البحث

عبارات مقترحة:

الغفور

كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الحفيظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...

فتح بيت المقدس

لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى البيت المقدس، فنزل عليه من غربيه في نصف رجب، وكان بها البطرك الأعظم وصاحب الرملة بَالْيَان بْن بِيرْزَان، وهو دون ملك الفرنج في الرتبة بقليل، وربيسة قريبة الملك، وخلق كثير من كبار فرسانهم، ومن نجا من زعمائهم من حطين، وأهل البلد المفتتحة عليهم، وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين، وكان بها يومئذ ستون ألف مقاتل، ورأوا أن الموت أهون عليهم من أخذ المسلمين القدس من أيديهم إذ هو بيت عباداتهم الأعظم، فنزل عليه السلطان، وما وجد عليه موضعا أقرب إلا من جهة الشمال فسار إليه، واشتد الحرب، وبقيت الفرسان تخرج من المدينة وتحمل وتقاتل أشد القتال وأقواه، وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين، ثم إن المسلمين حملوا عليهم يوما حتى أدخلوهم القدس، ولصقوا بالخندق، ثم أخذوا في النقوب، وتتابع الرمي بالمجانيق من الفريقين، ووقع الجد، وانكشف الفرنج عن السور، ولما رأوا شدة قتال المسلمين وأنهم قد أشرفوا على الهلاك اجتمع مقدموهم يتشاورون، فاتفقوا على طلب الأمان، فامتنع السلطان من إجابتهم فقال: لا أفعل فيه إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه من نحو تسعين سنة، فرجعت رسلهم خائبين، فخرج صاحب الرملة ياليان بنفسه فطلب الأمان فلم يعط، فاستعطف السلطان فامتنع، حتى استشار السلطان اخيرا أمراءه فقالوا: المصلحة الأمان، فأمنهم بشرط أن يزن كل رجل عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة دنانير، وكل صغير أو صغيرة دينارين، وإن من عجز أمهل أربعين يوما، ثم يسترق، فأجابوا إلى ذلك، ثم رفعت أعلام الإسلام على السور، ورتب السلطان أمناءه على أبواب القدس يأخذون المال ممن يخرج، وكان بها ستون ألفا سوى النساء والولدان، وأدى ياليان من عنده عن ثمانية عشر ألف رجل، وبقي ثلاثون ألفا ليس لهم فكاك فاستعبدهم وفرّقهم، وخلص من أسارى المسلمين عشرين ألفا، وتسلم البلد يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوما مشهودا، وأنقذه الله من النصارى الأنجاس بعد إحدى وتسعين سنة، فلما كان يوم الجمعة رابع شعبان أقيمت الجمعة بالمسجد الأقصى، وخطب للناس قاضي القضاة محيي الدين ابن الزكي خطبة بليغة، وبعد النصر والفتح ابتدأ السلطان في إصلاح المسجد الأقصى والصخرة، ومحو آثار الفرنج وشعارهم، وتنافس الملوك معه وبعده في عمل المآثر الحسنة والآثار الجميلة، فلله الحمد والشكر، ورحم الله صلاح الدين وأسكنه الجنة.

اسم المعركة

فتح بيت المقدس.

وقتها

ذكره أهل السير والمغازي من أحداث سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من الهجرة 583ه /1187م، نزل صلاح الدين على بيت المقدس من غَرْبِيّه في نصف رجب، وتسلم البلد لثلاث بقين من رجب، يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب. انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10 /33)، "تاريخ الإسلام" للذهبي (12 /673)، "البداية والنهاية" لابن كثير (12 /323)، "تاريخ ابن خلدون" (5 /361).

موقعها

البيت المقدّس: أي المطهّر الذي يتطهر به من الذنوب، وهو المذكور بالبركة والأمان والمعين في كثير من الآيات. قال تعالى: ﴿وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ﴾ سورة الأنبياء: 71 ، وقوله تعالى لبني إسرائيل: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ﴾ سورة طه: 80، يعني بيت المقدس، وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ سورة المؤمنون: 50، وقال تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا من الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ سورة الإسراء: 1، والمذكور فضائله وميزاته في كثير من أحاديث رسول الله . قال الحموي: «وقد وصفها القدماء بصفات إن استقصيتها أمللت القارئ، والذي شاهدته أنا منها أن أرضها وضياعها وقراها كلّها جبال شامخة وليس حولها ولا بالقرب منها أرض وطيئة البتة وزروعها على الجبال وأطرافها بالفؤوس لأن الدواب لا صنع لها هناك، وأما نفس المدينة فهي على فضاء في وسط تلك الجبال، وأرضها كلها حجر من الجبال التي هي عليها، وفيها أسواق كثيرة وعمارات حسنة، وأما الأقصى فهو في طرفها الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود عليه السّلام، وهو طويل عريض وطوله أكثر من عرضه، وفي نحو القبلة المصلى الذي يخطب فيه للجمعة، وهو على غاية الحسن والإحكام، مبنيّ على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منها لا جامع دمشق ولا غيره، وفي وسط صحن هذا الموضع مصطبة عظيمة في ارتفاع نحو خمسة أذرع كبيرة يصعد إليها الناس من عدة مواضع بدرج، وفي وسط هذه المصطبة قبة عظيمة على أعمدة رخام مسقفة برصاص منمّقة من برّا وداخل بالفسيفساء مطبقة بالرخام الملون قائم ومسطح، وفي وسط هذا الرخام قبة أخرى وهي قبة الصخرة التي تزار، وعلى طرفها أثر قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحتها مغارة ينزل إليها بعدّة درج مبلّطة بالرخام قائم ونائم يصلّى فيها وتزار، ولهذه القبة أربعة أبواب...، كل ذلك على أعمدة مطبق أعلاها بالرصاص، وفيها مغاور كثيرة ومواضع يطول عددها مما يزار ويتبرك به، ويشرب أهل المدينة من ماء المطر، ليس فيها دار إلا وفيها صهريج لكنها مياه رديّة أكثرها يجتمع من الدروب، وإن كانت دروبهم حجارة ليس فيها ذلك الدّنس الكثير، وبها ثلاث برك عظام...، هذا قول أبي عبد الله محمد بن أحمد بن البنّاء البشّاري المقدسي له كتاب في أخبار بلدان الإسلام وقد وصف بيت المقدس فأحسن، فالأولى أن نذكر قوله لأنه أعرف ببلده، وإن كان قد تغير بعده بعض معالمها، قال: هي متوسطة الحرّ والبرد قلّ ما يقع فيها ثلج...،». "معجم البلدان" لياقوت الحموي (5 /166- 168). وقال الحميري: «وفيه من القباب خمس عشرة قبة سوى قبة الصخرة، وعلى سطح المسجد مع القباب من شقق الرصاص حاشا قبة الصخرة سبعة آلاف شقة وسبعمائة شقة، وزن كل شقة سبعون رطلاً بالشامي، وفيه أربع صوامع للأذان، وكان له من المسلمين ثلثمائة خادم ومن النصارى عشرة يكنسون سطوحه وينظفون قنوات الماء ولا تؤخذ منهم جزية، ومن اليهود نيف وعشرون خادماً ولا تؤخذ منهم جزية، وكانوا يحجبون المسجد وينظفون الظاهر حول المسجد. ووظيفته من الزيت كل شهر سبعمائة قسط بالإبراهيمي، وزن القسط رطل ونصف رطل بالشامي الكبير». "الروض المعطار" للحميري (ص 556- 557).

الطرف الأول

جيش المسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي ومعه كبار قواده.

الطرف الثاني

جيش الروم بقيادة ملك بيت المقدس ومعه صاحب الرملة بَالْيَان بْنُ بِيرْزَان وربيسة قريبة الملك، وخلق كثير من كبار فرسانهم، ومن نجا من زعمائهم من حطين.

سببها

وسبب هذه المعركة رغبة أهل الإسلام بتوسيع دائرة الفتوحات الإسلامية ونشر دعوة الإسلام خاصة بعد ظهور قوة المسلمين في معركة حطين وغيرها من الفتوحات.

أحداثها

لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها من البلاد، وكان قد أرسل إلى مصر أن يخرجوا الأسطول الذي بها في جمع من المقاتلة، ويقيموا في البحر ليقطعوا الطريق على الفرنج من أن يصل إليهم المدد من البحر، وكان مقدم الأسطول حسام الدين لؤلؤ الحاجب، وهو معروف بالشجاعة والشهامة، فكانوا كلما رأوا لهم مركبا غنموه وشانيا أخذوه. فحين وصل الأسطول وخلا سره من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى البيت المقدس، وكان به البطريك المعظم عندهم، وهو أعظم شأنا من ملكهم، وبه أيضا بَالْيَان بْن بِيرْزَان صاحب الرملة، وكانت مرتبته عندهم تقارب مرتبة الملك، وربيسة قريبة الملك، وبه أيضا من خلص من فرسانهم من حطين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي عسقلان وغيرها، فاجتمع به كثير من الخلق، كلهم يرى الموت أيسر عليه من أن يملك المسلمون بيت المقدس ويأخذوه منهم، ويرى أن بذل نفسه وماله وأولاده بعض ما يجب عليه من حفظه، وحصنوه تلك الأيام بما وجدوا إليه سبيلا، وكانوا يعظمون القدس يرون انه بيت عباداتهم الأعظم، ومحل تجسد الناسوت فيما زعموا باللاهوت، تعالى الله وتقدس عما يقولون علوا كبيرا، وبه قمامة التي تدعى القيامة محل ضلالتهم وقبلة جهالتهم، زعموا أن المسيح دفن بعد الصلب بها ثلاثة أيام، ثم قام من القبر وصعد إلى السماء، فبالغوا في تحصينه بكل طريق، وصعدوا على سوره بحدهم وحديدهم، مجمعين على حفظه والذب عنه بجهدهم وطاقتهم، مظهرين العزم على المناضلة دونه بحسب استطاعتهم، ونصبوا المجانيق على أسواره ليمنعوا من يريد الدنو منه والنزول عليه. ولما قرب صلاح الدين منه تقدم أمير في جماعة من أصحابه، غير محتاط ولا حذر، فلقيه جمع من الفرنج قد خرجوا من القدس، فقاتلوه وقاتلهم، فقتلوه وقتلوا جماعة ممن معه، فأهم المسلمين قتله، وفجعوا بفقده، وساروا حتى نزلوا على القدس منتصف رجب. فلما نزلوا عليه رأى المسلمون على سوره من الرجال ما هالهم، وسمعوا لأهله من الجلبة والضجيج من وسط المدينة ما استدلوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاح الدين خمسة أيام يطوف حول المدينة لينظر من أين يقاتله، لأنه في غاية الحصانة والامتناع، فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة الشمال نحو باب عمودا وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحية في العشرين من رجب ونزلها، ونصب تلك الليلة المجانيق، فأصبح من الغد وقد فرغ من نصبها ورمى بها، ونصب الفرنج على سور البلد مجانيق ورموا بها، وقوتلوا أشد قتال رآه أحد من الناس، كل واحد من الفريقين يرى ذلك دينا وحتما واجبا، فلا يحتاج فيه إلى باعث سلطاني بل كانوا يمنعون ولا يمتنعون ويزجرون ولا ينزجرون. وكان خيالة الفرنج كل يوم يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون، فيقتل من الفريقين، وممن استشهد من المسلمين الأمير عز الدين عيسى بن مالك، وهو من أكابر الأمراء، وكان أبوه صاحب قلعة جعبر، وكان يصطلي القتال بنفسه كل يوم، فقتل إلى رحمة الله تعالى، وكان محبوبا إلى الخاص والعام، فلما رأى المسلمون مصرعه عظم عليهم ذلك، وأخذ من قلوبهم، فحملوا حملة رجل واحد، فأزالوا الفرنج عن مواقفهم فأدخلوهم بلدهم، ووصل المسلمون إلى الخندق، فجازوه والتصقوا إلى السور فنقبوه، وزحف الرماة يحمونهم، والمجانيق توالي الرمي لتكشف الفرنج عن الأسوار ليتمكن المسلمون من النقب، فلما نقبوه حشوه بما جرت به العادة، فلما رأى الفرنج شدة قتال المسلمين، وتحكم المجانيق بالرمي المتدارك، وتمكن النقابين من النقب، وأنهم قد أشرفوا على الهلاك، اجتمع مقدموهم يتشاورون فيما يأتون ويذرون، فاتفق رأيهم على طلب الأمان، وتسليم بيت المقدس إلى صلاح الدين. فأرسلوا جماعة من كبرائهم وأعيانهم في طلب الأمان، فلما ذكروا ذلك للسلطان امتنع من إجابتهم، وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها، فلما رجع الرسل خائبين محرومين أرسل بَالْيَان بْن بِيرْزَان وطلب لنفسه ليحضر عند صلاح الدين في هذا الأمر وتحريره، فأجيب إلى ذلك، وحضر عنده، ورغب في الأمان، وسأل فيه، فلم يجبه إلى ذلك، واستعطفه فلم يعطف عليه، واسترحمه فلم يرحمه، فلما أيس من ذلك قال له: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منها دينارا واحدا ولا درهما، ولا تسبون وتأسرون رجلا ولا امرأة، وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد أن]يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كراما، فاستشار صلاح الدين أصحابه، فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان، وأن لا يخرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه عن أي شيء تنجلي، ونحسب أنهم أسارى بأيدينا، فنبيعهم نفوسهم بما يستقر بيننا وبينهم، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج، فاستقر أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا، فبذل بَالْيَان بْن بِيرْزَان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك. وسلمت المدينة يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب، وكان يوما مشهودا، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوارها. ورتب صلاح الدين على أبواب البلد في كل باب أمينا من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا فيه أمانة، واقتسم الأمناء الأموال، وتفرقت أيدي سبا، ولو أديت فيه الأمانة لملأ الخزائن، وعم الناس، فإنه كان فيه على الضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من يتبعهم من النساء والولدان، ولا يعجب السامع من ذلك، فإن البلد كبير، واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها والداروم والرملة وغزة وغيرها من القرى بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي، ومن الدليل على كثرة الخلق أن أكثرهم وزن ما استقر من القطيعة، وأطلق بَالْيَان بْن بِيرْزَان ثمانية عشر ألف رجل وزن عنهم ثلاثين ألف دينار، وبقي بعد هذا جميعه من لم يكن معه ما يعطي، وأخذ أسيرا ستة عشر ألف آدمي ما بين رجل وامرأة وصبي، هذا بالضبط واليقين، ثم إن جماعة من الأمراء ادعى كل واحد منهم أن جماعة من رعية إقطاعه مقيمون بالبيت المقدس، فيطلقهم ويأخذ هو قطيعتهم، وكان جماعة من الأمراء يلبسون الفرنج زي الجند المسلمين ويخرجونهم، ويأخذون منهم قطيعة قرروها، واستوهب جماعة من صلاح الدين عددا من الفرنج فوهبهم لهم، فأخذوا قطيعتهم، وبالجملة فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل. وكان بالقدس بعض نساء الملوك من الروم قد ترهبت وأقامت به، ومعها من الحشم والعبيد والجواري خلق كثير، ولها من الأموال والجواهر النفيسة شيء عظيم، فطلبت الأمان لنفسها ومن معها، فأمنها وسيرها، وكذلك أيضا أطلق ملكة القدس التي كان زوجها الذي أسره صلاح الدين قد ملك الفرنج بسببها، ونيابة عنها كان يقوم بالملك، وأطلق مالها وحشمها، واستأذنته في المصير إلى زوجها، وكان حينئذ محبوسا بقلعة نابلس، فأذن لها، فأتته وأقامت عنده، وأتته أيضا امرأة للبرنس أرناط صاحب الكرك، وهو الذي قتله صلاح الدين بيده يوم المصاف بحطين، فشفعت في ولد لها مأسور، فقال لها صلاح الدين: إن سلمت الكرك أطلقته، فسارت إلى الكرك، فلم يسمع منها الفرنج الذي فيه ولم يسلموه فلم يطلق ولدها، ولكنه أطلق ما لها ومن تبعها. وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج، ومعه من أموال البيع منها: الصخرة والأقصى وقمامة وغيرها، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له صلاح الدين، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين، فقال: لا أغدر به، ولم يأخذ منه غير عشرة دنانير، وسير الجميع ومعهم من يحميهم إلى مدينة صور. وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، فلما دخل المسلمون البلد يوم الجمعة تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة ليقلعوا الصليب، فلما فعلوا وسقط صاح الناس كلهم صوتا واحدا من البلد ومن ظاهره المسلمون والفرنج، أما المسلمون فكبروا فرحا، وأما الفرنج فصاحوا تفجعا وتوجعا، فسمع الناس ضجة كادت الأرض أن تميد بهم لعظمها وشدتها. فلما ملك البلد وفارقه الكفار أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، فإن الداوية بنوا غربي الأقصى أبنية ليسكنوها، وعملوا فيها ما يحتاجون إليه من هري ومستراح وغير ذلك، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم فأعيد إلى الأول، وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ففعل ذلك أجمع. ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمون فيه الجمعة ومعهم صلاح الدين، وصلى في قبة الصخرة، وكان الخطيب والإمام محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق، ثم رتب فيه صلاح الدين خطيبا وإماما برسم الصلوات الخمس، وأمر أن يعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محمودا كان قد عمل بحلب منبرا أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون في عدة سنين لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله. ولما فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعة تقدم بعمارة المسجد الأقصى واستنفاد الوسع في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه، فأحضروا من الرخام الذي لا يوجد مثله ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشرعوا في عمارته، ومحوا ما كان في تلك الأبنية من الصور، وكان الفرنج فرشوا الرخام فوق الصخرة وغيبوها، فأمر بكشفها، وكان سبب تغطيتها بالفرش أن القسيسين باعوا كثيرا منها للفرنج الواردين إليهم من داخل البحر للزيارة، فكانوا يشترونه بوزنه ذهبا رجاء بركتها، وكان أحدهم إذا دخل بلاده باليسير منها بنى له الكنيسة، ويجعل في مذبحها، فخاف بعض ملوكهم أن تفنى، فأمر بها ففرش فوقها حفظا لها، فلما كشفت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة والربعات الجيدة، ورتب القراء، وأدرّ عليهم الوظائف الكثيرة، وحضر الملك المظفر تقي الدين فحمل إليها أحمالا من ماء الورد فغسلها بها، وكنس ساحاتها بيده، وغسل جدرانها، ثم بخرها بالطيب، وحضر الملك الأفضل ابن السلطان ففرش فيها بسطا نفيسة، ورتب الأئمة والمؤذنين والقوام، ثم عين السلطان كنيسة صندجية وصيرها مدرسة للشافعية ووقف عليها وقوفا جليلة، وقرر دار البترك الأعظم رباطا للفقراء، ومحا آثار النصرانية، وأمر بإغلاق كنيسة قمامة، ومنع النصارى من ريادتها، ثم تقرر بعد على من زارها ضريبة تؤخذ منه، ولما افتتح عمر بيت المقدس أقر هذه الكنيسة ولم يهدمها، ولهذا أبقاها السلطان، فعاد الإسلام هناك غضا طريا، وهذه المكرمة من فتح البيت المقدس لم يفعلها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير صلاح الدين رحمه الله، وكفاه ذلك فخرا وشرفا. وأما الفرنج من أهله فإنهم أقاموا، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية، فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج، وترك الفرنج أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات وغير ذلك، وتركوا أيضا من الرخام الذي لا يوجد مثله من الأساطين والألواح والفص وغيره، شيئا كثيرا ثم ساروا. انظر: "الكامل في التاريخ" لابن الأثير (10 /33- 38)، "تاريخ الإسلام" للذهبي (12 /673)، "البداية والنهاية" لابن كثير (12 /323- 326)، "تاريخ ابن خلدون" (5 /360- 362).

نتيجتها

كان النصر حليف المسلمين، قاتل الفرنج حتى طلب الأمان، فامتنع السلطان من إجابتهم، فقبله اخيرا بعد استشارة أصحابه، فكان فتح بيت المقدس صلحا، على أن يزن الرجل عشرة دنانير يستوي فيه الغني والفقير، ويزن الطفل من الذكور والبنات دينارين، وتزن المرأة خمسة دنانير، فمن أدى ذلك إلى أربعين يوما فقد نجا، ومن انقضت الأربعون يوما عنه ولم يؤد ما عليه فقد صار مملوكا، فبذل بَالْيَان بْن بِيرْزَان عن الفقراء ثلاثين ألف دينار، فأجيب إلى ذلك، عن ثمانية عشر ألف رجل، وبقي ثلاثون ألفا ليس لهم فكاك فاستعبدهم وفرقهم، وخلص من أسارى المسلمين عشرين ألفا. ورتب صلاح الدين على أبواب البلد في كل باب أمينا من الأمراء ليأخذوا من أهله ما استقر عليهم، فاستعملوا الخيانة، ولم يؤدوا فيه أمانة، واقتسم الأمناء الأموال، كما ادعى جماعة من الأمراء أن لهم في القدس رعية، فكان يطلقهم، فلم يصل إلى خزائنه إلا القليل، واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم، وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم، وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها، وكان محبوسا بقلعة نابلس، فأطلقها بجميع ما معها، وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له. وكان على رأس قبة الصخرة صليب كبير مذهب، فطلع المسلمون ورموه، وضج الخلق ضجة عظيمة إلى الغاية. وبعد النصر والفتح أمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم، وكان المسجد الأقصى مشغولا بالخنازير والخبث والأبنية، بنت الداوية في غربيّه مساكن وفيها المراحيض، وسدوا المحراب، فبادر المسلمون إلى تنظيفه وتطهيره، وبسطوا فيه البسط الفاخرة، وعلقت القناديل. ولم كان يوم الجمعة، وهو رابع شعبان، خطب القاضي محيي الدين ابن الزكي للناس في بيت المقدس، وازدحم الناس، وحضر السلطان فصلى بقرب الصخرة، وفرح إذ جعله الله تعالى في هذا الفتح ثانيا لعمر رضي الله عنه، فاستفتح القاضي خطبته بقوله تعالى: ﴿فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ الأنعام: 45، ثم أول الأنعام وآخر سبحان، وأول الكهف وحمدلة النمل، وأول سبأ وفاطر، ثم قال: «الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبى طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان»، ثم خطب ثلاث جمع بعدها من إنشائه، وأمر صلاح الدين بنقل المنبر المصنوع على أحسن نعت وأجمله وأبدعه الذي بحلب إلى بيت المقدس. ابتدأ السلطان في إصلاح المسجد الأقصى والصخرة ومحو آثار الفرنج وشعارهم، وكانت الفرنج بنوا على الصخرة كنيسة، وغيروا أوضاعها وصوروها، فخربت تلك الأبنية عن الصخرة وأبرزت، فلما أبرزت نقل إليها صلاح الدين المصاحف الحسنة والربعات الجيدة، ورتب القراء، وحضر الملك المظفر تقي الدين فحمل إليها أحمالا من ماء الورد فغسلها بها، وكنس ساحاتها بيده، وغسل جدرانها، ثم بخرها بالطيب، وحضر الملك الأفضل ابن السلطان ففرش فيها بسطا نفيسة، ورتب الأئمة والمؤذنين والقوام. الفرنج من أهله فإنهم أقاموا، وشرعوا في بيع ما لا يمكنهم حمله من أمتعتهم وذخائرهم وأموالهم وما لا يطيقون حمله، وباعوا ذلك بأرخص الثمن، فاشتراه التجار من أهل العسكر، واشتراه النصارى من أهل القدس الذين ليسوا من الفرنج، فإنهم طلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من المقام في مساكنهم ويأخذ منهم الجزية، فأجابهم إلى ذلك، فاشتروا حينئذ من أموال الفرنج، وترك الفرنج أيضا أشياء كثيرة لم يمكنهم بيعها من الأسرة والصناديق والبتيات وغير ذلك، وتركوا أيضا من الرخام الذي لا يوجد مثله من الأساطين والألواح والفص وغيره، شيئا كثيرا ثم ساروا.