البحث

عبارات مقترحة:

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

الحسيب

 (الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...

الوتر

كلمة (الوِتر) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، ومعناها الفرد،...

التوبة

إنّ منزلة التوبة أوّل المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يُفارقه العبد السّالك، ولا يزالُ فيه إلى الممات. وحقيقة التوبة: ترك الذّنب عِلماً بِقبحِه، ونَدمَاً على فِعلِه، وعَزماً على ألّا يعودَ إليه إذا قَدِر، وتَدارُكاً لما لا يمكنُ تدارُكه من الأعمال، وأداءً لما ضيّعَ من الفرائض؛ إخلاصاً لله، ورجاءً لثوابه، وخوفاً من عِقابه، وأن يكونَ ذلكَ قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشّمس من مغربها. وقد جاءت آيات وأحاديث كثيرة تحثُّ على المبادرة إلى التوبة، والرّجوع إلى الله، وتبين فضل التوبة؛ فالتوبة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل، كما أنّ الله يمحو بها الخطايا، وفرح الله بتوبة عبده لم يأتِ نظيره في غيرها من الطّاعات دليلٌ على عظم التوبة وفضلها ومنزلتها. ومن صور التوبة: التوبة الواجبة، والتّوبة المستحبة، والتوبة النصوح، والتوبة الخاصة من بعض الذنوب. كما أنّ للتوبة فوائد عظيمة منها: أن التوبة تبدّل السيئات حسنات، وأنها سبب المتاع الحسن، وأنها سببٌ لنزول المطر. ومن الأمور التي تُعين على التوبة: تدبّر القرآن، والتفكر، ومحاسبة النفس.

التعريف

التعريف لغة

التّوبة في الّلغة تدور على معنى الرّجوع والعودة، والإنابة والنّدم. قال ابن فارس: «التاء والواو والباء كلمة واحدة تدلّ على الرّجوع، والتّوب: التّوبة». انظر "مقاييس اللغة" لابن فارس (1 /357)

التعريف اصطلاحًا

التّوبة: هي ترك الذّنب عِلمًا بِقبحِه، ونَدمًا على فِعلِه، وعَزمًا على ألّا يعودَ إليه إذا قَدِر، وتَدارُكًا لما لا يمكنُ تدارُكه من الأعمال، وأداءً لما ضيّعَ من الفرائض؛ إخلاصًا لله، ورجاءً لثوابه، وخوفًا من عِقابه، وأن يكونَ ذلكَ قبل الغرغرة، وقبل طلوع الشّمس من مغربها. انظر "التوبة" للمحاسبي (ص51)، "أعمال القلوب" للسبت (2/509)

العلاقة بين التعريفين اللغوي والاصطلاحي

المعنى اللغوي والاصطلاحي للتوبة متفقين؛ فالتّوبة في اللغة: الرجوع من الذنب. والتوبة في الاصطلاح: الرجوع عن الذّنب الّذي تاب منه إلى ما رجع إليه. والتّوبة المشروعة: هي الرّجوع إلى الله عزّ وجل إلى فعلِ ما أمر به، وترك ما نهى عنه. انظر "التحفة العراقية" لابن تيمية (ص140) والتّواب: صيغة مُبالغة، أي الكثير التوبة، بمعنىى أنّه كلما تاب من الذّنب، ثمّ عادَ إليه ثانيًا بتقدير الله تعالى يتوب منه ثانيًا، ولا يصرّ على شيءٍ من الذّنوب. انظر "التوبة" للمحاسبي (ص83).

الفروق

الفرق بين التوبة و الإنابة والأوبة

الإنابة أوسع من التّوبة؛ فالإنابة تكون بالرّجوع عن الذّنب، وبالإقبال على الله عزّ وجل بفعل الطّاعات بالقلب واللّسان والجوارح، وبالإقبالِ عليه عزّ وجل بإنزال الحاجات، والضّراعة إليه والدّعاء. وقال بعض أهل العلم: مَن خافَ العقاب فهو صاحبُ توبة، ومَن تابَ طمعًا في الثّواب فهو مُنيب، ومَن تابَ لمُراعاة أمر الله فهو صاحبُ أوبة. وقال بعضُهم: التّوبة صفة عامّة المؤمنين، كما قال الله عزّ وجل: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ [النور: 31] على اختلافِ درجاتهم في الإيمان، وأمّا الإنابة فهي صفة للأولياء المقرّبين، كما قال عزّ وجل: ﴿ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ﴾ [ق: 33] والأوبة صفة الأنبياء والمُرسلين، كما قال تعالى: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص: 30]. انظر "مدارج السالكين" لابن القيم (1 /434-435)، "الرسالة القيشيرية" للقشيري (1 /211)

الفضل

التّوبة كما أنّها في أول المقامات، فهيَ آخرها أيضًا، بل هي في كل مقامٍ مُستصحبة، ولهذا جعلها الله تعالى آخر مقامات خاصّته، فقال في غزوة تبوك، وهي آخر الغزوات: ﴿لقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِىِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍۢ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 117]، فجعل التّوبة أوّل أمرهم وآخره. والتّوبة نهاية كلّ سالك، وكلّ ولي لله، وهي الغاية التي يجري إليها العارفون بالله، وعبوديته، وما ينبغي له. قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)﴾ [الأحزاب] فجعل سبحانه وتعالى التوبة غاية كلّ مؤمنٍ ومؤمنة. وفي الآية: ﴿‏‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾‏‏ ‏[‏النور‏: ‏ 31‏] خاطب الله بها أهل الإيمانِ وخِيارَ خلقِه، وأمرهم أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم، وصبرهم، وهجرتهم، وجهادهم، ثمّ علّقَ الفلاح بالتّوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالتّرجي إيذانًا بأنكم إذا تُبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التّائبون. ولم يجعل الله محبته للتائبين إلا وهُم خواص الخلق لديه، وهي من أفضل الكمالات، والله عزّ وجل قد أخبر عن عامة الأنبياء بالتوبة والاستغفار، وهي أكمل الخلق. وتوبة المؤمنين واستغفارهم هو من أعظم حسناتهم، وأكبر طاعاتهم، وأجلِّ عباداتهم، الّتي ينالون بها أجلّ الثواب، ويندفع بها عنهم ما يدفعه من العقاب. وممّا يدلُّ على فضل التوبة أيضًا: قول الرسول صلى الله عليه وسلّم لكعب بن مالك: «أبْشِرْ بخَيْرِ يَومٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ ولَدَتْكَ أُمُّكَ» أخرجه البخاري (4418). فهذا دليلٌ على أنّ خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته. وفرح الله بتوبة عبده لم يأتِ نظيره في غيرها من الطّاعات دليلٌ على عظم التوبة وفضلها ومنزلتها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ، سَقَطَ علَى بَعِيرِهِ، وقدْ أضَلَّهُ في أرْضِ فَلاةٍ» أخرجه البخاري (6309). كما أنّ التوبة تمحو الخطايا، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ». أخرجه ابن ماجه (4250) والبيهقي (20561). انظر "التوبة" للمحاسبي (ص74)، "أعمال القلوب" للسبت (2 /524-526).

الأدلة

القرآن الكريم

التوبة في القرآن الكريم
تارةً يأمرُ الله بها عباده، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [التحريم: 8] وتارةً يخبر عن توبته على بعض عباده، قال تعالى: ﴿لقَد تَّابَ اْللَّهُ عَلَى اْلنَّبِىِّ وَاْلْمُهَٰجِرِينَ وَاْلْأَنصَارِ اْلَّذِينَ اْتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ اْلْعُسْرَةِ مِنۢ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍۢ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُۥ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 117] وتارةً يُخبر عن قبوله لتوبة عباده، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى : 25] وتارةً يذكُر دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقوامهم للتوبة؛ كما في قول هود عليه الصلاة والسلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52] وتارةً يذكر توبتهم أو سؤالهم التوبة عليهم؛كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128]. انظر "أعمال القلوب" للسبت (2 /542-543).

السنة النبوية

التوبة في السنة النبوية
ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنّه قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ، فإنِّي أَتُوبُ في اليَومِ إلَيْهِ مِئَةَ مَرَّةٍ». أخرجه مسلم (2702). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «واللَّهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وأَتُوبُ إلَيْهِ في اليَومِ أكْثَرَ مِن سَبْعِينَ مَرَّةً». أخرجه البخاري (6307).

الإجماع

قال القرافي: «التوبة واجبة بالإجماع على الفور». "الذخيرة" (13 /355). وفي "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة (ص238): «الإجماع منعقدٌ على وجوب التّوبة؛ لأنّ الذنوب مهلكاتٌ مبعداتٌ عن الله تعالى، فيجب الهربُ منها على الفور».

العقل

التوبة واجبةٌ على الدّوام؛ فإنَّ الإنسانَ لا يخلو عن معصية، لو خلا عن معصيةٍ بالجوارح لم يخل عن الهمّ بالذّنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك، لم يخل عن وسواس الشّيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، لو خلا عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وأفعاله وصفاته وأفعاله، وكلّ ذلك نقص، ولا يسلم أحدٌ من هذا النّقص، وإنما الخلق يتفاوتون في المقادير، وأمّا أصل ذلك فلا بدَّ منه. انظر "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة (ص238-239)

أقوال أهل العلم

وتَستغفِرُ اللَّهَ العظيمَ بتَوبةٍ*****وتَرفعُ كفَّ المُسْتَغِيثِ الْمُجَهَّدِ وتَدْعُو دُعاءَ الْمُخبِتينَ برَغبةٍ*****دُعاءَ غَريقٍ في دُجَا اللَّيْلِ مُفْرَدِ فإنَّ الذي تَدْعُوهُ يَرْزُقُ مَنْ عَصَى*****وفاتحُ بابٍ للمُطِيعِ ومُعْتَدِي ولكنَّما صِدْقُ الرجاءِ مَفاتِحُ الـ*****خَزائنِ فادْعُ وابْتَغِ الفضلَ واجْهَدِ وقُلْ بانكسارٍ قارِعًا بابَ راحِمٍ*****قريبٍ مُجيبٍ بالفَوَاضِلِ يَبْتَدِي إِلَهِي أتى العَاصُونَ بَابَكَ مَلْجَأً*****يُرَجُّونَ عَفْوًا مِنكَ رَبِّي وسَيِّدِي إليكَ فَرَرْنا مِنْ عذابِكَ رَهْبَةً*****فلا تَطْرُدَنَّا عنْ جَنَابِكِ واسْعِدِ دَعَوْنَاكَ للأمرِ الذي أنتَ ضامِنٌ*****إجابتَهُ يا غيرَ مُخْلِفِ مَوْعِدِ إليكَ مَدَدْنا بالرَّجاءِ أَكُفَّنَا*****فَحَاشَاكَ مِنْ رَدِّ الْفَتَى صَافِرَ الْيَدِ ومَنْ يَنتحِبْ مِنْ خَشيَةِ اللَّهِ قُلْ لَهُ*****طَفَأْتَ لَظَى وَاحْرَزْتَ كلَّ التَّعَبُّدِ فعَينٌ بَكَتْ مِنْ خشيَةِ اللَّهِ حُرِّمَتْ*****على النارِ في نَصِّ الحديثِ الْمُسَدَّدِ المَرْداوي "الألفية في الآداب الشرعية" (ص66-67).

حِكَم وأمثال

قال ابن القيم: «وَلو لَم تكن التّوبة أحبّ الأشياء إلى الله عز وجل لما ابتلى بالذّنب أكرم الخلق عليه؛ فلمحبته لتوبة عبده ابتلاه بالذّنب الّذي يوجب وقوع محبوبه في التّوبة، وزيادة محبته لعبده؛ فإنّ للتائبين عنده محبّة خاصّة». "مدارج السالكين" لابن القيم (1 /306). قال لقمانُ رحمهُ الله تعالى لابنه: «لا تُؤخّرِ التَّوْبة، فإِنَّ الموت يأتي بغتةً ومَن تركَ المبادرة إلى التّوبة بالتّسويف كان بين خطرين أعظمين: أحدهما: أن تتراكم الظّلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير رَيْنًا وطَبعاً فلا يقبل المحو. والثّاني: أن يعاجلَه المرض أو الموت فلا يجد مهلةً للاشتغال بالمحو». "التوبة" لابن أبي الدنيا (ص53)

الصور

التّوبة الواجبة: تكون من فعل المحرّمات وترك الواجبات التّوبة المستحبّة: تكون من فعل المكروهات، وترك المستحبّات. فمن اقتصر على التّوبة الأولى كانَ من الأبرار المُقتصدين، ومن تاب التّوبتين كان من السّابقين المقرّبين، ومَن لَم يأتِ بالأولى كانَ من الظّالمين: إمّا الكافرين وإما الفاسقين. انظر "جامع الرسائل" لابن تيمية (1/227) التّوبة النّصوح: هي الخالصة، الصّادقة، الناصحة، الخالية من الشّوائب والعلل. وهي الّتي تكون من جميع الذّنوب؛ فلا تدع ذنباً إلا تناولته، وهي التي يجمع صاحبها العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد، ولا تلوم، ولا انتظار. وهي الّتي تقع لمحض الخوف من الله، وخشيته، والرّغبة فيما لديه، والرّهبة مما عنده؛ فليست لحفظ الجاه، والمنصب، والرّياسة، ولا لحفظ الحال، أو القوة، أو المال، ولا لاستدعاء حمد الناس، أو الهربة من ذمهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، ولا لقضاء النهمة من الدّنيا أو للإفلاس والعجز، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها، وإخلاصها لله عز وجل. فمن كانت هذه حاله غفرت ذنوبه كلها، وإذا حسنت توبته بدّل الله سيئاته حسنات. انظر "مدارج السالكين" لابن القيم (1 /316-317). التّوبة الخاصة من بعض الذّنوب: فالواجب على العبد أن يتوب من جميع الذّنوب صغيرها وكبيرها. فإذا تاب من بعضها مع إصراره على بعضها الآخر قُبلت توبته مما تاب منه، ما لم يصرّ على ذنب آخر من نوعه. أمّا إذا تابَ من ذنبٍ مع مباشرة ذنبٍ آخر لا تعلق له به ولا هو من نوعه صحت توبته مما تاب منه. مثالُ ذلك: أن يتوبَ من الرّبا، وهو مصرّ على السرقة وشرب الخمر، فتُقبل توبته من الرّبا. أما إذا تاب من نوعٍ من أنواع الرّبا وهو مصرٌّ على نوعٍ آخر منه، أو تاب من نوع منه، وانتقل إلى نوعٍ آخر فلا تقبل توبته؛ كحال من يتوب من ربا الفضل وهو مصرّ على ربا النّسيئة، أو أن ينتقل من ربا الفضل إلى ربا النسيئة، وكحال من يتوب من الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بأخرى، فإن توبته لا تصح، فهو لم يتب في الحقيقة من الذّنب، وإنّما عدل عن نوعٍ منه إلى نوعٍ آخر. وقد يتصوّر أن يتوب الإنسان من الكثير من الذنوب دونَ القليل؛ لأنّ لكثرة الذّنوب تأثيرًا في كثرة العقوبة، وصعوبة التّوبة. انظر "إحياء علوم الدين" للغزالي (4/40). وبالجملة فكل ذنب له توبة خاصة، وهي فرض منه لا تتعلق بالتوبة من غيره؛ فهذه هي التوبة الخاصة. وحكمها أنها تصح فيما تاب منه؛ شريطة أن يكون التائب باقيًا على أصل الإيمان. وسرّ المسألة أن التوبة تتبعض كالمعصية، فيكون تائبًا من وجهٍ دون وجه كالإسلام والإيمان. انظر "مدارج السالكين" لابن القيم (1 /285)

وسائل الاكتساب

أولاً: ينبغي على العبد ألا يُعين الشيطان على أخيه المُسلم، فإن وقع في الذّنب نصحه وأَرشَده: ثانياً: تدبّر القرآن: فمن تدبّر آي القرآن وما جاء فيها من الوعد والوعيد حمله ذلك على استقبال التوبة، واستقباح الحال التي هو عليها، ومن مواقعة الذنوب، والخروج عن طاعة رب العباد. ثالثاً: النظر إلى أثر الذّنب: فمن تأمل ما يجنيه بذنبه من خزي الدّنيا وخسران الآخرة، مع ما يكون عليه من مقبوح الحال، أنِفَ لنفسهأن يكون بتلك المَثابة، إذا كان عَقولاً، له حظ من النظر والتعقل، وليس كالبهيمة لا ينظر إلا فيما يشتهيه، دون تدبر العواقب وما يجنيه من الخسائر. رابعاً: مُحاسبة النفس: بالمُحاسبة يُميّز العبد بينَ ما له وما عليه، فيستصحب ما له، ويؤدي ما عليه، ومن منزلة المحاسبة يصحُّ له نزول منزلة التوبة؛ لأنه إذا حاسب نفسه، عرَف ما عليه من الحقّ، فخرج منه، وتنصّل منه إلى صاحبه، وهي حقيقة التوبة. خامساً: التفكّر: التفكّر أداة التّذكر، وهو أمرٌ ينبغي أن يحرص عليه المسلم في أمر دينه ودُنياه، وهو مما يُعين العبد على نفسه إذا أقبلَ على الله تائبًا، إليه مُنيبًا، فحريٌّ بمن تفكر في عواقب الطاعات وآثارها الحميدة أن يُقبل عليها، وحريٌّ بمن تفكّر في عواقب المعاصي وما قد يحصل له بها من خزي الدنيا وعذاب الآخرة أن يُعرض عنها. انظر "أعمال القلوب" للسبت (2 /595-601).

الفوائد والمصالح

للتّوبة أسرار بديعة، وفوائد متعددة، منها: التوبة سبب الفلاح، قال تعالى: ﴿‏‏وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾‏‏ ‏[‏النور‏: ‏ 31‏] بالتّوبة تكفر السيئات: فإذا تابَ العبدُ توبةً نصوحاً كفَّرَ الله بها جميع ذنوبه وخطاياه. قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53] بالتّوبة تبدّل السيئات حسنات: فإذا حسنت التّوبة بدّل الله سيئات صاحبها حسنات، وذلك فضلٌ من الله وتكرّم. قال تعالى: ﴿إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70] التّوبة سبب للمتاع الحسن: قال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾ [هود: 3] التّوبة سبب لنزول المطر، وزيادة القوّة، والإمداد بالأموال والبنين، قال تعالى على لسان هود عليه السّلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 52] أنّ الله يحبُُّ التّوبة والتّوابين؛ فعبودية التّوبة من أحب العبوديّات إلى الله وأكرمها، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222] التّوبة توجب للتائب آثاراً عجيبة من المقامات الّتي لا تحصل بدون التّوبة: فتوجب له المحبّة، والرّقة، واللطف، وشكر الله، وحمده، والرّضا عنه، فرتّب له على ذلك أنواع من النّعم لا يهتدي العبد لتفاصيلها، بل لا يزالُ يتقلب في بركتها وآثارها ما لّم ينقضها أو يفسدها. حصول الذّل والانكسار لله: ففي التوبة من الذّل، والانكسار، والخضوع، والتّذلل لله ما هو أحبُّ إلى الله من كثيرٍ من الأعمال الظّاهرة، وإن زادَت في القدرِ والكميّة على عبودية التّوبة، فالذّل والانكسار روح العبوديّة ولبّها. أن يعرِفَ العبدُ حاجته إلى حفظ الله ومعونته وصيانته، وأنّه كالوليد في حاجته إلى من يحفظه؛ فإنه إن لَم يحفظه مولاه ويصونه ويُعينه فهو هالك ولا بد. أنْ يعرِفَ العبدُ حقيقة نفسه وأنها الظالمة الجهول، وأنَّ ما صدرَ منها من شر فقد صدرَ من أهله ومعدنه؛ إذ الجهل والظّلم منبع الشّر كلّه، وأنّ كل ما فيها من خيرٍ وعلمٍ وهدىن وإنابة وتقوى فهو من ربّها الّذي زكّاها، وأعطاها إياه. فإذا ابتُلي العبدُ بالذّنب عرف نفسه، ونقصها، فرتّب له على ذلكَ حِكَم ومصالح عديدة، منها: أن يأنف نقصها، ويجتهد في كمالها. ومنها: أن يعلم فقرها، ومَن يتولاها، ويحفظها. انظر "مدارج السالكين" لابن القيم (1 /306_312) وقال عزّ وجل على لسان نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12) ﴾ [ نوح]

نماذج وقصص

توبة العبد القاتل مائة نفس: أنّ عبداً قتلَ تسعةٍ وتسعين نفساً، فعرضت له التوبة، فسألَ عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل، فأتاه فقال: إني قتلتُ تسعةً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ فقال: بعد قتل تسعة وتسعين نفساً! قال: فانتضى سيفه فقتله به، فأكمل به المائة. ثمَّ عرضت له التوبة، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلّ على رجل ، فأتاه، فقال: إني قتلتُ مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ اخرج من القرية التي أنتَ فيها إلى القرية الصّالحة فاعبد ربّك فيها، قال: فخرج إلى القرية الصّالحة، فعرَض له أجله في الطّريق. قال: فاختصمت فيه ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب. قال: فقال إبليس: أنا أولى به، إنّه لم يعصني ساعة قط. قال: فقالت ملائكة الرّحمة: إنّه خرج تائباً. توبة بشر بن الحارث الحافي الصوفي: قال همام: فحدثني حميد الطّويل، عن بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع، قال: فبعث الله عز وجل له ملكاً، فاختصموا إليه. ثمّ رجع إلى حديث قتادة، قال: فقال: انظروا إلى أي القريتين كان أقرب إليها فألحقوه بأهلها. قال قتادة: فحدثنا الحسن: أنه لما عرف الموت، احتفز بنفسه، فقرب الله منه القرية الصالحة، وباعد منه القرية الخبيثة، فألحقوه بأهل القرية الصالحة. انظر "شرح كتاب التوبة والاستغفار" للطهطاوي (ص121) جاءَ في سبب توبته أنّه كان في زمن لهوه في داره، وعنده رفقاؤه يشربون الخمر، ويطيبون، فاجتاز به رجلٌ من الصّالحين، فدقَّ الباب فخرجت إليه جارية، فقال: صاحبُ هذا الدّار حُرٌّ أو عبد؟ فقالت: بل حر. فقال: صدقتِ لو كانَ عبداً لاستعملَ أدب العبودية، وتركَ اللهوَ والطّرب. فسمِعَ بشرٌ محاورتهما، فسارع إلى الباب حافياً حاسراً وقد ولى الرجل، فقال للجارية: ويحك، من كلّمك على الباب؟ فأخبرته بماجرى، فقال: أي ناحيةٍ أخذ الرّجل؟ فقالت: كذا، فتبعه بشرٌ حتى لحقه، فقال له: يا سيديّ! أنتَ الّذي وقفت بالباب وخاطبت الجارية؟ قال: نعم، قال: أعِد عليَّ الكلام، فأعاده عليه، فمرّغ بشرٌ خدّيه على الأرض، وقال: بل عبدٌ، بل عبد، ثم انطلق حافياً حاسراً حتى عُرف بالحفاء. انظر "أعمال القلوب" للسبت (2 /625). وقد صنف الإمام أبو محمد ابن قدامة المقدسي كتابًا خاصًّا باسم "التوابين" وهو في قصص التوابين والعائدين إلى الله.