البحث

عبارات مقترحة:

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

المبين

كلمة (المُبِين) في اللغة اسمُ فاعل من الفعل (أبان)، ومعناه:...

غزوة الحديبية

خرج رسول الله في ذي القعدة سنة ست من الهجرة يريد زيارة البيت، وساق معه الهدي، وأحرم من ذي الحليفة، فلما سمعت قريش بذلك فزعت وجمعت الجموع لحربه، وسار المسلمون فلما كانوا ببعض الطريق بركت برسول الله راحلته القصواء، فرجع بها حتى نزل بأقصى الحديبية، وبعث عثمان بن عفان إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، ولكن قريش احتبسته، فتأخر عثمان في الرجوع إلى المسلمين، وبلغ المسلمون أنه قُتِل، فدعا رسول الله الصحابة إلى البيعة تحت الشجرة، فبايعوه على قتال المشركين وعلى ألا يفروا، و هي بيعة الرضوان . ولما فهمت قريش عن رسول الله قصده أرسلت وفودا إلى رسول الله تفاوضه، فكان منهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، ثم عروة بن مسعود الثقفي، ثم رجل من بني كنانة، ثم مكرز بن حفص، حتى انتهى أمرهم إلى سهيل بن عمرو، وكتب رسول الله معه صلح الحديبية؛ على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها، فأقام بها ثلاثا، وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابك لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا. فلما فرغ رسول الله من قضية الكتاب حلق ونحر هديه، فقام الصحابة رضي الله عنهم فحلقوا ونحروا، ثم رجع رسول الله إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه سورة الفتح.

اسمها

غزوة الحديبية

وقتها

كانت غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من مقدم رسول الله المدينة، وهذا هو الصحيح، وهو قول الزهريّ، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق وغيرهم، وهذا هو رأي الجمهور في ذلك. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7 /440)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /255)، "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 298). وقد جاء التصريح بذلك في حديث أنس وعائشة والبراء بن عازب أن رسول الله ما اعتمر إلا في ذي القعدة. روى قتادة، أن أنسًا رضي الله عنه أخبره، قال: "اعتمر رسول الله أربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته". أخرجه البخاري (4148)، مسلم (1253). وقد شذ عن الجمهور عروة بن الزبير، فيما روى عنه ابنه هشام بن عروة قال: "خرج رسول الله إلى الحديبية في رمضان، واعتمر في شوال". انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7 /440). قال ابن كثير: "وهذا غريب جدًّا عن عروة". "السيرة" ابن كثير (3 /312). وقال ابن القيم فيما ذهب إليه عروة: "وهذا وهم، وإنما كانت غزاة الفتح في رمضان، وقد قال أبو الأسود عن عروة: إنها كانت في ذي القعدة، على الصواب". "زاد المعاد" لابن القيم (3 /255).

موقعها

بايع رسول الله الصحابة في الحُدَيْبِيَةُ، وكذا عقد الصلح مع سهيل بن عمرو فيها. والحُدَيْبِيَةُ؛ بضم الحاء وفتح الدال وياء ساكنة، وباء موحدة مكسورة، وياء؛ اختلفوا فيها، فمنهم من شددها ومنهم من خففها، فروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: الصواب تشديد الحديبية وتخفيف الجعرانة، وأخطأ من نصّ على تخفيفها، وقيل: كلّ صواب، أهل المدينة يثقلونها وأهل العراق يخففونها: قرية متوسطة ليست بالكبيرة، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله تحتها، وفي الحديث: أنها بئر، وبين الحديبية ومكة مرحلة، وبينها وبين المدينة تسع مراحل. وقال الخطابي في أماليه: سميت الحديبية بشجرة حدباء كانت في ذلك الموضع، وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم، وهو أبعد الحل من البيت وليس هو في طول الحرم ولا في عرضه بل هو في مثل زاوية الحرم، فلذلك صار بينها وبين المسجد أكثر من يوم. انظر: "معجم البلدان" للحموي (2 /229).

عدد المسلمين

اختلفت الروايات في عدد المسلمين مع رسول الله يوم الحديبية على أقوال كثيرة، ومنها ثلاثة وردت في الصحيح، وهذه الأقوال هي: القول الأول: أنهم كانوا ألفًا وثلاثمائة. ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: "كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاث مائة، وكانت أسلم ثمن المهاجرين". أخرجه البخاري (4155)، مسلم (1857). القول الثاني: أنهم كانوا ألفًا وأربعمائة. ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: "قال لنا رسول الله يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفا وأربع مائة". أخرجه البخاري (4154)، مسلم (1856). ومن حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عند البخاري قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي أربع عشرة مائة…" أخرجه البخاري (4150). وفي رواية أخرى للبراء بن عازب رضي الله عنهما: "أنهم كانوا مع رسول الله يوم الحديبية ألفا وأربع مائة أو أكثر…" أخرجه البخاري (4151). القول الثالث: أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة. ففي الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنهما، قال سالم: "فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة". أخرجه البخاري (4152)، مسلم (1856). وروى سعيد، عن قتادة، قلت لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: "كانوا أربع عشرة مائة، فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة، الذين بايعوا النبي يوم الحديبية". أخرجه البخاري (4153). وقد حرر ابن حجر الخلاف بين الأقوال وبيّن مذاهب العلماء في توفيقهم بين الأقوال أو الترجيح بين أحدها، فقال: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال ألفًا وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفًا وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: وألفًا وأربعمائة أو أكثر، واعتمد هذا الجمع النووي، وأما البيهقي فمال إلى الترجيح، وقال: إن رواية من قال ألف وأربعمائة أصح، ثم ساقه من طريق أبي الزبير ومن طريق أبي سفيان كلاهما عن جابر كذلك، ومن رواية معقل بن يسار وسلمة بن الأكوع، والبراء بن عازب. ومن طريق قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه. قلت -ابن حجر-: ومعظم هذه الطرق عند مسلم، ووقع عند ابن سعد في حديث معقل ابن يسار زهاء ألف وأربعمائة وهو ظاهر في عدم التحديد، وأما قول عبد الله بن أبي أوفى ألفًا وثلاثمائة فيمكن حمله على ما اطلع هو عليه، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة، او العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة، والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك، أو العدد الذي ذكره هو عدد المقاتلة والزيادة عليها من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم. وأما قول ابن إسحاق أنهم كانوا سبعمائة فلم يوافق عليه، لأنه قاله استنباطًا من قول جابر: نحرنا البدنة عن عشرة، وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم لم ينحروا غير البدن، مع أن بعضهم لم يكن أحرم أصلًا. وسيأتي في هذا الباب في حديث المسور ومروان أنهم خرجوا مع النبي بضع عشرة مائة، فيجمع أيضًا بأن الذين بايعوا كانوا كما تقدم، وما زاد على ذلك كانوا غائبين عنها كمن توجه مع عثمان إلى مكة، على أن لفظ البضع يصدق على الخمس والأربع فلا تخالف. وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفًا وستمائة، وفي حديث سلمة بن الأكوع عند ابن أبي شيبة ألفًا وسبعمائة، وحكى ابن سعد أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين، وهذا إن ثبت تحرير بالغ، ثم وجدته موصولًا عن ابن عباس عند ابن مردويه، وفيه رد على ابن دحية حيث زعم أن سبب الاختلاف في عددهم أن الذي ذكر عددهم لم يقصد التحرير وإنما ذكره بالحدس والتخمين، والله أعلم". "فتح الباري" لابن حجر (7 /440- 441). وقال ابن القيم بعد أن بين الأقوال في المسألة: "وقد صح عن جابر القولان، وصح عنه أنهم نحروا عام الحديبية سبعين بدنة، البدنة عن سبعة، فقيل له: كم كنتم؟ قال: ألفا وأربعمائة بخيلنا ورجلنا. يعني فارسهم وأرجلهم، والقلب إلى هذا أميل، وهو قول البراء بن عازب ومعقل بن يسار وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين". "زاد المعاد" لابن القيم (3 /255).

عدد المشركين

قائد المسلمين

رسول الله

سببها

خرج رسول الله عام الحديبية إلى مكة يريد زيارة البيت، لا يريد قتالا.

أحداثها

أحرم رسول الله بالعمرة وقلد هديه من ذي الحليفة، وبعث عينا له من خزاعة إلى قريش، ولما سمعت قريش بخروجه استعدت لمحاربته. روى عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، قالا: "خرج النبي عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، وسار النبي حتى كان بغدير الأشطاط أتاه عينه، قال: إن قريشا جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت، ومانعوك، فقال: أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامدا لهذا البيت، لا تريد قتل أحد، ولا حرب أحد، فتوجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: امضوا على اسم الله". أخرجه البخاري (4178). فبدؤوا المسير، حتى إذا كانوا ببعض الطريق اعترض خالد بن الوليد طريق المسلمين، فغير النبي مساره: روى المسور بن مخرمة ومروان، قالا: "خرج رسول الله زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبي : إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي : ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء". أخرجه البخاري (4178). وفزعت قريش لنزول رسول الله عليهم، فأحب رسول الله أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله، ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت. فدعا رسول الله عثمان بن عفان فأرسله إلى قريش، وكان قبل ذلك أرسل خراش بن أمية الخزاعي إليهم. ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان عند أحمد: "وقد كان رسول الله قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة، وحمله على جمل له يقال له: الثعلب، فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش، فمنعهم الأحابيش، حتى أتى رسول الله ، فدعا عمر ليبعثه إلى مكة، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بها من بني عدي أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها، وغلظتي عليها، ولكن أدلك على رجل هو أعز مني عثمان بن عفان. قال: فدعاه رسول الله ، فبعثه إلى قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه جاء زائرا لهذا البيت، معظما لحرمته، فخرج عثمان حتى أتى مكة، ولقيه أبان بن سعيد بن العاص، فنزل عن دابته وحمله بين يديه، وردف خلفه، وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله ما أرسله به، فقالوا لعثمان: إن شئت أن تطوف بالبيت، فطف به. فقال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله . قال: فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قد قتل". أخرجه أحمد (18910)، 31 /212- 216، طبعة الرسالة، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: " إسناده حسن، محمد بن إسحاق، وإن كان مدلسا وقد عنعن إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث، فانتفت شبهة تدليسه، ثم إنه قد توبع… وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين". ولما بلغ رسول الله أن عثمان رضي الله عنه قد قُتِل، دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، وعلى ألا يفروا. قال ابن القيم: "واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم، وبلغ رسول الله أن عثمان قد قتل، فدعا إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله وهو تحت الشجرة فبايعوه على ألا يفروا، فأخذ رسول الله بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان". فبايع رسول الله نفسه عن عثمان رضي الله عنه. قال أبو عوانة: حدثنا عثمان هو ابن موهب، قال: "جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: الله أكبر، قال: ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله ، وكانت مريضة، فقال له رسول الله : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده، فقال: هذه لعثمان. فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك". أخرجه البخاري (3698). وقام معقل بن يسار برفع أغصان الشجرة لئلا تصطدم بالرسول . قال معقل بن يسار: "لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر". أخرجه مسلم (1858). وكان أول من بايع أبو سنان الأسدي. قال ابن حجر: "أخرج الحاكم أبو أحمد من طريق عاصم الأحول عن الشعبي قال: "أتاني عامري وأسدي يعني كانا متفاخرين، فقلت: كان لبني أسد ست خصال ما كانت لحي من العرب أول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان عبد الله بن وهب الأسدي قال: يا رسول الله ابسط يدك أبايعك قال: على ماذا؟ قال: على ما في نفسي. قال: فتح وشهادة. قال: نعم، فبايعه قال: فخرج الناس يبايعون على بيعة أبي سنان". "الإصابة" لابن حجر (4 /96). ولم يتخلف عن البيعة إلا الجد بن قيس: قال ابن جريج: "أخبرني أبو الزبير، سمع جابرا يسأل، كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشرة مائة، فبايعناه، وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، فبايعناه غير جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، اختبأ تحت بطن بعيره". أخرجه مسلم (1856). وبايع سلمة بن الأكوع لرسول الله ثلاث مرات في أول الناس وأوسطهم وآخرهم. ففي حديث سلمة بن الأكوع الطويل: "... قال: ثم إن رسول الله دعانا للبيعة في أصل الشجرة، قال: فبايعته أول الناس، ثم بايع، وبايع، حتى إذا كان في وسط من الناس، قال: بايع يا سلمة، قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، قال: وأيضا، قال: ورآني رسول الله عزلا - يعني ليس معه سلاح -، قال: فأعطاني رسول الله حجفة - أو درقة -، ثم بايع، حتى إذا كان في آخر الناس، قال: ألا تبايعني يا سلمة؟ قال: قلت: قد بايعتك يا رسول الله في أول الناس، وفي أوسط الناس، قال: وأيضا، قال: فبايعته الثالثة، ثم قال لي: يا سلمة، أين حجفتك - أو درقتك - التي أعطيتك؟ قال: قلت: يا رسول الله، لقيني عمي عامر عزلا، فأعطيته إياها، قال: فضحك رسول الله ، وقال: إنك كالذي قال الأول: اللهم أبغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي". أخرجه مسلم (1807). واختلفت الأقوال عن الصحابة رضي الله عنهم فيما بايع عليه رسول الله الناس يوم الحديبية، فنقل عنهم في ذلك ثلاثة أقوال، وهي: القول الأول: قالوا بايعنا على الموت، وهو قول سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد بن عاصم. روى يزيد بن أبي عبيد، قال: "قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شيء بايعتم رسول الله يوم الحديبية؟ قال: على الموت". أخرجه البخاري (4169)، مسلم (1860). وروى عمرو بن يحيى، عن عباد بن تميم، قال: "لما كان يوم الحرة، والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن زيد: على ما يبايع ابن حنظلة الناس؟ قيل له: على الموت، قال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله ، وكان شهد معه الحديبية". أخرجه البخاري (4167)، مسلم (1861). القول الثاني: قالوا أنه بايعوه على عدم الفرار، وهو قول جابر بن عبد الله ومعقل بن يسار. قال جابر: "كنا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة، فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة، وهي سمرة، وقال: بايعناه على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت". أخرجه مسلم (1856). وقال معقل بن يسار: "لقد رأيتني يوم الشجرة، والنبي يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر". أخرجه مسلم (1858). القول الثالث: أنهم بايعوه على الصبر، وقد جاء هذا من حديث ابن عمر. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله، فسألت نافعا: على أي شيء بايعهم، على الموت؟ قال: لا، بل بايعهم على الصبر". أخرجه البخاري (2958). قال إبراهيم العلي: "إن رسول الله تكررت منه البيعة للصحابة رضوان الله عليهم في مواطن عديدة كان هذا الموطن من بينها، فتارة كان يبايع الصحابة على الجهاد كما حصل يوم الخندق، وتارة على الإِسلام والجهاد كما حصل مع مجاشع بن مسعود يوم فتح مكة، وتارة على النصح لكل مسلم كما حصل مع جرير بن عبد الله البجلي، وتارة على عدم الفرار، وعلى الموت، وعلى الصبر كما حصل يوم الحديبية فقد بايع قسمًا من الصحابة على عدم الفرار، والآخرون على الموت، وقسم على الصبر". "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 298). وقد ذهب أكثر العلماء إلى التوفيق بين هذه الأقوال، وبينوا أنها تقبل الجمع. يقول الإِمام النووي: "قوله في رواية جابر ومعقل بن يسار بايعناه يوم الحديبية على أن لا نفر، ولم نبايعه على الموت، في رواية سلمة: أنهم بايعوه يومئذ على الموت، وهو معنى رواية عبد الله بن زيد بن عاصم، وفي رواية مجاشع بن مسعود: البيعة على الهجرة والبيعة على الإِسلام والجهاد، وفي حديث ابن عمر وعبادة بايعنا على السمع والطاعة، وأن لا ننازع الأمر أهله، وفي رواية ابن عمر في غير صحيح مسلم: البيعة على الصبر، قال العلماء: هذه الرواية تجمع المعاني كلها، وتبين مقصود كل الروايات، فالبيعة على أن لا تفر معناه الصبر حتى نظفر بعدونا أو نقتل، وهو معنى البيعة على الموت، أي نصبر وإن آل بنا ذلك إلى الموت، لا إن الموت مقصود في نفسه، وكذا البيعة على الجهاد أي والصبر فيه والله أعلم". "شرح النووي على مسلم" (13 /2-3). وقال ابن حجر: "إن المبايعة فيها مطلقة، وقد أخبر سلمة بن الأكوع، وهو ممن بايع تحت الشجرة أنه بايع على الموت، فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد، وهو الذي أنكره نافع وعدل إلى قوله: بل بايعهم على الصبر، أي على الثبات وعدم الفرار سواء أفضى بهم ذلك إلى الموت أم لا، والله أعلم". (6 /118). ويقول في موطن آخر: "وحاصل الجمع أن من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها؛ لأنه إذا بايع على أن لا يفر لزم من ذلك أن يثبت، والذي يثبت إما أن يغلب وإما أن يؤسر، والذي يؤسر إما أن ينجو وإما أن يموت، ولما كان الموت لا يؤمن في مثل ذلك أطلقه الراوي، وحاصله أن أحدهما حكى صورة البيعة، والآخر حكى ما تؤول إليه". (7 /450). وقال الإِمام الترمذي: "ومعنى كلا الحديثين صحيح، قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: لا نزال بين يديك حتى نقتل وبايعه آخرون، فقالوا: لا نفر". قاله الترمذي في سننه في تعليقه على الحديث رقم (1593). ثم أقبلت الوفود للمفاوضة مع رسول الله ، فبعثت قريش أول ما بعثت بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، ثم خرج إلى رسول الله عروة بن مسعود الثقفي، ثم أتى إليهم رجل من بني كنانة يفاوضهم، ثم مكرز بن حفص، حتى انتهى أمرهم إلى سهيل بن عمرو، وكتب المسلمون معه صلح الحديبية. وأحداث ذلك في حديث المسور بن مخرمة ومروان الطويل، حيث قالا: "فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية، ومعهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله : إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا، فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشا، قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء، وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا، فحدثهم بما قال النبي ، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد، اقبلوها ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه، فجعل يكلم النبي ، فقال النبي نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى، فإني والله لأرى وجوها، وإني لأرى أوشابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر الصديق: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك، قال: وجعل يكلم النبي ، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي ، ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي ضرب يده بنعل السيف، وقال له: أخر يدك عن لحية رسول الله ، فرفع عروة رأسه، فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي غدر، ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي : أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي بعينيه، قال: فوالله ما تنخم رسول الله نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة : دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي وأصحابه، قال رسول الله : هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها له، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه، قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال: دعوني آتيه، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم، قال النبي : هذا مكرز، وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي : لقد سهل لكم من أمركم. قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا فدعا النبي الكاتب، فقال النبي : بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن، فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي : اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي : والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، فقال له النبي : على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به، فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي : إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدا، قال النبي : فأجزه لي، قال: ما أنا بمجيزه لك، قال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله فقلت: ألست نبي الله حقا، قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل، قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام، قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله ، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، - قال الزهري: قال عمر -: فعملت لذلك أعمالا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله، أتحب ذلك، اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة، حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاءه نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ سورة الممتحنة: 10، حتى بلغ ﴿بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ﴾ سورة الممتحنة: 10، فطلق عمر يومئذ امرأتين، كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت به، ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال النبي : ويل أمه مسعر حرب، لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي تناشده بالله والرحم، لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي إليهم، فأنزل الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ ۚ﴾ سورة الفتح: 24، حتى بلغ ﴿الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ سورة الفتح: 26، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت". قال أبو عبد الله البخاري: "معرة العر: الجرب، تزيلوا: تميزوا، وحميت القوم: منعتهم حماية، وأحميت الحمى: جعلته حمى لا يدخل، وأحميت الحديد وأحميت الرجل: إذا أغضبته إحماء". أخرجه البخاري (2731). وقد صرح ابن إسحاق في روايته باسم ذلك الرجل الذي من بني كنانة، بإسناد صحيح، قال ابن إسحاق: "... ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة أو ابن زبان، وكان يومئذ سيد الأحابيش، وهو أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله قال: إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش، ولم يصل إلى رسول الله إعظامًا لما رأى فقال لهم ذلك. قال: فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك. قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر: أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيصد عن بيت الله من جاء معظمًا له! والذي نفس الحليس بيده، لتخلن بين محمَّد وبين ما جاء له، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد، قال: فقالوا له: صه، كف عنا يا حيس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى". "السيرة" لابن هشام (3 /312) قال ابن القيم: "وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامه ذلك، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثا، وأن لا يدخلها إلا بسلاح الراكب والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابك لم نرده عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال". "زاد المعاد" لابن القيم (3 /266). ففي حديث مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة: "أنه لما كاتب رسول الله سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة، وكان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه قال: لا يأتيك منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله إلا على ذلك، فكره المؤمنون ذلك وامعضوا، فتكلموا فيه، فلما أبى سهيل أن يقاضي رسول الله إلا على ذلك، كاتبه رسول الله ، فرد رسول الله أبا جندل بن سهيل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأت رسول الله أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلما، وجاءت المؤمنات مهاجرات، فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله ، وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رسول الله أن يرجعها إليهم، حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل". أخرجه البخاري (4180). وكان كاتب الصلح يوم الحديبية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد جاء ذكر ذلك عن عدد من الصحابة، منهم: حديث البراء بن عازب في الصحيحين، وفي حديث أنس عند مسلم، وفي حديث المسور ابن مخرمة ومروان بن الحكم عند أحمد وأبي داود، وغيرهم. قال البراء بن عازب: "لما صالح رسول الله أهل الحديبية، كتب علي بن أبي طالب بينهم كتابا، فكتب محمد رسول الله، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسولا لم نقاتلك، فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه رسول الله بيده، وصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلوها إلا بجلبان السلاح، فسألوه ما جلبان السلاح؟ فقال: القراب بما فيه". أخرجه البخاري (2698)، ومسلم (1783). وفي رواية أخرى: "... فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فأمر عليا أن يمحاها، فقال علي: لا والله، لا أمحاها، فقال رسول الله : أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها، وكتب ابن عبد الله". أخرجه مسلم (1783) روى ثابت، عن أنس: "أن قريشا صالحوا النبي فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي لعلي: اكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم، فقال: اكتب من محمد رسول الله، قالوا: لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي : اكتب من محمد بن عبد الله، فاشترطوا على النبي أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا". أخرجه مسلم (1784). وكان الصلح قد آذى جمعا من المسلمين منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. روى حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، قال: "قام سهل بن حنيف يوم صفين، فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب، فأتى رسول الله ، فقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع، ولما يحكم الله بيننا وبينهم، فقال: يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا، قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: يا ابن الخطاب، إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا، قال: فنزل القرآن على رسول الله بالفتح، فأرسل إلى عمر، فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: نعم، فطابت نفسه ورجع". أخرجه البخاري (2731)، ومسلم (1785)، واللفظ لمسلم. ثم رجع رسول الله إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه سورة الفتح. روى قتادة، أن أنس بن مالك حدثهم، قال: "لما نزلت: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا* لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ سورة الفتح: 2، إلى قوله ﴿فَوْزًا عَظِيمًا﴾ سورة الفتح: 5، مرجعه من الحديبية، وهم يخالطهم الحزن والكآبة، وقد نحر الهدي بالحديبية، فقال: لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا". أخرجه مسلم (1786).

نتيجتها

لم يتمكن الرسول وأصحابه من أداء العمرة عام الحديبية، وإنما حلوا من إحرامهم ونحروا هديهم، وخرجوا لعمرتهم في العام المقبل. كتب الرسول بينه وبين قريش صلحا، ووضعوا له بنودا وشروطا لمدة عشرة أعوام. كانت شروط الصلح قاسيا شديدا على المسلمين، ولكنها أسفرت عن فتح بشره الله عزوجل لهم عند رجوعهم إلى المدينة. اعترفت قريش مُكْرَهًا على اعتبار الرسول وأصحابه طرفا لها قوة ومكانة وقدر، وأنها دولة إسلامية اضطرت إلى عقد الصلح معها. دخلت خزاعة في حلف رسول الله وعقده. استراح الرسول وأصحابه من الحروب، ووجهوا جهودهم نحو الدعوة إلى الإسلام، وغيرها من الأمور. أصبح طرف آخر للمسلمين تهاجم قريش وتجارتها وتحاربها، وتبث الرعب فيها.

أحداث متعلقة

كان في هذه الغزوة معجزات كثيرة للرسول من تكثير الطعام والشراب ببركته : ففي حديث المسور بن مخرمة ومروان قالا: "فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء، يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه". وكذلك روى البراء رضي الله عنه، قال: "تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع النبي أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي فأتاها، فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا". أخرجه البخاري (4150). وفي رواية أخرى قال: "ثم قال: ائتوني بدلو من مائها، فأتي به، فبصق فدعا، ثم قال: دعوها ساعة، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا". أخرجه البخاري (4151). وفي حديث إياس بن سلمة بن الأكوع قال: حدثني أبي قال: "قدمنا الحديبية مع رسول الله ونحن أربع عشرة مائة، وعليها خمسون شاة لا ترويها، قال: فقعد رسول الله على جبا الركية، فإما دعا، وإما بصق فيها، قال: فجاشت، فسقينا واستقينا". أخرجه مسلم (1807). وروى جابر رضي الله عنه، قال: "عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله بين يديه ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله : ما لكم؟ قالوا يا رسول الله: ليس عندنا ماء نتوضأ به ولا نشرب، إلا ما في ركوتك، قال: فوضع النبي يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون". أخرجه البخاري (4152). وفي حديث إياس بن سلمة عن أبيه، قال: "خرجنا مع رسول الله في غزوة، فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي الله فجمعنا مزاودنا، فبسطنا له نطعا، فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحزره كم هو؟ فحزرته كربضة العنز، ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جربنا، فقال نبي الله : فهل من وضوء؟ قال: فجاء رجل بإداوة له فيها نطفة، فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية، فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله : فرغ الوضوء". أخرجه البخاري (2484)، ومسلم (1729)، واللفظ لمسلم. عدم صحة قول من قال: أن ابن عمر أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما! وإنما الصحيح في ذلك أن ابن عمر سبق والده عمر بن الخطاب في البيعة لرسول الله يوم الحديبية ولم يكن تأخر عمر في البيعة لرسول الله تهاونا منه، وإنما لتأخر علمه بحصول البيعة، وكان يجهز أسلحته وأمتعته للقتال: قال نافع: "إن الناس يتحدثون أن ابن عمر، أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار، يأتي به ليقاتل عليه، ورسول الله يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس، فجاء به إلى عمر، وعمر يستلئم للقتال، فأخبره أن رسول الله يبايع تحت الشجرة، قال: فانطلق، فذهب معه حتى بايع رسول الله ، فهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر". أخرجه البخاري (4186). وفي رواية أخرى من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، " أن الناس كانوا مع النبي يوم الحديبية تفرقوا في ظلال الشجر، فإذا الناس محدقون بالنبي ، فقال: يا عبد الله، انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله ؟ فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع إلى عمر فخرج فبايع". أخرجه البخاري (4187). قال الحافظ ابن حجر: "ويمكن الجمع بينهما بأنه بعثه يحضر له الفرس، ورأى الناس مجتمعين فقال له: انظر ما شأنهم؟ فبدأ بكشف حالهم، فوجدهم يبايعون، فبايع، وتوجه إلى الفرس، فأحضرها، وأعاد حينئذ الجواب على أبيه". "فتح الباري" لابن حجر (7 /456). وفيها دعا رسول الله للمحلقين بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة. روى نافع عن ابن عمر: "أن رسول الله ، قال: رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين. قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين". أخرجه البخاري (1728)، ومسلم (1301). تحذير النبي الصحابة من إيقاد النار في الليل. روى أبو سعيد الخدري: " أن النبي لما كان يوم الحديبية قال: لا توقدوا نارا بليل " قال: فلما كان بعد ذاك قال: أوقدوا، واصطنعوا، فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم". أخرجه أحمد (11209)، 17 /305، طبعة الرسالة، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: "إسناده حسن، رجاله ثقات". أسر رجال من المشركين حاولوا الاعتداء على المسلمين. ففي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه الطويل: "... قال: ثم إن المشركين راسلونا الصلح حتى مشى بعضنا في بعض واصطلحنا، قال: وكنت تبيعا لطلحة بن عبيد الله أسقي فرسه، وأحسه، وأخدمه، وآكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله ، قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله ، فأبغضتهم، فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم واضطجعوا، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي، يا للمهاجرين، قتل ابن زنيم، قال: فاخترطت سيفي، ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم، فجعلته ضغثا في يدي، قال: ثم قلت، والذي كرم وجه محمد، لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله ، قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات، يقال له: مكرز يقوده إلى رسول الله على فرس، مجفف في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله ، فقال: دعوهم، يكن لهم بدء الفجور، وثناه، فعفا عنهم رسول الله ، وأنزل الله: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ سورة الفتح: 24". أخرجه مسلم (1807). وروى ثابت عن أنس بن مالك: "أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة النبي وأصحابه، فأخذهم سلما فاستحياهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ سورة الفتح: 24". أخرجه مسلم (1808). قال إبراهيم العلي: "وقد جاء من حديث عبد الله بن مغفل ما يدل على أن هذا الأمر حصل أثناء كتابة الصلح بين رسول الله وبين سهيل بن عمرو، وأن رسول الله دعا على الذين حاولوا مهاجمة المسلمين، فأخذ الله أبصارهم، فقبض عليهم المسلمون، وكان عدد هؤلاء ثلاثين شابًا من قريش، ثم أطلق رسول الله سراحهم، فلعل ذلك حصل مرة أخرى والله أعلم". قال عبد الله بن مغفل المزني في حديثه بعد أن ذكر كتاب رسول الله مع سهيل بن عمرو: "فكتب، فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول الله ، فأخذ الله عز وجل بأبصارهم، فقدمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله : " هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ " فقالوا: لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ سورة الفتح: 24". أخرجه أحمد (16800)، 27 /354، طبعة الرسالة، قال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: "حديث صحيح". دخول خزاعة في عهد النبي ودخل بنو بكر في عهد قريش: قال ابن إسحاق في حديثه الطويل لحادثة صلح الحديبية، وفي بيان شروطها: "... قال: فقال رسول الله : اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وإن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم، وأنك ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، لا تدخلها بغيرها." "السيرة" لابن هشام (2 /317- 318). نزول المطر على المسلمين يوم الحديبية: قال زيد بن خالد رضي الله عنه: "خرجنا مع رسول الله عام الحديبية، فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى لنا رسول الله الصبح، ثم أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا برحمة الله وبرزق الله وبفضل الله، فهو مؤمن بي، كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا، فهو مؤمن بالكوكب كافر بي". أخرجه البخاري (4147)، مسلم (71). اقتداء ابن عمر رضي الله عنه برسول الله في حكم الإحصار. روى نافع، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، خرج معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله ، فأَهَلّ بعمرة، من أجل أن رسول الله كان أهل بعمرة عام الحديبية". أخرجه البخاري (4183)، مسلم (2251). وفي رواية أخرى له أن ابن عمر أََهَلّ، وقال: "إن حيل بيني وبينه لفعلت كما فعل النبي حين حالت كفار قريش بينه، وتلا: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ سورة الأحزاب: 21". أخرجه البخاري (4184)، ومسلم (2252). روى نافع، أن بعض بني عبد الله، قال له: "لو أقمت العام، فإني أخاف أن لا تصل إلى البيت قال: خرجنا مع النبي فحال كفار قريش دون البيت، فنحر النبي هداياه، وحلق وقصر أصحابه، وقال: أشهدكم أني أوجبت عمرة، فإن خلي بيني وبين البيت طفت، وإن حيل بيني وبين البيت، صنعت كما صنع رسول الله فسار ساعة، ثم قال: ما أرى شأنهما إلا واحدا، أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي، فطاف طوافا واحدا، وسعيا واحدا، حتى حل منهما جميعا". أخرجه البخاري (4185). الشجرة التي بويع تحتها يوم الحديبية ومصيرها: وقد أخفى الله سبحانه وتعالى عن الناس الشجرة التي تمت البيعة تحتها. روى قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: "لقد رأيت الشجرة، ثم أتيتها بعد فلم أعرفها". البخاري (4162). وفي رواية أخرى له: "أنه كان ممن بايع تحت الشجرة، فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا". البخاري (4164). وقال طارق بن عبد الرحمن: "انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلون، قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة، حيث بايع رسول الله بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله تحت الشجرة، قال: فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها، وعلمتموها أنتم! فأنتم أعلم". أخرجه البخاري (4163)، ومسلم (1859). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "رجعنا من العام المقبل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله". البخاري (2958). قال ابن حجر معقبا على ذلك: "والحكمة في إخفائها أن لا يحصل بها افتنان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها". "فتح الباري" لابن حجر (6 /220). وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ما يخالف هذا، حيث قال: "قال لنا رسول الله يوم الحديبية: أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفا وأربع مائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة". البخاري (4154). قال ابن حجر: "فهذا يدل على أنه كان يضبط مكانها بعينه، وإذا كان في آخر عمره بعد الزمان الطويل يضبط موضعها ففيه دلالة على أنه كان يعرفها بعينها، لأن الظاهر أنها حين مقالته تلك كانت هلكت، إما بجفاف أو بغيره، واستمر هو يعرف موضعها بعينه، ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها فقطعت". (7 /448)، الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /100). أنزل الله عز وجل فدية الأذى لمن حلق رأسه بالصيام أو الصدقة أو النسك في شأن كعب بن عجرة. قال كعب بن عجرة: "كنا مع رسول الله بالحديبية ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون، قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، قال: وأنزلت هذه الآية: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ سورة البقرة: 196". أخرجه البخاري (4191)، ومسلم (2167). وفي رواية أخرى له قال: "أتى علي النبي زمن الحديبية، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قلت: نعم، قال: فاحلق، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة. قال أيوب: لا أدري بأي هذا بدأ". أخرجه البخاري (4190)، ومسلم (2170). وفيه أن رسول الله لما رجع إلى المدينة جاءه نساء مؤمنات، منهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألونها رسول الله بالشرط الذي كان بينهم، فلم يرجعها إليهم. قال ابن القيم: "ونهاه الله عز وجل عن ذلك، فقيل: هذا نسخ للشرط في النساء. وقيل: تخصيص للسنة بالقرآن، وهو عزيز جدا. وقيل: لم يقع الشرط إلا على الرجال خاصة، وأراد المشركون أن يعمموه في الصنفين فأبى الله ذلك". (3 /267). منزلة أهل الحديبية روى جابر: "أن عبدا لحاطب جاء رسول الله يشكو حاطبا فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله : كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدرا والحديبية". أخرجه مسلم (2495). قال ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، يقول: أخبرتني أم مبشر، أنها سمعت النبي يقول عند حفصة: "لا يدخل النار، إن شاء الله، من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها» قالت: بلى، يا رسول الله فانتهرها، فقالت حفصة: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ سورة مريم: 71، فقال النبي : قد قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ سورة مريم: 72". أخرجه مسلم (2496).

دروس وعِبَر

ذكر ابن حجر فوائد لحديث جابر في تكثير الماء بين يديه، وهي: معجزات ظاهرة. وفيه بركة سلاحه وما ينسب إليه. وقد وقع نبع الماء من بين أصابعه الشريفة في عدة مواطن غير هذه. انظر "فتح الباري" لابن حجر (5 /685). ذكر ابن حجر فوائد لمشورة النبي لأم سلمة رضي الله عنها في الحلق والنحر، وهي: فضل المشورة. وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول. وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة. وفيه فضل أم سلمة رضي الله عنها ووفور عقلها، حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، كذا قال، وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب عليه السلام في أمر موسى عليه السلام. انظر "فتح الباري" لابن حجر (5 /699). قال ابن حجر في بيان مكانة الصلح في الناس يومئذ: "وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي، عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه، إنما كان الكفر حيث القتال، فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضا، وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا بادر إلى الدخول فيه، فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل عليه أنه خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج بعد سنين إلى فتح مكة في عشرة آلاف. انتهى". "فتح الباري" لابن حجر (7 /441- 442). وذكر ابن القيم في زاد المعاد بعض الفوائد الفقهية لما في قصة الحديبية، منها: اعتمار النبي في أشهر الحج، فإنه خرج إليها في ذي القعدة. أن الإحرام بالعمرة من الميقات أفضل، كما أن الإحرام بالحج كذلك، فإنه أحرم بهما من ذي الحليفة، وبينها وبين المدينة ميل أو نحوه. أن سوق الهدي مسنون في العمرة المفردة كما هو مسنون في القران. أن إشعار الهدي سنة لا مثلة منهي عنها. استحباب مغايظة أعداء الله؛ فإن النبي أهدى في جملة هديه جملا لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ به المشركين. أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو. أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة؛ لأن عينه الخزاعي كان كافرا إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم. استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجا لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم، وأمنا لعتبهم وتعرفا لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض. جواز سبي ذراري المشركين إذا انفردوا عن رجالهم قبل مقاتلة الرجال. رد الكلام الباطل، ولو نسب إلى غير مكلف، فإنهم لما قالوا: خلأت القصواء أخبر عن سبب بروكها، وأن الذي حبس الفيل. أن تسمية ما يلابسه الرجل من مراكبه ونحوها سنة. جواز الحلف، بل استحبابه على الخبر الديني الذي يريد تأكيده. أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مرض له، أجيب إلى ذلك كائنا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس. أجاب الصديق عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب رسول الله ، وذلك يدل على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله تعالى ورسوله ، وأعلمهم بدينه وأقومهم بمحابه وأشدهم موافقة له. أن النبي عدل ذات اليمين إلى الحديبية. قال الشافعي: بعضها من الحل وبعضها من الحرم. أن من نزل قريبا من مكة فإنه ينبغي له أن ينزل في الحل، ويصلي في الحرم، وكذلك كان ابن عمر يصنع. جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو، إذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم. وفي قيام المغيرة بن شعبة على رأس رسول الله بالسيف - ولم يكن عادته أن يقام على رأسه وهو قاعد - سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من إظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس. وفي بعث البدن في وجه الرسول الآخر دليل على استحباب إظهار شعائر الإسلام لرسل الكفار. احتمال قلة أدب رسول الكفار وجهله وجفوته، ولا يقابل على ذلك؛ لما فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبي عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك. طهارة النخامة سواء كانت من رأس أو صدر. طهارة الماء المستعمل. استحباب التفاؤل، وأنه ليس من الطيرة المكروهة؛ لقوله لما جاء سهيل "سهل أمركم". أن المشهود عليه إذا عرف باسمه واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر الجد؛ لأن النبي لم يزد على محمد بن عبد الله، وقنع من سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة، واشتراط ذكر الجد لا أصل له. أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة، ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما. أن من حلف على فعل شيء أو نذره أو وعد غيره به، ولم يعين وقتا، لا بلفظه ولا بنيته، لم يكن على الفور، بل على التراخي. أن الحلاق نسك، وأنه أفضل من التقصير، وأنه نسك في العمرة كما هو نسك في الحج، وأنه نسك في عمرة المحصور كما هو نسك في عمرة غيره. أن المحصر ينحر هديه حيث أحصر من الحل أو الحرم، وأنه لا يجب عليه أن يواعد من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله. أن المحصر لا يجب عليه القضاء؛ لأنه أمرهم بالحلق والنحر، ولم يأمر أحدا منهم بالقضاء، والعمرة من العام القابل لم تكن واجبة، ولا قضاء عن عمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفا وأربعمائة، وكانوا في عمرة القضية دون ذلك، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء لأنها العمرة التي قاضاهم عليها، فأضيفت العمرة إلى مصدر فعله. أن الأمر المطلق على الفور وإلا لم يغضب لتأخيرهم الامتثال عن وقت الأمر، وإنما كان تأخيرهم من السعي المغفور لا المشكور، وقد رضي الله عنهم وغفر لهم وأوجب لهم الجنة. أن الأصل مشاركة أمته له في الأحكام، إلا ما خصه الدليل، ولذلك قالت أم سلمة: "اخرج ولا تكلم أحدا حتى تحلق رأسك وتنحر هديك"، وعلمت أن الناس سيتابعونه. جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين، وألا يرد من ذهب من المسلمين إليهم، هذا في غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار، وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن، ولا سبيل إلى دعوى النسخ في غيره بغير موجب. أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلما إلى غير بلد الإمام، وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب؛ فإن النبي لم يرد أبا بصير حين جاءه، ولا أكرهه على الرجوع، ولكن لما جاءوا في طلبه مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع. أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحدا منهم لم يضمنه بدية ولا قود، ولم يضمنه الإمام، بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم، حيث لا حكم للإمام عليهم؛ فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة، وهي من حكم المدينة، ولكن كان قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه. أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة، فحاربتهم وغنمت أموالهم، ولم يتحيزوا إلى الإمام، لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم، وسواء دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3 /275). أشار ابن القيم إلى بعض الحكم التي تضمنتها هذه الهدنة، منها: أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجا، فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحا ومؤذنا بين يديه، وهذه عادة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرا وشرعا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها. أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح؛ فإن الناس أمن بعضهم بعضا، واختلط المسلمون بالكفار، وبادءوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحا مبينا. قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاء عظيما. وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية. ما سببه سبحانه للمؤمنين من زيادة الإيمان والإذعان والانقياد على ما أحبوا وكرهوا، وما حصل لهم في ذلك من الرضى بقضاء الله وتصديق موعوده، وانتظار ما وعدوا به، وشهود منة الله ونعمته عليهم بالسكينة التي أنزلها في قلوبهم أحوج ما كانوا إليها في تلك الحال التي تزعزع لها الجبال، فأنزل الله عليهم من سكينته ما اطمأنت به قلوبهم وقويت به نفوسهم وازدادوا به إيمانا. أنه سبحانه جعل هذا الحكم الذي حكم به لرسوله وللمؤمنين سببا لما ذكره من المغفرة لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولإتمام نعمته عليه، ولهدايته الصراط المستقيم، ونصره النصر العزيز، ورضاه به، ودخوله تحته، وانشراح صدره به، مع ما فيه من الضيم وإعطاء ما سألوه، كان من الأسباب التي نال بها الرسول وأصحابه ذلك، ولهذا ذكره الله سبحانه جزاء وغاية، وإنما يكون ذلك على فعل قام بالرسول والمؤمنين عند حكمه تعالى وفتحه. وصف الله سبحانه النصر بأنه عزيز في هذا الموطن ثم ذكر إنزال السكينة في قلوب المؤمنين في هذا الموطن الذي اضطربت فيه القلوب وقلقت أشد القلق، فهي أحوج ما كانت إلى السكينة، فازدادوا بها إيمانا إلى إيمانهم، ثم ذكر سبحانه بيعتهم لرسوله وأكدها بكونها بيعة له سبحانه، وأن يده تعالى كانت فوق أيديهم إذ كانت يد رسول الله كذلك، وهو رسوله ونبيه، فالعقد معه عقد مع مرسله، وبيعته بيعته، ثم ذكر حال من تخلف عنه من الأعراب، وظنهم أسوأ الظن بالله أنه يخذل رسوله وأولياءه وجنده ويظفر بهم عدوهم فلن ينقلبوا إلى أهليهم، ثم أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين بدخولهم تحت البيعة لرسوله وأنه سبحانه علم ما في قلوبهم حينئذ من الصدق والوفاء وكمال الانقياد والطاعة، وإيثار الله ورسوله على ما سواه، فأنزل الله السكينة والطمأنينة والرضى في قلوبهم، وأثابهم على الرضى بحكمه والصبر لأمره فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها، وكان أول الفتح والمغانم فتح خيبر ومغانمها، ثم استمرت الفتوح والمغانم إلى انقضاء الدهر. ثم أخبر سبحانه أن الكفار لو قاتلوا أولياءه، لولى الكفار الأدبار غير منصورين، وأن هذه سنته في عباده قبلهم، ولا تبديل لسنته. ثم أخبر - سبحانه - أنه أنزل في قلب رسوله وأوليائه من السكينة ما هو مقابل لما في قلوب أعدائه من حمية الجاهلية، فكانت السكينة حظ رسوله وحزبه، وحمية الجاهلية حظ المشركين وجندهم، ثم ألزم عباده المؤمنين كلمة التقوى، ثم أخبر سبحانه أنه صدق رسوله رؤياه في دخولهم المسجد آمنين، وأنه سيكون ولا بد، ولكن لم يكن قد آن وقت ذلك في هذا العام، والله سبحانه علم من مصلحة تأخيره إلى وقته ما لم تعلموا أنتم، ثم أخبرهم بأنه هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فقد تكفل الله لهذا الأمر بالتمام والإظهار على جميع أديان أهل الأرض، ففي هذا تقوية لقلوبهم وبشارة لهم وتثبيت، وأن يكونوا على ثقة من هذا الوعد الذي لا بد أن ينجزه. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3 /275- 281).