البحث

عبارات مقترحة:

العلي

كلمة العليّ في اللغة هي صفة مشبهة من العلوّ، والصفة المشبهة تدل...

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

غزوة المريسيع

بلغ رسول الله أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق يجمع العرب لحرب رسول الله ، فخرج رسول الله إليهم، حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع، والتقى الفريقان، وتهيئوا للقتال وتراموا بالسهام ساعة، ثم حمل المسلمون حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وأسر سائرهم، وسبى رسول الله الرجال والنساء والذرية، وأخذ النعم والشاء، ولم يُقْتَل من المسلمين إلا رجل واحد، وفي هذه الغزوة كانت حادثة الإفك وقولهم في عائشة رضي الله عنها، وكانت محاولة من عبد الله بن أُبَيّ في إثارة الفتنة وقوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار من بين السبايا في هذه الغزوة، فتزوجها رسول الله على أن يقضي لها كتابتها.

اسمها

غزوة المريسيع ويقال لها أيضا: غزوة بني المصطلق.

وقتها

اختلف العلماء في وقت غزوة بني المصطلق: فمن قائل أنها سنة ست. قال بذلك: ابن إسحاق، والبخاري، وخليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن حزم، وابن عبد البر، وابن العربي، وابن الأثير، وابن خلدون. انظر: "المغازي" للواقدي (1 /404)، "السيرة" لابن هشام (2 /289). ومن قائل أنها كانت في شعبان من العام الرابع للهجرة. وهو قول لابن حزم، وافقه عليه عدد من العلماء، منهم: مالك بن أنس، وموسى بن عقبة، وابن قتيبة والنووي، وابن خلدون. وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان سنة خمس من مقدم رسول الله المدينة. وذهب إلى هذا القول: ابن سعد، والبلاذري، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر، وابن كثير. انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /63)، زاد المعاد" لابن القيم (3 /229). قال إبراهيم العلي: "وهذا القول هو الأصح والأظهر، والله أعلم؛ لأن الأدلة كلها متظاهرة ومتفقة على تأييد هذا القول". "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 245)، ثم ذكر الأدلة ووجوهها وفصل فيها. انظر: "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 256)، "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 245- 247).

موقعها

كان لبني المصطلق بئر ينزلون عليها، يقال لها المريسيع، بينها وبين الفرع نحو من يوم، وبين الفرع والمدينة ثمانية برد، وهي من ناحية قديد إلى الساحل. انظر: "السيرة" لابن هشام (2 /290)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /63).

عدد المسلمين

خرج رسول الله ومعه بشر كثير، ومعهم ثلاثون فرسًا، في المهاجرين منها عشرة، وفي الأنصار عشرون. قال الواقدي وابن سعد: "من المنافقين، لم يخرجوا في غزاة قط مثلها". انظر: "المغازي" للواقدي (1 /404)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /63)، وانظر: "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 257).

قائد المسلمين

رسول الله

قائد المشركين

الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق.

سببها

وكان سبب هذه الغزوة أن الحارث بن أبي ضرار من بني المصطلق من خزاعة، وهم من حلفاء بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم، سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله ، فأجابوه وتهيؤوا للمسير معه إليه، فبلغ ذلك رسول الله ، فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك، فأتاهم، ولقي الحارث بن أبي ضرار، وكلمه، ورجع إلى رسول الله ، فأخبره خبرهم، فندب رسول الله الناس إليهم، فأسرعوا الخروج وقادوا الخيول. انظر: "المغازي" للواقدي (1 /404- 405)، السيرة" لابن هشام (2 /290)، زاد المعاد" لابن القيم (3 /230).

أحداثها

ورد في أحداث هذه الغزوة روايتان مختلفتان: الأولى: ما ورد في الصحيحين عند البخاري ومسلم من حديثهما المتفق عليه: أن رسول الله أغار عليهم وهم غافلون، أي أخذهم على غرة وبغتة، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. روى ابن عون، قال: كتبت إلى نافع فكتب إلي: "إن النبي أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية، حدثني به عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش". أخرجه البخاري (2541)، مسلم (1730). والثانية: ما رواه أهل السير والمغازي أن رسول الله وجدهم على ماء لهم يقال المريسيع فحاربهم، وسبى ذراريهم وأموالهم. وتفصيل ذلك: لما بلغ رسول الله أن الحارث بن أبي ضرار سيد بني المصطلق سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب يريدون حرب رسول الله ، بعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم له ذلك، فأتاهم ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله فأخبره خبرهم، فخرج رسول الله ، وخرج معه بشر كثير، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، وقيل: أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد الله الليثي، وخرج يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان. وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله ، وأنه قد قتل عينه الذي كان وجهه ليأتيه بخبرهم، فسيء بذلك الحارث ومن معه وخافوا خوفًا شديدًا، وتفرق عنهم من كان معهم من العرب، وانتهى رسول الله حتى لقيهم على ماء لهم يقال له: المريسيع، فضرب عليه قبته، ومعه عائشة وأم سلمة، فتهيئوا للقتال وصف رسول الله أصحابه ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة، فرموا بالنبل ساعة، ثم أمر رسول الله أصحابه فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وقتل الحارث بن أبي ضرار، وأسر سائرهم وسبى رسول الله الرجال والنساء والذرية والنعم والشاء، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد. وأمر بالأسارى فكتفوا واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب وأمر بالغنائم فجمعت واستعمل عليها شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية واستعمل على مقسم الخمس وسهمان المسلمين محمية بن جزء، واقتسم السبي، وفرق وصار في أيدي الرجال، وقسم النعم والشاء. وغاب رسول الله ، في غزاته هذه ثمانية وعشرين يومًا، وقدم المدينة لهلال شهر رمضان (2 /65). انظر: "المغازي" للواقدي (1 /404- 410)، "السيرة" لابن هشام (2 /289-294)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /63- 64)، زاد المعاد" لابن القيم (3 /230). وكان للعلماء طرق في إزالة الخلاف الظاهري هذا بين الروايتين في أحداث غزوة بني المصطلق: فذهب جمع منهم إلى الترجيح: فرجح الواقدي وابن سعد ما رواه أهل المغازي، فذكرا ان ابن عمر كان يحدث أن النبي أغار عليهم وهم غارون، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، ثم قالا: "والأول -أي رواية أهل المغازي- أثبت". انظر: "المغازي" للواقدي (1 /407)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /63- 64). ورجح ابن القيم رواية الصحيحين، فقال بعدما أورد ما ذكره أهل السير والمغازي: "هكذا قال عبد المؤمن بن خلف في "سيرته" وغيره، وهو وهم، فإنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغار عليهم على الماء، فسبى ذراريهم وأموالهم كما في الصحيح، "أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون... " وذكر الحديث. زاد المعاد" لابن القيم (3 /230). وذهب آخر إلى إمكان الجمع بينهما، قال إبراهيم العلي: "وليس بين هذا الحديث وبين حديث ابن عمر في الصحيح تعارض". "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي(ص 250)، لذا نرى ان ابن حجر تعقب على ابن سعد فقال: "والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود، ولاسيما مع إمكان الجمع، والله أعلم". "فتح الباري" لابن حجر (8 /197). وجمع ابن حجر بينهما بقوله: "ويحتمل أن يكون لما دهم المسلمون بني المصطلق وهم على الماء ثبتوا قليلًا وقاتلوا، ولكن وقعت الغلبة عليهم". "فتح الباري" لابن حجر (7 /430 - 431).

نتيجتها

اقتتل الفريقان؛ فكانت النصرة للمسلمين وانهزم المشركون، فما أفلت منهم أحد، وقتل عشرة منهم، وأسر سائرهم. قال ابن إسحاق: وأصيب من بني المصطلق يومئذ ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين، مالكًا وابنه، وقتل عبد الرحمن بن عوف رجلًا من فرسانهم، يقال له: أحمر، أو أحيمر. (2 /294) لم يقتل من المسلمين إلا رجلًا واحدًا، وهو إنما قتل خطأ، وذلك أن هاشم بن ضبابة قد خرج في طلب العدو، فرجع فى ريح شديدة وعجاج، فتلقى رجلا من رهط عبادة بن الصامت يقال له أوس، فظن أنه من المشركين فحمل عليه فقتله، فعلم بعد أنه مسلم، فأمر رسول الله أن تخرج ديته. وذكر ابن إسحاق أنه أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر، يقال له: هشام بن صبابة، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ، وقدم مقيس بن صبابة من مكة مسلمًا فيما يظهر، فقال: يا رسول الله جئتك مسلمًا، وجئت أطلب دية أخي، قتل خطأ. فأمر له رسول الله بدية أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله غير كثير، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى مكة مرتدًا. انظر: للواقدي (1 /408)، "السيرة" لابن هشام (2 /290- 293). وسنده صحيح إلى ابن إسحاق وقد صرح بالتحديث وقال الهيثمي في المجمع: 6 /142، رواه الطبراني ورجاله ثقات، ومدار الحديث على ابن إسحاق ورجاله ثقات وهم رجال الصحيح غير أنه مرسل، ويشهد له حديث عبد الله بن عمر فإنه صريح في وجود القتل والسبي وبذلك يكون الحديث حسنًا لغيره. سبى رسول الله الرجال والنساء والذرية، وأخذ النعم والشاء، واقتسم السبي وفرق، فصار في أيدي الرجال، وقسمت الرثة وقسم النعم والشاء فعدلت الجزور بعشر من الغنم وبيعت الرثة فيمن يريد، وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وللراجل سهم، وكانت الإبل ألفي بعير والشاء خمسة آلاف شاة، وكان السبي مائتي أهل بيت. كانت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار من بين السبايا، وكانت سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له، فكاتباها على تسع أواق ذهب، فسألت رسول الله في كتابتها وأداها عنها وتزوجها. روى عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت: "لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له -، وكاتبته على نفسها، وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله تستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله، أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس - أو لابن عم له - فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: " فهل لك في خير من ذلك؟ ". قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي كتابتك وأتزوجك " قالت: نعم يا رسول الله. قال: قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها". أخرجه أبو داود (3931)، وأحمد (43 /384) طبعة الرسالة، رقم (26365)، واللفظ له، هو كذلك عند ابن إسحاق في "السير والمغازي" ص 263. قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: "إسناده حسن من أجل محمد بن إسحاق، وقد صرح بالتحديث هنا فانتفت شبهة تدليسه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين". انظر: "المغازي" للواقدي (1 /407- 413)، "السيرة" لابن هشام (2 /293- 296)، زاد المعاد" لابن القيم (3 /230- 231).

أحداث متعلقة

وفي هذه الغزوة كانت حادثة الافك وقول أهل الإفك في عائشة رضي الله عنها، وأنزل الله تبارك وتعالى براءتها. قالت عائشة: "كان رسول الله إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل، دنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول، قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه، وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى، وإن كبر ذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: فإن أبي ووالده وعرضي. .. لعرض محمد منكم وقاء. .. قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله فيسلم، ثم يقول: كيف تيكم، ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه ولم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: ما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله فسلم، ثم قال: كيف تيكم، فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله ، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا كثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان الله، أولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول الله بريرة، فقال: أي بريرة، هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول الله من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي، وهو على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما يدخل على أهلي إلا معي. قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيان الأوس، والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله يخفضهم، حتى سكتوا وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين ويوما، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله علينا فسلم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول الله حين جلس، ثم قال: أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه، قالت: فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول الله عني فيما قال: فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله فيما قال: قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت: وأنا جارية حديثة السن: لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ سورة يوسف: 18 ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: يا عائشة، أما الله فقد برأك. قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق: وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ - إلى قوله -﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سورة البقرة: 173، قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، قالت عائشة: وكان رسول الله سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: ماذا علمت، أو رأيت. فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع، قالت: وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت، فيمن هلك قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط» ثم قال عروة، قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله". أخرجه البخاري (4141)، مسلم (2778)، ولم يذكر رواية الصحيحين في أي غزوة كان ذلك. وفي مرجعهم من هذه الغزوة حاولت المنافقين إثارة الفتنة ووقع بين جهجاه بن مسعود وسنان بن وبر الجهني، وقال رأس المنافقين: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "كنا في غزاة - قال سفيان: مرة في جيش - فكسع رجل من المهاجرين، رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله بن أبي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي : دعه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد، قال سفيان: فحفظته من عمرو، قال عمرو: سمعت جابرا: كنا مع النبي ". أخرجه البخاري (4905)، مسلم (2584). ولم يذكر رواية الصحيحين في أي غزوة كانت هذه الحادثة، وورد عند أحمد أنها في غزوة بني المصطلق، قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله، يقول: "كنا مع رسول الله في غزوة - قال: يرون أنها غزوة بني المصطلق - فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار..." ثم ذكر الحديث. أحمد (23 /388) طبعة الرسالة رقم (15223)، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: "إسناده صحيح على شرط الشيخين". وفي هذه الغزوة صدق الله زيد بن أرقم وأظهر نفاق المنافقين. روى أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: "كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي، يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي أو لعمر، فذكره للنبي ، فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: ﴿إذا جاءك المنافقون﴾ المنافقون: 1، فبعث إلي النبي فقرأ فقال: إن الله قد صدقك يا زيد". أخرجه البخاري (4900)، مسلم (2772). وفي هذه الغزوة استفتى الصحابة رسول الله في العزل. روى محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، أنه قال: "دخلت المسجد، فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه، فسألته عن العزل، قال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيا من سبي العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل، فأردنا أن نعزل، وقلنا نعزل ورسول الله بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك، فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة". أخرجه البخاري (4138)، مسلم (1438). وفي هذه الغزوة هبت ريح شديدة لموت عظيم من المنافقين. روى أبي سفيان عن عن جابر، "أن رسول الله ، قدم من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت ريح شديدة تكاد أن تدفن الراكب فزعم، أن رسول الله ، قال: بعثت هذه الريح لموت منافق، فلما قدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين قد مات". أخرجه مسلم (2782). ولم يذكر حديث مسلم هذه في أي غزوة كانت الريح، وقد روى ابن إسحاق أنه: هبت على الناس ريح شديدة آذتهم وتخوفوها، فقال رسول الله : لا تخافوها، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار، فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت، أحد بني قينقاع، وكان عظيما من عظماء يهود، وكهفًا للمنافقين، مات في ذلك اليوم. "السيرة" لابن هشام (2 /292).

دروس وعِبَر

ذكر إبراهيم بن إبراهيم قريبي في كتابه "مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع" أحكاما مستنبطة من غزوة بني المصطلق، من ذلك: حكم الدعوة إلى الإسلام قبل بدء القتال. مشروعية قسمة الغنائم بين المقاتلين. صحة جمع العتق صداقًا. مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن. جواز خروج النساء في الغزوات وغيرها. ثبوت إقامة الحد على القاذفين. جواز استرقاق العرب. حكم من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه. حكم العزل. متى شرع التيمم. وذكر أيضا دروسًا وعبرًا مستقاة من الغزوة من ذلك: الحكمة في زواج الرسول من جويرية. تغلب الرسول على المشكلات التي صاحبت هذه الغزوة. إبراز بشرية الرسول . الوحي بيد الله يوحيه إلى رسوله متى شاء. الحكم في كون رسول الله لم يجزم ببراءة أهله كما جزم غيره من الصحابة. انظر: "مرويات غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع" لإبراهيم قريبي (ص 309- 360). ذكر العلماء لحادثة الإفك بخصوصه دروسا وعبرا كثيرة، من ذلك: جواز الحديث عن جماعة ملفقا مجملا. مشروعية القرعة حتى بين النساء، وفي المسافرة بهن، والسفر بالنساء حتى في الغزو. وجواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزلة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئا عند قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق وأن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم وتحصيل الأجر للموقوع فيه. وفيه استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام. وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة. وجواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير ولو كان ذلك مما يشق عليه حيث يكون مطيقا لذلك. وفيه خدمة الأجانب للمرأة من وراء الحجاب. وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن. وجواز توجه المرأة لقضاء حاجتها وحدها وبغير إذن خاص من زوجها، بل اعتمادا على الإذن العام المستند إلى العرف العام. وجواز تحلي المرأة في السفر بالقلادة ونحوها. وصيانة المال ولو قل، للنهي عن إضاعة المال، فإن عقد عائشة لم يكن من ذهب ولا جوهر. وفيه شؤم الحرص على المال، لأنها لو لم تطل في التفتيش لرجعت بسرعة، فلما زاد على قدر الحاجة أثر ما جرى، وقريب منه قصة المتخاصمين حيث رفع علم ليلة القدر بسببهما فإنهما لم يقتصرا على ما لا بد منه بل زاد في الخصام حتى ارتفعت أصواتهما فأثر ذلك بالرفع المذكور. وتوقف رحيل العسكر على إذن الأمير. واستعمال بعض الجيش ساقة يكون أمينا، ليحمل الضعيف ويحفظ ما يسقط وغير ذلك من المصالح. والاسترجاع عند المصيبة. وتغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي. وإغاثة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي القدر وإيثارهم بالركوب وتجشم المشقة لأجل ذلك. وحسن الأدب مع الأجانب خصوصا النساء لا سيما في الخلوة. والمشي أمام المرأة، ليستقر خاطرها وتأمن مما يتوهم من نظره لما عساه ينكشف منها في حركة المشي. وفيه ملاطفة الزوجة وحسن معاشرتها، والتقصير من ذلك عند إشاعة ما يقتضي النقص وإن لم يتحقق، وفائدة ذلك أن تتفطن لتغيير الحال فتعتذر أو تعترف. وأنه لا ينبغي لأهل المريض أن يعلموه بما يؤذي باطنه لئلا يزيد ذلك في مرضه. وفيه السؤال عن المريض وإشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة، فإذا كان السبب محققا فيترك أصلا، وإن كان مظنونا فيخفف، وإن كان مشكوكا فيه أو محتملا فيحسن التقليل منه، لا للعمل بما قيل، بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه، لأن ذلك من خوارم المروءة. وفيه أن المرأة إذا خرجت لحاجة تستصحب من يؤنسها أو يخدمها ممن يؤمن عليها. وفيه ذب المسلم عن المسلم، خصوصًا من كان من أهل الفضل وردع من يؤذيهم ولو كان منهم بسبيل. وبيان مزيد فضيلة أهل بدر، وإطلاق السب على لفظ الدعاء بالسوء على الشخص. وفيه البحث عن الأمر القبيح إذا أشيع وتعرف صحته وفساده بالتنقيب على من قيل فيه، هل وقع منه قبل ذلك ما يشبهه أو يقرب منه، واستصحاب حال من اتهم بسوء، إذا كان قبل ذلك معروفا بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك. وفيه فضيلة قوية لأم مسطح لأنها لم تحاب ولدها في وقوعه في حق عائشة، بل تعمدت سبه على ذلك. وفيه تقوية لأحد الاحتمالين في قوله عن أهل بدر أن الله قال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، وأن الراجح أن المراد بذلك أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة تفضيلا لهم على غيرهم بسبب ذلك المشهد العظيم، ومرجوحية القول الآخر أن المراد أن الله تعالى عصمهم فلا يقع منهم ذنب، نبه على ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به. وفيه مشروعية التسبيح عند سماع ما يعتقد السامع أنه كذب، وتوجيهه هنا أنه سبحانه وتعالى ينزه أن يحصل لقرابة رسول الله تدنيس، فيشرع شكره بالتنزيه في مثل هذا نبه عليه أبو بكر بن العربي. وفيه توقف خروج المرأة من بيتها على إذن زوجها ولو كانت إلى بيت أبويها. وفيه البحث عن الأمر المقول ممن يدل عليه المقول فيه، والتوقف في خير الواحد ولو كان صادقا، وطلب الارتقاء من مرتبة الظن إلى مرتبة اليقين، وأن خبر الواحد إذا جاء شيئا بعد شيء أفاد القطع، لقول عائشة: لأستيقن الخبر من قبلهما، وأن ذلك لا يتوقف على عدد معين. وفيه استشارة المرء أهل بطانته ممن يلوذ به بقرابة وغيرها، وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب، والبحث عن حال من اتهم بشيء وحكاية ذلك للكشف عن أمره ولا يعد ذلك غيبة. وفيه استعمال لا نعلم إلا خيرا في التزكية، وأن ذلك كاف في حق من سبقت عدالته ممن يطلع على خفي أمره. وفيه التثبت في الشهادة، وفطنة الإمام عند الحادث المهم، والاستنصار بالأخصاء على الأجانب، وتوطئة العذر لمن يراد إيقاع العقاب به، أو العتاب له، واستشارة الأعلى لمن هو دونه، واستخدام من ليس في الرق، وأن من استفسر عن حال شخص فأراد بيان ما فيه من عيب فليقدم ذكر عذره في ذلك إن كان يعلمه، كما قالت بريرة في عائشة حيث عاتبها بالنوم عن العجين فقدمت قبل ذلك أنها جارية حديثة السن وفيه أن النبي كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي، لأنه لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي، نبه عليه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة نفع الله به. وأن الحمية لله ورسوله لا تذم. وفيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان ولعلي بن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وفيه أن التعصب لأهل الباطل يخرج عن اسم الصلاح. وجواز سب من يتعرض للباطل ونسبته إلى ما يسوءه، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه، لكن إذا وقع منه ما يشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه تغليظا له. وإطلاق الكذب على الخطأ والقسم بلفظ لعمر الله. وفيه الندب إلى قطع الخصومة، وتسكين ثائرة الفتنة وسد ذريعة ذلك، واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما. وفضل احتمال الأذى. وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريبا حميما. وفيه أن من آذى النبي بقول أو فعل يقتل، لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي عليه وسلم. وفيه مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع والبكاء والحزن. وفيه تثبت أبي بكر الصديق في الأمور، لأنه لم ينقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرا كلمة فما فوقها إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال: والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزانا الله بالإسلام، وقع ذلك في حديث بن عمر عند الطبراني. وفيه ابتداء الكلام في الأمر المهم بالتشهد والحمد والثناء وقول أما بعد. وتوقيف من نقل عنه ذنب على ما قيل فيه بعد البحث عنه، وأن قول كذا وكذا يكنى بها عن الأحوال كما يكنى بها عن الأعداد ولا تختص بالأعداد. وفيه مشروعية التوبة، وأنها تقبل من المعترف المقلع المخلص، وأن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها، وأن الاعتراف بما لم يقع لا يجوز، ولو عرف أنه يصدق في ذلك، ولا يؤاخذ على ما يترتب على اعترافه، بل عليه أن يقول الحق أو يسكت. وأن الصبر يحمد عاقبته ويغبط صاحبه. وفيه تقديم الكبير في الكلام، وتوقف من اشتبه عليه الأمر في الكلام. وفيه تبشير من تجددت له نعمة أو اندفعت عنه نقمة. وفيه الضحك والفرح والاستبشار عند ذلك. ومعذرة من انزعج عند وقوع الشدة لصغر سن ونحوه. وإدلال المرأة على زوجها وأبويها. وتدريج من وقع في مصيبة فزالت عنه، لئلا يهجم على قلبه الفرح من أول وهلة فيهلكه، يؤخذ ذلك من ابتداء النبي بعد نزول الوحي ببراءة عائشة بالضحك ثم تبشيرها ثم إعلامها ببراءتها مجملة ثم تلاوته الآيات على وجهها، وقد نص الحكماء على أن من اشتد عليه العطش لا يمكن من المبالغة في الري في الماء، لئلا يفضي به ذلك إلى الهلكة، بل يجرع قليلا قليلا. وفيه أن الشدة إذا اشتدت أعقبها الفرج. وفضل من يفوض الأمر لربه، وأن من قوي على ذلك خف عنه الهم والغم، كما وقع في حالتي عائشة قبل استفسارها عن حالها وبعد جوابها بقولها والله المستعان. وفيه الحث على الإنفاق في سبيل الخير خصوصا في صلة الرحم ووقوع المغفرة لمن أحسن إلى من أساء إليه أو صفح عنه. وأن من حلف أن لا يفعل شيئا من الخير استحب له الحنث. وجواز الاستشهاد بآي القرآن في النوازل. والتأسي بما وقع للأكابر من الأنبياء وغيرهم. وفيه التسبيح عند التعجب واستعظام الأمر. وذم الغيبة وذم سماعها وزجر من يتعاطاها لا سيما إن تضمنت تهمة المؤمن بما لم يقع منه. وذم إشاعة الفاحشة. وتحريم الشك في براءة عائشة. وفيه تأخير الحد عمن يخشى من إيقاعه به الفتنة. واستدل به أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب القضاء على منع الحكم حالة الغضب لما بدا من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة من قول بعضهم لبعض حالة الغضب حتى كادوا يقتتلون قال فإن الغضب يخرج الحليم المتقي إلى ما لا يليق به فقد أخرج الغضب قوما من خيار هذه الأمة بحضرة رسول الله إلى مالا يشك أحد من الصحابة أنها منهم زلة إلى آخر كلامه في ذلك. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8 /479- 481)، وكذا انظر إلى "زاد المعاد" لابن القيم (3 /232- 240). ذكر ابن حجر فوائد مستنبطة من حديث عبد الله بن أبي وإثارته الفتنة بين المهاجرين والأنصار، من ذلك: ترك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات لئلا ينفر أتباعهم. وفيه الاقتصار على معاتباتهم، وقبول أعذارهم، وتصديق أيمانهم، وإن كانت القرائن ترشد إلى خلاف ذلك، لما في ذلك من التأنيس والتأليف. وفيه جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يعد نميمة مذمومة إلا إن قصد بذلك الإفساد المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة ترجح على المفسدة فلا. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8 /646).

مسائل متعلقة

جواب إشكال حول مباغتة النبي لبني المصطلق

وحاصل هذا الإشكال أنه" أن رواية الصحيحين تشعر بأن رسول الله باغت القوم وهم غارّون ما عرضت عليهم دعوة الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوص، ولا عرف من أحوالهم ما يقلق! وقتال يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكر في منطق الإسلام، مستبعد في سيرة رسوله . ومن ثمّ رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو. وسكنت نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير.. فهو على ضعفه- الذي كشفه الأستاذ الشيخ ناصر- يتفق مع قواعد الإسلام المتيقّنة، أنه لا عدوان إلا على الظالمين. أما الغارّون الوادعون فإنّ اجتياحهم لا مساغ له. وحديث الصحيحين في هذا لا موضع له إلا أن يكون وصفا لمرحلة ثانية من القتال، بأن يكون أخذ القوم عن غرّة جاء بعد ما وقعت الخصومة بينهم وبين المسلمين، وأمسى كلا الفريقين يبيّت للاخر، ويستعدّ للنيل منه. فانتهز المسلمون فرصة من عدوهم- والحرب خدعة- وأمكنهم الغلب عليهم وهم غارّون. وفي هذه الحالة لا بدّ من التمهيد لرواية البخاري ومسلم، بكلام يشبه ما نقله ابن جرير ووهّنه فيه الشيخ ناصر". "فقه السيرة" للغزالي (ص 12). والجواب عن هذا الإشكال من وجوه: صحة حديث ابن عمر وصراحته في ذلك الوارد في الصحيحين والسنن والمسانيد وغيرها، فلا يرده رأي يراه أي إنسان أو قول يحب أن ينصره. صرح كثير من العلماء بأن من بلغته الدعوة العامة إلى الإِسلام وقربت داره، أو حاول النيل من المسلمين أنه يجوز مباغتته على غرة. أن المستند الذي استُنِد عليه لم تثبت صحته، في أثناء ذكره لسياق حديث غزوة بني المصطلق، وهو لا يقاوم الحديث الصحيح المسند المتفق على صحته إن كان صحيحًا فما بالك وهو ضعيف. ذكر الدكتور أكرم ضياء العمري أنه "لا يمكن معارضة آية قرآنية أو حديث صحيح برواية من كتب التاريخ أو الأدب، فلابد إذًا من تقويم هذه المصادر ووضعها في الموضع الذي تستحق". "السيرة النبوية الصحيحة" للعمري (1 /47). وقال في موطن آخر: "ولا شك أن مادة السيرة في كتب الحديث موثقة يجب الاعتماد عليها، وتقديمها على روايات كتب المغازي والتواريخ العامة، وخاصة إذا أوردتها كتب الحديث الصحيحة؛ لأنها ثمرة جهود جبارة قدمها المحدثون عند تمحيص الحديث ونقده سندًا ومتنًا. وهذا التدقيق والنقد الذي حظي به الحديث، لم تحظ به الكتب التاريخية". "السيرة النبوية الصحيحة" للعمري (1 /50). انظر: "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 248- 249).

هل نزلت آية التيمم في هذه الغزوة؟

وذكر بعضهم أنه نزل في هذه الغزوة آية التيمم. قال ابن سعد: "وفي هذه الغزاة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه، فنزلت آية التيمم، فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر". "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /65). وقصة نزول آية التيمم قد ورد بتمامها عند البخاري وفيه قالت عائشة رضي الله عنها زوج النبي : "خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي، فأقام رسول الله على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله وبالناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟ فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله على فخذي، فقام رسول الله حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فإذا العقد تحته. أخرجه البخاري (4607). ولم يذكر الحديث في أي غزوة كانت، كما لم يذكر وقتها، لذا قال ابن حجر في شرحه للحديث: " (في بعض أسفاره): قال ابن عبد البر: يقال إنه في غزاة بني المصطلق، وجزم بذلك وسبقه إلى ذلك ابن سعد وابن حبان. وغزاة بني المصطلق هي غزوة المريسيع، وفيها وقعت قصة الإفك لعائشة رضي الله عنها، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها أيضا"، وأزال الإشكال بأن جعلهما حادثتين في غزوة واحدة، فقال: "فإن كان ما جزموا به ثابتا حمل على أنه سقط منها في تلك السفرة مرتين لاختلاف القصتين كما هو مبيَّن في سياقهما". "فتح الباري" لابن حجر (1 /432). وخرج له ابن القيم مخرجًا آخر، حيث عقب على هذه الحادثة، وأورد رواية الطبراني في " معجمه " من حديث محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: "ولما كان من أمر عقدي ما كان، قال أهل الإفك ما قالوا، فخرجت مع النبي في غزاة أخرى، فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس، ولقيت من أبي بكر ما شاء الله، وقال لي: يا بنية في كل سفر تكونين عناء وبلاء، وليس مع الناس ماء، فأنزل الله الرخصة في التيمم". ثم قال: "وهذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة، وهو الظاهر، ولكن فيها -أي في غزوة بني المصطلق- كانت قصة الإفك، بسبب فقد العقد والتماسه، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى"، ثم ذكر قصة الإفك. "زاد المعاد" لابن القيم (3 /231- 232).