ثَالِثًا - التَّصَرُّفُ:
11 - يَفْتَرِقُ الشَّافِعِيَّةُ عَنِ الْحَنَابِلَةِ فِي هَذَا الْمُسْقِطِ، فَفِي حِينِ يَأْبَاهُ الأَْوَّلُونَ، وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ لاَ يُسْقِطُ خِيَارَ الْمَجْلِسِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا سَبَقَ، يَذْهَبُ الْحَنَابِلَةُ إِلَى التَّفْصِيل، فَفِي عِدَّةِ صُوَرٍ يَسْقُطُ بِالتَّصَرُّفِ مِنَ الْمُشْتَرِي - أَوِ الْبَائِعِ - خِيَارُهُمَا جَمِيعًا، أَوْ خِيَارُ أَحَدِهِمَا (36) .
وَتَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَ فُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ اكْتَفَوْا بِالْبَيَانِ دَلاَلَةً دُونَ التَّصْرِيحِ بِعَدَمِ الأَْثَرِ لِلتَّصَرُّفِ فِي إِسْقَاطِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، حَيْثُ نَصُّوا فِي بَابِ خِيَارِ الشَّرْطِ عَلَى إِسْقَاطِهِ إِيَّاهُ، وَسَكَتُوا فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَنِ اعْتِبَارِهِ مُسْقِطًا، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ عَزَّزَ هَذَا الْبَيَانَ بِالتَّصْرِيحِ، فَفِي شَرْحِ الْقَاضِي زَكَرِيَّا لِمُخْتَصَرِهِ " الْمَنْهَجِ " عِنْدَمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُسْقِطَيْنِ: التَّخَايُرِ وَالتَّفَرُّقِ، أَضَافَ مُحَشِّيهِ سُلَيْمَانُ الْجَمَل قَائِلاً مِنْ طَرِيقِ الْحَاشِيَةِ عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ (37) عَنْ شَرْحِ الْعُبَابِ: إِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ حَصْرِهِ لِقَاطِعِ الْخِيَارِ فِيهِمَا، أَنَّ رُكُوبَ الْمُشْتَرِي الدَّابَّةَ الْمَبِيعَةَ لاَ يَقْطَعُ، وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْنِ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ لاِخْتِبَارِهَا، وَالثَّانِي يَقْطَعُ، لِتَصَرُّفِهِ، وَالَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ الأَْوَّل، وَلاَ نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ يَقْطَعُهُ، وَيُقَاسُ بِالْمَذْكُورِ مَا فِي مَعْنَاهُ، ثُمَّ أَكَّدَ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ (38) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ، فَلَدَيْهِمْ صُوَرٌ يَسْقُطُ بِهَا خِيَارُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَهَمُّهَا: تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، فَإِنَّهُ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِمَا، وَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ، وَذَلِكَ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِإِمْضَائِهِ، فَلَيْسَ أَقَل أَثَرًا مِنَ التَّخَايُرِ. أَمَّا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي، فَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُمَاثِلٌ فِي الْحُكْمِ لِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ، وَأَنَّ الْوَجْهَ فِي احْتِمَال عَدَمِ إِسْقَاطِهِ لِلْخِيَارِ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى الإِْذْنِ، فَتَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنٍ (39) .
أَمَّا تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا بِتَصَرُّفٍ نَاقِلٍ، كَالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ، أَوِ الْوَقْفِ، أَوْ بِتَصَرُّفٍ شَاغِلٍ كَالإِْجَارَةِ، أَوِ الرَّهْنِ. . فَلاَ يُسْقِطُ الْخِيَارَ، لأَِنَّ الْبَائِعَ تَصَرَّفَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَهُمْ - وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْبَائِعِ مِنَ الْخِيَارِ، وَاسْتِرْجَاعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْبَائِعِ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ فَمَنَعَ صِحَّتَهُ أَيْضًا (40) .

رَابِعًا: إِسْقَاطُ الْخِيَارِ ابْتِدَاءً:
12 - الْمُرَادُ هُنَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ: التَّنَازُل عَنْهُ قَبْل اسْتِعْمَالِهِ، وَذَلِكَ قَبْل التَّعَاقُدِ، أَوْ فِي بِدَايَةِ الْعَقْدِ قَبْل إِبْرَامِهِ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ: التَّبَايُعُ بِشَرْطِ نَفْيِ الْخِيَارِ. وَعَلَى هَذَا الاِصْطِلاَحِ لاَ يُعْتَبَرُ مِنْهُ التَّخَلِّي عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ التَّعَاقُدِ، أَثَرُ اسْتِحْقَاقِ الْعَاقِدَيْنِ لَهُ وَسَرَيَانُ الْمَجْلِسِ، فَالتَّخَلِّي عَنْهُ حِينَئِذٍ بِالتَّخَايُرِ يَسْتَحِقُّ اسْمَ (الاِنْتِهَاءِ) لِلْخِيَارِ، لاَ الإِْسْقَاطِ لَهُ. أَمَّا حُكْمُ هَذَا الإِْسْقَاطِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقَائِلُونَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، فَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الآْرَاءُ التَّالِيَةُ:
الأَْوَّل: صِحَّةُ الإِْسْقَاطِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَوَجْهٌ لَيْسَ بِالْمُصَحَّحِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَبُطْلاَنُ الْبَيْعِ أَيْضًا، وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْبُوَيْطِيِّ، وَكُتُبِ الْمَذْهَبِ الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: امْتِنَاعُ الإِْسْقَاطِ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ غَيْرُ مُصَحَّحٍ (41) . وَسَوَاءٌ فِي إِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنْ يُسْقِطَاهُ كِلاَهُمَا، أَوْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ خِيَارِهِ، أَوْ يَشْتَرِطَا سُقُوطَ خِيَارِ أَحَدِهِمَا بِمُفْرَدِهِ. فَفِي إِسْقَاطِ خِيَارَيْهِمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ، وَفِي إِسْقَاطِ خِيَارِ أَحَدِهِمَا يَبْقَى خِيَارُ الآْخَرِ (42) .
وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ صَحَّحَ إِسْقَاطَ الْخِيَارِ قَبْل الْعَقْدِ بِحَدِيثِ الْخِيَارِ نَفْسِهِ، حَيْثُ جَاءَ فِي إِحْدَى رِوَايَاتِهِ: فَإِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا الآْخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَفِي رِوَايَةٍ: إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ كَانَ عَنْ خِيَارٍ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ عَنْ خِيَارٍ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ (43) . وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا التَّخَايُرَ فِي الْمَجْلِسِ، فَهِيَ عَامَّةٌ تَشْمَلُهُ وَتَشْمَل التَّخَايُرَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، فَهُمَا فِي الْحُكْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ. وَلأَِنَّ مَا أَثَّرَ فِي الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ، أَثَّرَ فِيهِ مُقَارِنًا لِلْعَقْدِ، فَكَمَا يَكُونُ لِلْعَاقِدِ التَّنَازُل عَنِ الْخِيَارِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ذَلِكَ قُبَيْل التَّعَاقُدِ، وَتَشْبِيهُهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَوَازِ إِخْلاَءِ الْعَقْدِ عَنْهُ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
وَمِمَّا اسْتَدَل بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ نَحَوْا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْحَى الْحَنَابِلَةِ، أَنَّ الْخِيَارَ جُعِل رِفْقًا بِالْمُتَعَاقِدِينَ، فَجَازَ لَهُمَا تَرْكُهُ. وَلأَِنَّ الْخِيَارَ غَرَرٌ فَجَازَ إِسْقَاطُهُ.
أَمَّا دَلِيل الْمَنْعِ - وَهُوَ الأَْصَحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - فَهُوَ أَنَّهُ إِسْقَاطٌ لِلْحَقِّ قَبْل ثُبُوتِ سَبَبِهِ، إِذْ هُوَ خِيَارٌ يَثْبُتُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهُ قَبْل تَمَامِهِ، وَلَهُ نَظِيرٌ هُوَ (خِيَارُ الشُّفْعَةِ) فَإِنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي ذَلِكَ لاَ يُمْكِنُ إِسْقَاطُهُ قَبْل ثُبُوتِهِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِسْقَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ لِثُبُوتِهِ شَرْعًا مَصْحُوبًا بِالْخِيَارِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ.
أَمَّا دَلِيل جَوَازِ إِسْقَاطِ الشَّرْطِ فَقَطْ وَصِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ مَا فِي الشَّرْطِ مِنْ مُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةٍ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ، يَبْطُل وَحْدَهُ وَلاَ يُبْطِل الْعَقْدَ (44) .

أَسْبَابُ انْتِقَال الْخِيَارِ:

أَوَّلاً: الْمَوْتُ:
13 - اخْتَلَفَتِ الآْرَاءُ فِي أَثَرِ الْمَوْتِ عَلَى خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الصُّورَةِ التَّالِيَةِ: الأَْوَّل: انْتِقَال الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ إِلَى الْوَارِثِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ.
الثَّانِي: سُقُوطُ الْخِيَارِ بِالْمَوْتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ.
الثَّالِثُ: التَّفْصِيل بَيْنَ وُقُوعِ الْمُطَالَبَةِ مِنَ الْمَيِّتِ بِهِ فِي وَصِيَّتِهِ، وَعَدَمِ تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (45) .
اسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِانْتِقَال الْخِيَارِ - بِالْمَوْتِ - إِلَى الْوَرَثَةِ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَالأَْحَادِيثِ، فِي انْتِقَال مَا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ مِنْ حَقٍّ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ (46) . وَخِيَارُ الْمَجْلِسِ خِيَارٌ ثَابِتٌ لِفَسْخِ الْبَيْعِ فَلَمْ يَبْطُل بِالْمَوْتِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ.
كَمَا اسْتَدَلُّوا بِقِيَاسِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الْعَيْبِ، فَكِلاَهُمَا حَقٌّ لاَزِمٌ ثَابِتٌ فِي الْبَيْعِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي انْتِقَال خِيَارِ الْعَيْبِ بِالْمَوْتِ، فَكَذَلِكَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ. وَيُقَاسُ أَيْضًا عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهُمْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ مِمَّا يُورَثُ.
وَاسْتَدَل الْقَائِلُونَ بِإِبْطَال الْخِيَارِ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ، بِأَنَّهُ إِرَادَةٌ وَمَشِيئَةٌ، تَتَّصِل بِشَخْصِ الْعَاقِدِ، وَانْتِقَال ذَلِكَ إِلَى الْوَارِثِ لاَ يُتَصَوَّرُ (47) . ثَانِيًا: الْجُنُونُ وَنَحْوُهُ:
14 - إِذَا أُصِيبَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ بِالْجُنُونِ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، انْتَقَل الْخِيَارُ - فِي الأَْصَحِّ - إِلَى الْوَلِيِّ، مِنْ حَاكِمٍ أَوْ غَيْرِهِ: كَالْمُوَكِّل عِنْدَ مَوْتِ الْوَكِيل، وَقَدِ ارْتَأَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُئِسَ مِنْ إِفَاقَتِهِ أَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ، لَكِنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ الاِنْتِظَارِ مُطْلَقًا (48) .
وَكَذَلِكَ إِنْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا، وَلَمْ تُفْهَمْ إِشَارَتُهُ، وَلاَ كِتَابَةَ لَهُ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَائِبًا عَنْهُ، وَإِنْ أَمْكَنَتِ الإِْجَازَةُ مِنْهُ بِالتَّفَرُّقِ، وَلَيْسَ هُوَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْحَاكِمُ نَابَ عَنْهُ فِيمَا تَعَذَّرَ مِنْهُ بِالْقَوْل، أَمَّا إِذَا فُهِمَتْ إِشَارَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ كِتَابَةٌ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ.
وَهُنَاكَ قَوْلٌ آخَرُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، لأَِنَّ مُفَارَقَةَ الْعَقْل لَيْسَتْ أَوْلَى مِنْ مُفَارَقَةِ الْمَكَانِ (49) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْجُنُونَ لاَ يُبْطِلُهُ، فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ إِذَا أَفَاقَ، أَمَّا فِي مُطْبِقِ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ، فَيَقُومُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوِ الْحَاكِمُ مَقَامَهُ، بِخِلاَفِ الْمَوْتِ لأَِنَّهُ أَعْظَمُ الْفُرْقَتَيْنِ (50) .

آثَارُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ:

15 - لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ آثَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَقْدِ، لَكِنَّ أَحَدَهَا يُعْتَبَرُ الأَْثَرَ الأَْصْلِيَّ لِلْخِيَارِ، فِي حِينِ تَكُونُ الأُْخْرَى آثَارًا فَرْعِيَّةً، هَذَا الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخِيَارِ مِنْ كُل الْخِيَارَاتِ. وَلِذَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّى (الأَْثَرُ الْعَامُّ) ، وَهُوَ مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ آثَارٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ تَتَّصِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ وَغَيْرِهِ. أَوَّلاً: الأَْثَرُ الأَْصْلِيُّ:
مَنْعُ لُزُومِ الْعَقْدِ:
16 - مُفَادُ ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَحْصُل التَّفَرُّقُ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَوِ اخْتِيَارُ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ. فَيَكُونُ لِكُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ قَبْل ذَلِكَ.
وَهَذَا الأَْثَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، ذَلِكَ أَنَّ مَقْصُودَ الْخِيَارِ الْفَسْخُ (51) ، وَلاَ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِلاَّ بِتَقَاصُرِ الْعَقْدِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقُوَّةِ، وَالاِسْتِعْصَاءِ عَنِ الْفَسْخِ. وَهَذَا التَّقَاصُرُ سَبِيلُهُ أَنْ يَظَل الْعَقْدُ غَيْرَ لاَزِمٍ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ.

ثَانِيًا: الآْثَارُ الْفَرْعِيَّةُ:
انْتِقَال الْمِلْكِ
17 - هَذَا الأَْثَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى رَأْيَيْنِ:

الرَّأْيُ الأَْوَّل: فِقْدَانُ الأَْثَرِ:
وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنَابِلَةُ - فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ - (وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ) (52) . وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِل الْمِلْكُ إِلَى الْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ. وَلاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَتَوَقَّفُ، كَمَا لاَ أَثَرَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُنْتِجُ أَحْكَامَهُ كُلَّهَا - مَعَ بَقَائِهِ قَابِلاً لِلْفَسْخِ - خِلاَل الْمَجْلِسِ إِلَى حُصُول مَا يُنْهِي الْخِيَارَ مِنْ تَفَرُّقٍ أَوْ تَخَايُرٍ.

الرَّأْيُ الثَّانِي: تَقْيِيدُ النَّفَاذِ:
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ - فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ مِنْ ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ - أَنَّ لِلْخِيَارِ أَثَرًا فِي نَفَاذِ أَحْكَامِ الْعَقْدِ، فَهُوَ يُعْتَبَرُ مَوْقُوفًا مُرَاعًى مِنْ حَيْثُ انْتِقَال الْمِلْكِ، فَلاَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ لِلْبَائِعِ، بَل يُنْتَظَرُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَقْدُ، حُكِمَ بِأَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَإِلاَّ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ لَمْ يَزُل عَنْ مِلْكِهِ. وَهَكَذَا يَكُونُ الثَّمَنُ مَوْقُوفًا (53) .
وَاسْتَدَل أَصْحَابُ الرَّأْيِ الأَْوَّل (الْقَائِل بِانْتِقَال الْمِلْكِ) بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا الاِسْتِدْلاَل بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ ﵊: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ (54) وَحَدِيثُ: مَنْ بَاعَ نَخْلاً بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ، فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إِلاَّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ. (55) وَجْهُ الدَّلاَلَةِ فِيهِمَا: أَنَّهُ جَعَل الْمَال الْمُصَاحِبَ لِلْعَبْدِ، وَالثَّمَرَةَ لِلْمُبْتَاعِ بِمُجَرَّدِ اشْتِرَاطِهِ، وَاسْتَدَلُّوا مِنْ وُجُوهِ الْمَعْقُول، بِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ وُجُودِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بَيْعٌ صَحِيحٌ، فَيَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي أَثَرِهِ، وَلأَِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ فِيهِ لاَ يُنَافِيهِ (56) . أَمَّا أَصْحَابُ الرَّأْيِ الثَّانِي (الْقَائِل بِأَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ، فَيُعْرَفُ كَيْفَ كَانَ عِنْدَ الْعَقْدِ) وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْخِيَارَ (كَخِيَارِ الشَّرْطِ مَثَلاً) إِذَا ثَبَتَ لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ لَمْ يَنْتَقِل الْمِلْكُ فِي الْعِوَضَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ انْتَقَل الْمِلْكُ فِيهِمَا، فَإِذَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْعَاقِدَيْنِ (وَذَلِكَ مَا يَحْصُل فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) فَإِنَّ مُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْبَائِعِ عَدَمُ انْتِقَال الْمِلْكِ، وَمُقْتَضَى ثُبُوتِهِ لِلْمُشْتَرِي انْتِقَالُهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّوَقُّفِ وَالْمُرَاعَاةِ (التَّرَقُّبِ) إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْخِيَارُ بِالتَّفَرُّقِ، أَوِ التَّخَايُرِ، أَوْ غَيْرِهِمَا (57) .

أَثَرُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى الْعَقْدِ بِخِيَارِ شَرْطٍ:
18 - لاَ أَثَرَ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَلَى خِيَارِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ مُدَّةَ خِيَارِ الشَّرْطِ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ الْوَاقِعِ فِيهِ الشَّرْطُ. هَذَا إِذَا كَانَ خِيَارُ الشَّرْطِ قَدِ اشْتُرِطَ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا إِنِ اشْتُرِطَ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنَّ الْمُدَّةَ تُحْسَبُ مِنْ حِينِ الشَّرْطِ (58) .
__________
(1) مطالب أولي النهى 3 / 83، ونهاية المحتاج 3 / 85.
(2) هو ابن قدامة في المغني 3 / 482.
(3) حديث: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث حكيم بن حزام. وأخرج الرواية الأخرى: " المتبايعان بالخيار " البخاري (الفتح4 / 328 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1164 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، والسياق للبخاري.
(4) رد المحتار 3 / 316.
(5) المجموع 9 / 169، المغني 3 / 482، والمحلى 8 / 409، نيل الأوطار 5 / 197.
(6) فتح القدير 5 / 81، البدائع 5 / 228، الحطاب 4 / 310، المحلى 8 / 409 م1417 نيل الأوطار 5 / 197.
(7) حديث " المتبايعان بالخيار " أخرجه البخاري (الفتح 4 / 326، 328، 333 ط السلفية) من حديث عبد الله بن عمر برواياته.
(8) المهذب 1 / 257.
(9) نصب الراية 4 / 3، وجامع الأصول 2 / 9 - 10.
(10) حديث: " خير أعرابيًا بعد البيع ". أخرجه الترمذي (3 / 542 - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله. والرواية الأخرى، أخرجها البيهقي (5 / 270 - ط دائرة المعارف العثمانية) من حديث عبد الله بن عباس.
(11) قواعد الأحكام في مصالح الأنام 2 / 126، المجموع 9 / 187.
(12) سورة النساء / 29.
(13) البدائع 5 / 228، فتح القدير 5 / 81، المجموع 9 / 184.
(14) سورة المائدة / 1.
(15) فتح القدير 5 / 81، وبداية المجتهد 2 / 140.
(16) حديث: " من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه ". أخرجه البخاري (الفتح 4 / 349 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1160 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر.
(17) أخرج هذه الرواية أبو داود (3 / 736 تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث عبد الله بن عمرو.
(18) المجموع 9 / 184.
(19) حديث: " المسلمون على شروطهم " وفي رواية: " عند شروطهم " أخرجه أبو داود (4 / 20 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، والرواية الأخرى أخرجها (الدارقطني (3 / 27 - ط دار المحاسن) من حديث عائشة، وضعف إسناده ابن حجر في التلخيص (3 / 23 - ط شركة الطباعة الفنية) .
(20) نيل الأوطار 5 / 210، فتح القدير 5 / 82.
(21) المجموع 9 / 184.
(22) البدائع 5 / 228، والعناية على الهداية 5 / 81، وتبيين الحقائق للزيلعي 4 / 3.
(23) المجموع 9 / 180.
(24) المجموع 9 / 180، والمغني 3 / 507، ونهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 45، والمكاسب 222.
(25) ومن صور اختيار اللزوم أن يقولا: تخايرنا العقد.
(26) المجموع 9 / 190، شرح المنهج 3 / 106، المغني 3 / 486 م 2757.
(27) المغني 4 / 486.
(28) نهاية المحتاج 4 / 8 بحاشية الشبراملسي، المجموع 9 / 191.
(29) المهذب والمجموع 9 / 185 و 9 / 191.
(30) المغني 3 / 486، منتهى الإرادات 1 / 357، المقنع 2 / 34.
(31) للشافعية نحو هذا الخلاف فيما لو (اختار) أحدهما إمضاء العقد وسكت الآخر. وهذه المسألة غير المذكورة آنفًا فتلك فيما لو (خير) صاحبه. . (المجموع 9 / 191) .
(32) المجموع 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 45، نهاية المحتاج 4 / 8، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 83.
(33) مغني المحتاج 2 / 44، المجموع 9 / 191.
(34) من القواعد الكلية التي صدرت بها المجلة المادة / 52.
(35) المجموع 9 / 191.
(36) مغني المحتاج 2 / 45، المغني 3 / 491.
(37) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 7 - 8.
(38) شرح المنهج بحاشية الجمل 33 / 106، وقد استوجه بعدئذ قيدًا على الإطلاق في إسقاط التصرف لخيار الشرط 3 / 119.
(39) المغني 3 / 491 م 2764، وكشاف القناع 3 / 209، وقد سوى بين صورتي البائع والمشتري في الإذن.
(40) المغني 3 / 490 م 2763، وكشاف القناع 3 / 208، 209.
(41) المغني 3 / 486 م 2757، كشاف القناع 3 / 200، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64، المهذب والمجموع 9 / 185 و190، مغني المحتاج 2 / 44، ونهاية المحتاج 4 / 8.
(42) كشف القناع 3 / 200.
(43) حديث: " فإن خير أحدهما الآخر " أخرجه مسلم (3 / 1163 - ط الحلبي) . من حديث عبد الله بن عمر. والرواية الثانية أخرجها النسائي (7 / 248 - ط المكتبة التجارية) .
(44) المغني 3 / 485 - 486 م 2757، والمجموع شرح المهذب 9 / 185، مغني المحتاج 2 / 44، الشرح الكبير على المقنع 4 / 64 - 65، كشاف القناع 2 / 445.
(45) مغني المحتاج 2 / 45، المجموع 9 / 206، الفروع 4 / 91، المغني 3 / 486.
(46) أخرجه البخاري (الفتح 12 2 ? / 9 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1237 - الحلبي) ، من حديث أبي هريرة.
(47) نهاية المحتاج 4 / 8، ومغني المحتاج 2 / 46، والمجموع 9 / 222، المغني 3 / 486، الفروع 4 / 91، وفيه: وقيل: كخيار الشرط، أي: لا يورث إلا بمطالبة الميت به في وصيته.
(48) حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 108.
(49) مغني المحتاج 2 / 46.
(50) الإقناع 2 / 84، مطالب أولي النهى 3 / 86، منتهى الإرادات 1 / 357، منار السبيل 1 / 316، المغني 3 / 486، القواعد والفوائد الأصولين لابن اللحام البعلي ص 36.
(51) المجموع 9 / 191.
(52) المغني 3 / 488 م 2760، الفروع 4 / 86، كشاف القناع 2 / 50، المجموع 9 / 230، مغني المحتاج 2 / 44.
(53) المجموع 9 / 230، نهاية المحتاج 4 / 20.
(54) حديث: " من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع ". أخرجه أبو داود (3 / 716 - تحقيق عزت عبيد دعاس) من حديث جابر بن عبد الله، وقال المنذري: " في إسناده مجهول "، كذا في مختصر السنن (5 / 80 - نشر دار المعرفة) .
(55) حديث: " من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع ". أخرجه البخاري (الفتح 5 / 313 - ط السلفية) ، ومسلم (3 / 1172 - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمر، واللفظ للبخاري.
(56) المغني 3 / 488، وكشاف القناع 2 / 51.
(57) نهاية المحتاج بحاشية الشبراملسي 4 / 20، ومغني المحتاج 2 / 44، والمجموع 9 / 228.
(58) نهاية المحتاج 4 / 19.

الموسوعة الفقهية الكويتية: 169/ 20