البحث

عبارات مقترحة:

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الحافظ

الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...

الأحد

كلمة (الأحد) في اللغة لها معنيانِ؛ أحدهما: أولُ العَدَد،...

غزوة تبوك

خرج رسول الله إلى تَبُوك في رجب سنة تسع من الهجرة، ومعه ثلاثون ألفا من الناس، وعشرة آلاف فرس، وذلك لما بلغه أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام مع هرقل، وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، فسار إليهم وأعلم أصحابه المكان الذي يريد، وأمر رسول الله الناس بالصدقة فاحتملوا صدقات كثيرة وقوّوا في سبيل الله، وأنفق عثمان رضي الله عنه فيها نفقة عظيمة، وجاء البكاؤون يستحملونه فلم يجد لهم ما يحملهم عليه فتولوا وهم يبكون، وجاء المعذّرون من الأعراب، فاعتذروا إليه ليؤذن لهم فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا، وتخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين، ولم يتخلف عنه من المؤمنين الصادقين أحد من غير عذر، سوى أربعة نفر، وهم: الثلاثة الذين خلفوا، وأبو خيثمة ثم لحق به، واستخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة، وعلى أهله علي بن أبي طالب، ولما سمعت الروم بقدومهم واستعدادهم انسحبوا، فأقام رسول الله بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم انصرف راجعا إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال. وفي هذه الغزوة نزلت آيات كثيرة من سورة التوبة، وفضح الله عز وجل كثيرًا من أمور المنافقين، وفي طريقهم في تبوك نزل رسول الله وأصحابه بالحجر ديار ثمود، وفيه صالح صاحب أيلة وأهل جرباء وأذرح على الجزية، وعند رجوعه أمر بهدم مسجد الضرار، وبعد رجوعه من غزوة تبوك جاءه المتخلفون، فحلفوا له، فقبل منهم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وأرجأ أمر كعب بن مالك وصاحبيه، حتى نزلت توبتهم بعد.

اسمها

غزوة تبوك، وتعرف بغزوة العسرة.

وقتها

كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع من مقدم رسول الله المدينة. ذكر يونس عن ابن إسحاق في "دلائل البيهقي" وابن سعد ومغلطاي أنها كانت يوم الخميس. روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه: «أن النبي خرج يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس». أخرجه البخاري (2950). وانظر: "دلائل النبوة" للبيهقي (5 /219)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /167)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 334). قال ابن حجر: «كانت غزوة تبوك في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس أنها كانت بعد الطائف بستة أشهر، وليس مخالفا لقول من قال في رجب إذا حذفنا الكسور لأنه قد دخل المدينة من رجوعه من الطائف في ذي الحجة». "فتح الباري" لابن حجر (8 /111). انظر: "السيرة" لابن هشام (2 /515)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /165)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 334)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /460).

موقعها

خرج رسول الله إلى تَبُوك. وتَبُوك؛ بالفتح ثم الضم وواو ساكنة وكاف: موضع بين وادي القرى والشام، وذكر الحموي أن تبوك بين جبل حسمى وجبل شرورى، وحسمى غربيها وشرورى شرقيها، وقيل: بركة لأبناء سعد من بني عذرة. قال أبو زيد: «تبوك بين الحجر وأول الشام على أربع مراحل من الحجر نحو نصف طريق الشام، وهو حصن به عين ونخل وحائط ينسب إلى النبي ». "معجم البلدان" للحموي (2 /14). وقال مغلطاي: «من المدينة على أربع عشرة مرحلة». "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 334).

عدد المسلمين

خرج رسول الله ومعه ثلاثون ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس. ونقل مغلطاي أنه ورد في الإكليل أنهم أكثر من ثلاثين، وقال أبو زرعة: سبعون. وفي رواية عنه: أربعون. انظر: "المغازي" للواقدي (3 /996)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /166)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 338)، "فتح الباري" لابن حجر (8 /117)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /463).

قائد المسلمين

رسول الله

سببها

وسبب ذلك: ما بلغه رسول الله من أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معه لَخْمٌ وَجُذَامُ وَغَسّانُ وَعَامِلَةُ، وزحفوا وقدّموا مقدماتهم إلى البلقاء، وعسكروا بها، فندب رسول الله الناس الخروج إليهم. انظر: "المغازي" للواقدي (3 /990)، "السيرة" لابن هشام (2 /516)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /165)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 335)، "فتح الباري" لابن حجر (8 /111)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /462).

أحداثها

لما بلغ رسول الله أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام مع هرقل، ندب رسول الله الناس إلى الخروج، وأعلمهم المكان الذي يريد أن يخرج إليه، ولم يورّ عنها كعادته في سائر الغزوات، ليتأهبوا لذلك، وبعث إلى مكة وإلى قبائل العرب يستنفرهم، وذلك في حر شديد وجدب كثير. قال كعب بن مالك رضي الله عنه: «… ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا وعَدُوّا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد. ..». أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). قال ابن إسحاق: «ثم أقام رسول الله بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم. أن رسول الله أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان من عسرة الناس، وشدة من الحر، وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه، وكان رسول الله قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس، لبعد الشقة، وشدة الزمان، وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، وأخبرهم أنه يريد الروم». "السيرة" لابن هشام (2 /516). وقال قوم من المنافقين: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكّا في الحق، وإرجافا برسول الله ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم: ﴿وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ سورة التوبة: 81- 82 الآية. وأمر رسول الله الناس بالصدقة، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحملوا صدقات كثيرة، وقوّوا في سبيل الله، وأنفق عثمان رضي الله عنه فيها نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها. قال ابن هشام: «حدثني من أثق به: أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله : اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض». "السيرة" لابن هشام (2 /518). قال عبد الرحمن بن خباب: «شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي ثلاث مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه». أخرجه الترمذي (3700)، وقال فيه: «هذا حديث غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث السكن بن المغيرة، وفي الباب عن عبد الرحمن بن سمرة»، وأحمد (16696)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «إسناده ضعيف لجهالة فرقد أبي طلحة، فقد انفرد بالرواية عنه الوليد ابن أبي هشام، وقال علي بن المديني: لا أعرفه، وقال ابن حجر في "التقريب": مجهول، وبقية رجاله ثقات رجال الصحيح غير سكن بن المغيرة: وهو القرشي الأموي، فقد أخرج له الترمذي، وهو صدوق، وغير عبد الله بن أحمد، فقد أخرج له النسائي، وهو ثقة». وقال عبد الرحمن بن سمرة: «جاء عثمان إلى النبي بألف دينار، قال الحسن بن واقع: وكان في موضع آخر من كتابي في كمه، حين جهز جيش العسرة فنثرها في حجره. قال عبد الرحمن: فرأيت النبي يقلبها في حجره ويقول: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين». أخرجه الترمذي (3701)، وقال فيه: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه»، والحاكم (4553)، وقال فيه: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي، وأحمد (20630)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «إسناده حسن، من أجل كَثِير، وهو ابن أبي كثير، مولى عبد الرحمن بن سمرة». وجاء البكاؤون يستحملون رسول الله ، وكانوا أهل حاجة، فقال لهم : ﴿لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾ سورة التوبة: 92. والبكاؤون سبعة نفر من الأنصار، وغيرهم من بني عمرو بن عوف، وهم: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب المازني، والعرباض بن سارية، وهرميّ بن عبد الله، وعمرو بن عنمة وسلمة بن صخر. وزاد بعضهم في بعض الروايات: عبد الله بن مغفّل، وعبد الله بن عمرو المزني، وعمرو بن الحمام، ومعقل المزني، وحضرمي بن مازن. وبعضهم يقولون: البكاؤون بنو مقرن السبعة، وهم من مزينة وهم: والنعمان، وسويد، ومعقل، وعقيل، وسنان، وعبد الرحمن، وهند بنو مقرّن. قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «أرسلني أصحابي إلى رسول الله أسأله الحملان لهم، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله، إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال: والله لا أحملكم على شيء، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزينا من منع النبي ، ومن مخافة أن يكون النبي وجد في نفسه عليّ، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي ، فلم ألبث إلا سويعة، إذ سمعت بلالا ينادي: أي عبد الله بن قيس، فأجبته، فقال: أجب رسول الله يدعوك، فلما أتيته، قال: خذ هذين القرينين، وهذين القرينين، لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد، فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله، أو قال: إن رسول الله يحملكم على هؤلاء فاركبوهن. فانطلقت إليهم بهن، فقلت: إن النبي يحملكم على هؤلاء، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله ، لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله ، فقالوا لي: والله إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله منعه إياهم، ثم إعطائهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى». أخرجه البخاري (4415)، ومسلم (1649). وفي رواية أخرى له أيضا في الصحيحين: قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: «أتينا رسول الله في رهط من الأشعريين أستحمله، وهو يقسم نعما من نعم الصدقة، قال أيوب: أحسبه قال: وهو غضبان، قال: والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم عليه، قال: فانطلقنا، فأتي رسول الله بنهب إبل، فقيل: أين هؤلاء الأشعريون؟ فأتينا، فأمر لنا بخمس ذود غر الذرى، قال: فاندفعنا، فقلت لأصحابي: أتينا رسول الله نستحمله، فحلف أن لا يحملنا، ثم أرسل إلينا فحملنا، نسي رسول الله يمينه، والله لئن تغفلنا رسول الله يمينه لا نفلح أبدا، ارجعوا بنا إلى رسول الله فلنذكره يمينه، فرجعنا فقلنا: يا رسول الله، أتيناك نستحملك فحلفت أن لا تحملنا، ثم حملتنا، فظننا، أو: فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال: انطلقوا، فإنما حملكم الله، إني والله، إن شاء الله، لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها». أخرجه البخاري (6721)، ومسلم (1649). ووجد الناس شدة وقلة في الظهر والحمل، ودعا لهم رسول الله بالبركة في ظهورهم. قال فضالة بن عبيد الأنصاري: «غزونا مع النبي غزوة تبوك، فجهد بالظهر جهدا شديدا، فشكوا إلى النبي ما بظهرهم من الجهد، فتحيّن بهم مضيقا، فسار النبي فيه، فقال: مرّوا بسم الله، فمر الناس عليه بظهرهم، فجعل ينفخ بظهرهم: اللهم احمل عليها في سبيلك، إنك تحمل على القوي والضعيف، وعلى الرطب واليابس، في البر والبحر. قال: فما بلغنا المدينة حتى جعلت تنازعنا أزمتها. قال فضالة: هذه دعوة النبي على القوي والضعيف، فما بال الرطب واليابس؟ فلما قدمنا الشام غزونا غزوة قبرص في البحر، فلما رأيت السفن في البحر وما يدخل فيها، عرفت دعوة النبي ». أخرجه أحمد (23955)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «حديث صحيح، وهذا إسناد قوي، عصام بن خالد صدوق لا بأس به، ومن فوقه ثقات». فلما أراد رسول الله السير إلى تبوك جاءه ناس من الأعراب من المنافقين، فاعتذروا إليه ليؤذن لهم؛ يستأذنوه في التخلف من غير علة، فأذن لهم، وهم بضعة وثمانون رجلا، وذكر ابن اسحاق أنهم نفر من بني غفار. وتخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، ولم يتخلف عنه من المؤمنين الصادقين أحد من غير عذر، سوى أربعة نفر، كلهم من الأنصار، أبطأت بهم النية عن رسول الله ، حتى تخلفوا عنه عن غير شك منهم ولا ارتياب، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة، من غير شك حصل لهم، وكانوا نفر صدق، لا يُتّهَمون في إسلامهم. أما أبو خيثمة فسارع إلى اللحاق برسول الله . قال كعب بن مالك رضي الله عنه في حديثه الطويل: «.... فبينما هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب، فقال رسول الله: كن أبا خيثمة، فهذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدق بصاع التمر حين لمزه المنافقون». أخرجه مسلم (2769). أما الثلاثة الآخرون، فقد تخلفوا في المدينة، وهم يقولون كل يوم: نلحق بالرسول ، حتى عاد الرسول من تبوك إلى المدينة ولم يلحقوا به، فعاقبهم رسول الله بالمقاطعة حتى نزلت توبتهم، وفيهم نزل قوله تعالى: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ سورة التوبة: 118. وكذا تخلف عنه أبو ذر، ، ثم لحقه بعد ذلك. قال ابن إسحاق: «ثم مضى رسول الله سائرا، فجعل بتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه، وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا. ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله : كن أبا ذر. فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر، فقال رسول الله : رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»، فكان كذلك. "السيرة" لابن هشام (2 /523- 524). واستخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة، وقيل: سباع بن عرفطة. قال ابن سعد في استخلاف محمد بن مسلمة: «وهو أثبت عندنا ممن قال استخلف غيره». "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /167). وكان رسول الله استخلف على عسكره أبا بكر الصديق يصلي بالناس. وخلف رسول الله علي بن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فتكلم فيه المنافقون، وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخففا منه، فشيّع عليّ رسول الله إلى ثنية الوداع وشكا إليه قولهم وما في وجده في نفسه. روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «أن رسول الله خرج إلى تبوك، واستخلف عليا، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي». أخرجه البخاري (4416)، ومسلم (2404). وروت عائشة بنت سعد، عن أبيها: «أن عليا خرج مع النبي حتى جاء ثنية الوداع، وعلي يبكي، يقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال: أوما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة». أخرجه أحمد (1463)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «إسناده صحيح على شرط البخاري». قال ابن القيم: «في غزوة تبوك؛ فالمعروف عند أهل الأثر أنه استخلف علي بن أبي طالب، كما في الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال: «خلف رسول الله عليا رضي الله عنه في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي»، ولكن هذه كانت خلافة خاصة على أهله ، وأما الاستخلاف العام فكان لمحمد بن مسلمة الأنصاري». "زاد المعاد" لابن القيم (3 /489- 490). وأمر رسول الله كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء أو راية، ومضى لوجهه يسير بأصحابه حتى قدم تبوك، ومعه ثلاثون ألفا من الناس، والخيل عشرة آلاف فرس. ولما سمعت الروم بقدوم رسول الله وأصحابه واستعدادهم انسحبوا، فأقام رسول الله بتبوك بضع عشرة ليلة، وقال ابن سعد: عشرين ليلة يصلي بها ركعتين، ثم انصرف رسول الله من تبوك، ولم يلق كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال، وقدم المدينة في شهر رمضان سنة تسع. قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أقام رسول الله بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة». أخرجه أبو داود (1235)، أحمد (14139)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «إسناده صحيح على شرط الشيخين». قال القرطبي: «وخرج رسول الله في رجب وأقام بتبوك شعبان وأياما من رمضان وبث سراياه وصالح أقواما على الجزية. "تفسير القرطبي" (8 /280). ولما دنا رسول الله من المدينة أخبر أصحابه أن في المدينة إخوانا لهم يشاركونهم في الأجر. روى أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رسول الله رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة، فقال: إن بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة، حبسهم العذر». أخرجه البخاري (4423). قال أبو حميد الساعدي: «أقبلنا مع النبي من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: هذه طابة، وهذا أحد، جبل يحبنا ونحبه». أخرجه البخاري (4422)، ومسلم (1392). وقال أبو قتادة: «لما أقبلنا من غزوة تبوك قال رسول الله : هذه طيبة، أسكننيها ربي، تنفي خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد، فمن لقي منكم من النفاخين فلا يكلمنه ولا يجالسنه». أخرجه البخاري (4422). واستقبل الناس رسول الله عند ثنية الوداع. قال السائب بن يزيد رضي الله عنه: «خرجت مع الصبيان نتلقى النبي إلى ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك». أخرجه البخاري (4427). وبعد رجوع رسول الله من غزوة تبوك جاءه من كان تخلف عنه، فحلفوا له، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وأرجأ رسول الله أمر كعب بن مالك وصاحبيه، وقال لأصحابه: لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة، حتى نزلت توبتهم بعد. روى عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه، حين عَمِي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: «لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر، أذكر في الناس منها، كان من خبري: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه، في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان، قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي الله، وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت، ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه برداه، ونظره في عطفه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، فسكت رسول الله ، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله قادما، وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق، تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، فقال رسول الله : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا، فكنت أشب القوم وأجلدهم فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نبطي من أنباط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله يأتيني، فقال: إن رسول الله يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فتكوني عندهم، حتى يقضي الله في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله ، فقالت: يا رسول الله: إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله ، وما يدريني ما يقول رسول الله إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبّح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله، قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ، أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبي، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله ، فيتلقاني الناس فوجا فوجا، يهنوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله ، قال رسول الله ، وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا، بل من عند الله، وكان رسول الله إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله، قال رسول الله : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله ، أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت، وأنزل الله على رسوله : ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ سورة التوبة: 117 إلى قوله ﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سورة التوبة: 119، فوالله ما أنعم الله عَلَيّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: ﴿سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ﴾ سورة التوبة: 95 إلى قوله ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ﴾ سورة التوبة: 96، قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله: ﴿وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ سورة التوبة: 118، وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا، عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه». أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769). انظر تفصيل قصة هذه الغزوة وأحداثها في : "المغازي" للواقدي (3 /989- 1025)، "السيرة" لابن هشام (2 /515- 537)، "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2 /165- 168)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 334- 340)، "فتح الباري" لابن حجر (8 /111)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /460- 488)، "صحيح السيرة النبوية" لإبراهيم العلي (ص 462- 493).

نتيجتها

وفي تبوك أتى رسول الله صاحب أيلة، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية. وأقام رسول الله بتبوك بضع عشرة ليلة، ثم انصرف راجعا إلى المدينة، ولم يلق كيدا، وكفى الله المؤمنين القتال. وبعد رجوعه من غزوة تبوك جاءه من كان تخلف عنه، فحلفوا له، فقبل منهم علانيتهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وأرجأ رسول الله أمر كعب بن مالك وصاحبيه، حتى نزلت توبتهم بعد.

أحداث متعلقة

تعرف غزوة تبوك بغزوة العُسْرَة. فقد عنون الامام البخاري في صحيحه في كتاب المغازي: "باب غزوة تبوك وهي غزوة العسرة"، وهو مأخوذ من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ سورة التوبة: 120، وسميت كذلك لما كان فيه المسلمون من عسرة في الماء والظهر والنفقة وشدة من الحر وجدب من البلاد. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ سورة التوبة: 120: «أي في وقت العسرة، والمراد جميع أوقات تلك الغزاة ولم يرد ساعة بعينها. وقيل: ساعة العسرة أشد الساعات التي مرت بهم في تلك الغزاة. والعسرة صعوبة الأمر. قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء. قال الحسن: كانت العسرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم وكان زادهم التمر المتسوس والشعير المتغير والإهالة المنتنة وكان النفر يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه حتى يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلا النواة فمضوا مع النبي على صدقهم ويقينهم رضي الله عنهم. وقال عمر رضي الله عنه وقد سئل عن ساعة العسرة: «خرجنا في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من العطش، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى أظلت السماء ثم سكبت فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر». وروى أبو هريرة وأبو سعيد قالا: «كنا مع النبي في غزوة تبوك فأصاب الناس مجاعة وقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا. فقال رسول الله : افعلوا، فجاء عمر، وقال: يا رسول الله، إن فعلوا قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم فادع الله عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة. قال: نعم، ثم دعا بنطع فبسط ثم دعا بفضل الأزواد، فجعل الرجل يجئ بكف ذرة ويجيء الآخر بكف تمر ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير. قال أبو هريرة: فحزرته فإذا هو قدر ربضة العنز، فدعا رسول الله بالبركة. ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم حتى والذي لا إله إلا هو ما بقي في العسكر وعاء إلا ملئوه، وأكل القوم حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال النبي : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة». أخرجه مسلم في صحيحه بلفظه ومعناه، والحمد لله. وقال ابن عرفة: سمي جيش تبوك جيش العسرة؛ لأن رسول الله ندب الناس إلى الغزو في حمارة القيظ، فغلظ عليهم وعسر، وكان إبان ابتياع الثمرة». "تفسير القرطبي" (8 /279- 280). نزول آيات متعلقة بغزوة تبوك. قال موسى العازمي: «نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة، نزل بعضها قبل الخروج، وبعضها بعد الخروج، وهو في السفر، وبعضها بعد الرجوع إلى المدينة، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة، وفضل المجاهدين المخلصين، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين، وفضح المنافقين، وكانت سورة التوبة من أشد ما نزل في المنافقين حتى كانت تسمى: الفاضحة، وتسمى: المبعثرة لما كشفت من سرائر المنافقين». "اللؤلؤ المكنون" لموسى العازمي (4 /370). روى الشيخان في صحيحيهما عن سعيد بن جبير، قال: «قلت لابن عباس رضي الله عنهما: سورة التوبة؟ قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم، ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها». أخرجه البخاري (4882)، ومسلم (3031). تخلف الجَدّ بن قيس وما نزل فيه. قال ابن إسحاق: «قال رسول الله ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتنى؟ فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله وقال: قد أذنت لك. ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ سورة التوبة: 49، أي إن كان إنما خشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله ، والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: وإن جهنم لمن ورائه». "السيرة" لابن هشام (2 /516). لمز المنافقين للمتصدقين: قال أبو مسعود: «لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رئاء، فنزلت: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ، وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ سورة التوبة: 79 الآية». أخرجه البخاري (4668)، ومسلم (1018). مرور رسول الله وأصحابه بالحجر بديار ثمود في غزوة تبوك. وفي هذه الغزوة مر رسول الله بالحجر فنزلها، واستقى الناس من بئرها، فنهاهم رسول الله أن يشربوا من مائها. روى ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله ، لما نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء». أخرجه البخاري (3378)، ومسلم (2980). قال ابن عمر رضي الله عنهما: «لما مر النبي بالحجر قال: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي». أخرجه البخاري (4419)، ومسلم (2980). ثم إن رسول الله قام خطيبا في الناس، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لما مر رسول الله بالحجر، قال: لا تسألوا الآيات، وقد سألها قوم صالح، فكانت ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة أهمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه». أخرجه أحمد (14160)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «حديث قوي، وهذا إسناد على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عثمان بن خثيم وأبي الزبير، فمن رجال مسلم، وأبو الزبير مدلس، وقد عنعن، واختلف على ابن خثيم فيه، فرواه مرة عن أبي الزبير، وأخرى عن عبد الرحمن بن سابط»، والحاكم (3248)، وقال فيه: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وعلق عليه الذهبي: «صحيح على شرط البخاري ومسلم». ضياع ناقة رسول الله وكلام المنافقين في ذلك. وفي هذه الغزوة ضلت ناقة رسول الله ، فتكلم المنافقون، فنزل الوحي وأخبره بأنها متعلقة بخطامها في شجرة، فوجدت كذلك. قال ابن إسحاق: "ثم إن رسول الله سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت ناقته، فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله رجل من أصحابه، يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبيا بدريا، وهو غم بني عمرو بن حزم، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي، وكان منافقا. فقال زيد بن اللصيت، وهو في رحل عمارة وعمارة عند رسول الله : أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال رسول الله وعمارة عنده: إن رجلا قال: هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا، فجاءوا بها. فرجع عمارة بن حزم إلى رحله، فقال: والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله آنفا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن لصيت، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله : زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي. فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول: إلي عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني». "السيرة" لابن هشام (2 /522- 523). دعاء رسول الله بزيادة الطعام. روى الأعمش عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد، شك الأعمش، قال: «لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، قالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا، فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله : افعلوا، قال: فجاء عمر، فقال: يا رسول الله، إن فعلت قلّ الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله : نعم، قال: فدعا بنطع، فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله عليه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة». أخرجه مسلم (27). دعاء رسول الله بإمطار السماء وامتلاء أوعية الصحابة ماء. قال عبد الله بن عباس: «قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع له، فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر». أخرجه الحاكم (566)، وقال فيه: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد ضمنه سنة غريبة، وهو أن الماء إذا خالطه فرث ما يؤكل لحمه لم ينجسه، فإنه لو كان ينجس الماء لما أجاز رسول الله لمسلم أن يجعله على كبده حتى ينجس يديه»، ووافقه الذهبي، والبزار (214)، وقال فيه: «وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي بهذا اللفظ إلا عن عمر بهذا الإسناد». إخبار رسول الله بالإعصار وتحذير الصحابة رضي الله عنهم من القيام. قال أبو حميد الساعدي: «خرجنا مع رسول الله غزوة تبوك فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة، فقال رسول الله : اخرصوها، فخرصناها وخرصها رسول الله عشرة أوسق، وقال: أحصيها حتى نرجع إليك إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله : ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عقاله، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ، وجاء رسول ابن العلماء، صاحب أيلة، إلى رسول الله بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله ، وأهدى له بردا، ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله المرأة عن حديقتها كم بلغ ثمرها؟ فقالت: عشرة أوسق، فقال رسول الله : إني مسرع فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا حتى أشرفنا على المدينة، فقال: هذه طابة، وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه، ثم قال: إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني عبد الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير، فلحقنا سعد بن عبادة، فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخرا، فأدرك سعد رسول الله ، فقال: يا رسول الله خيرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرا، فقال: بحسبكم أن تكونوا من الخيار». أخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392)، واللفظ لمسلم. قصة عين تبوك وازدياد الماء فيها. قال معاذ بن جبل: «خرجنا مع رسول الله عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصلاة، فصلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، حتى إذا كان يوما أخر الصلاة، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل، ثم خرج بعد ذلك، فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال: إنكم ستأتون غدا، إن شاء الله، عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، قال فسألهما رسول الله : هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا: نعم، فسبهما النبي ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر أو قال: غزير، شك أبو علي أيهما قال، حتى استقى الناس، ثم قال يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة، أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا». أخرجه مسلم (706). جمع رسول الله الصلاة في غزوة تبوك. قال معاذ بن جبل: «جمع رسول الله في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء. قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحرج أمته». أخرجه مسلم (706). صلاة رسول الله خلف عبد الرحمن بن عوف. روى عروة بن المغيرة بن شعبة أن المغيرة بن شعبة أخبره: «أنه غزا مع رسول الله تبوك، قال المغيرة: فتبرز رسول الله قبل الغائط، فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر، فلما رجع رسول الله إلي أخذت أهريق على يديه من الإداوة، وغسل يديه ثلاث مرات، ثم غسل وجهه، ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه، فضاق كُمّا جبته فأدخل يديه في الجبة، حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة، وغسل ذراعيه إلى المرفقين، ثم توضأ على خفيه، ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدّموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم، فأدرك رسول الله إحدى الركعتين، فصلى مع الناس الركعة الآخرة، فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله يتم صلاته، فأفزع ذلك المسلمين، فأكثروا التسبيح، فلما قضى النبي صلاته أقبل عليهم، ثم قال: أحسنتم، أو قال: قد أصبتم، يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها». أخرجه البخاري مختصرا (4421)، ومسلم (274)، واللفظ لمسلم. مصالحة صاحب أيلة. وفي هذه الغزوة أتى رسول الله صاحب أيلة، لمّا انتهى إلى تبوك، فصالحه وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جربا وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب لهم رسول الله كتابا فهو عندهم، وكتب لصاحب أيلة: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يردونه من بحر أو بر». "زاد المعاد" لابن القيم (3 /470). محاولة المنافقين اغتيال الرسول . وفي هذه الغزوة حاول المنافقين متسترين النيل من رسول الله ، فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فلما بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، فلما غشيهم رسول الله أُخْبِر خبرهم. قال أبو الطفيل: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم: أخبره إذ سألك، قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وعذر ثلاثة، قالوا: ما سمعنا منادي رسول الله ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرة فمشى، فقال: إن الماء قليل، فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوما قد سبقوه، فلعنهم يومئذ». أخرجه مسلم (2779). وفي رواية أخرى بتفصيل عند أحمد في مسنده قال أبو الطفيل: «لما أقبل رسول الله من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله أخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول الله يقوده حذيفة ويسوق به عمار إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله لحذيفة: قد، قد، حتى هبط رسول الله ، فلما هبط رسول الله نزل ورجع عمار، فقال: يا عمار، هل عرفت القوم؟ فقال: قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون، قال: هل تدري ما أرادوا؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه، قال: فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله فقال: نشدتك بالله، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ فقال: أربعة عشر، فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر، فعذر رسول الله منهم ثلاثة، قالوا: والله ما سمعنا منادي رسول الله، وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، قال الوليد: وذكر أبو الطفيل في تلك الغزوة أن رسول الله قال للناس وذكر له: أن في الماء قلة، فأمر رسول الله مناديا فنادى: أن لا يرد الماء أحد قبل رسول الله فورده رسول الله فوجد رهطا قد وردوه قبله، فلعنهم رسول الله يومئذ». أخرجه أحمد (23792)، طبعة الرسالة، وقال الشيخ شعيب الارناؤوط في تخريجه على مسند أحمد: «إسناده قوي على شرط مسلم». موت عبد الله ذو البجادين. روى ابن إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا إلي أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: اللهم إني أمسيت راضيا عنه، فارض عنه. قال: يقول وعبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة. قال ابن هشام: وإنما سمي ذا البجادين، لأنه كان ينازع إلى الإسلام، فيمنعه قومه من ذلك، ويضيقون عليه، حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله ، فلما كان قريبا منه، شق بجاده باثنين، فاتزر بواحد، واشتمل بالآخر، ثم أتى رسول الله ، فقيل له: ذو البجادين لذلك». "السيرة" لابن هشام (2 /527- 528). حديث رسول الله عن أمارات الساعة يوم تبوك. قال عوف بن مالك: «أتيت النبي في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا». أخرجه البخاري (3176). أمر رسول الله بهدم مسجد الضرار عند القفول من غزوة تبوك. ثم أقبل رسول الله حتى نزل بذي أوان، فجاء جماعة من المنافقين، وسألوه أن يأتي مسجدهم بقباء ليصلي فيه، وهو مسجد الضرار، فنزل الوحي على رسول الله بهذه الآيات: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾. فدعا رسول الله مالك بن الدخشم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي، أو أخاه عاصم بن عدي، أخا بني العجلان، فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه وحرقاه. فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنظرني حتى أخرج إليك بتار من أهلي. فدخل إلى أهله، فأخذ سعفا من النخل، فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله، فحرقاه وهدماه، وتفرقوا عنه. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا، فتصلي لنا فيه، فقال: إني على جناح سفر، وحال شغل، ولو قد قدمنا إن شاء الله لأتيناكم، فصلينا لكم فيه. انظر: "السيرة" لابن هشام (2 /529- 530)، "الإشارة إلى سيرة المصطفى وتاريخ من بعده من الخلفاء" لمغلطاي (ص 340)، "زاد المعاد" لابن القيم (3 /480).

دروس وعِبَر

ذكر ابن حجر فوائد لحديث كعب بن مالك، منها: جواز طلب أموال الكفار من ذوي الحرب. وجواز الغزو في الشهر الحرام. والتصريح بجهة الغزو إذا لم تقتض المصلحة ستره. وأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف. وقال السهيلي: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين، لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا، فكان تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة، لأنها كالنكث لبيعتهم، كذا قال بن بطال. قال السهيلي: ولا أعرف له وجها غير الذي قال قلت وقد ذكرت وجها غير الذي ذكره ولعله أقعد ويؤيده قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله الآية وعند الشافعية وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمن النبي فعلى هذا فيتوجه العتاب على من تخلف مطلقا. وفيها أن العاجز عن الخروج بنفسه أو بماله لا لوم عليه. واستخلاف من يقوم مقام الإمام على أهله والضعفة. وفيها ترك قتل المنافقين. وفيها عظم أمر المعصية، وقد نبه الحسن البصري على ذلك فيما أخرجه بن أبي حاتم عنه قال: يا سبحان الله، ما أكل هؤلاء الثلاثة مالا حراما، ولا سفكوا دما حراما، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر. وفيها أن القوي في الدين يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ الضعيف في الدين. وجواز إخبار المرء عن تقصيره وتفريطه وعن سبب ذلك وما آل إليه أمره تحذيرا ونصيحة لغيره. وجواز مدح المرء بما فيه من الخير إذا أمن الفتنة. وتسلية نفسه بما لم يحصل له بما وقع لنظيره. وفضل أهل بدر والعقبة. والحلف للتأكيد من غير استحلاف. والتورية عن المقصد. ورد الغيبة. وجواز ترك وطء الزوجة مدة. وفيه أن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف بها لئلا يحرمها، كما قال تعالى: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه. وفيها جواز تمني ما فات من الخير. وأن الإمام لا يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور بل يذكره ليراجع التوبة. وجواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية لله ورسوله. وفيها جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد وهم الطاعن أو غلطه. وفيها أن المستحب للقادم أن يكون على وضوء وأن يبدأ بالمسجد قبل بيته فيصلي ثم يجلس لمن يسلم عليه. ومشروعية السلام على القادم وتلقيه. والحكم بالظاهر وقبول المعاذير. واستحباب بكاء العاصي أسفا على ما فاته من الخير. وفيها إجراء الأحكام على الظاهر ووكول السرائر إلى الله تعالى. وفيها ترك السلام على من أذنب. وجواز هجره أكثر من ثلاث، وأما النهي عن الهجر فوق الثلاث فمحمول على من لم يكن هجرانه شرعيا. وأن التبسم قد يكون عن غضب كما يكون عن تعجب ولا يختص بالسرور. ومعاتبة الكبير أصحابه ومن يعز عليه دون غيره. وفيها فائدة الصدق وشؤم عاقبة الكذب. وفيها العمل بمفهوم اللقب إذا حفته قرينة لقوله لما حدثه كعب أما هذا فقد صدق فإنه يشعر بأن من سواه كذب لكن ليس على عمومه في حق كل أحد سواه لأن مرارة وهلالا أيضا قد صدقا فيختص الكذب بمن حلف واعتذر لا بمن اعترف، وقيل: وإنما غلظ في حق هؤلاء الثلاثة لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله وقول الأنصار نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا. وفيها تبريد حر المصيبة بالتأسي بالنظير. وفيها عظم مقدار الصدق في القول والفعل وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به. وأن من عوقب بالهجر يعذر في التخلف عن صلاة الجماعة لأن مرارة وهلالا لم يخرجا من بيوتهما تلك المدة. وفيها سقوط رد السلام على المهجور عمن سلم عليه، إذ لو كان واجبا لم يقل كعب: هل حرك شفتيه برد السلام. وفيها جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه ومن غير الباب، إذا علم رضاه. وفيها أن قول المرء: الله ورسوله أعلم ليس بخطاب ولا كلام ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم الآخر إذا لم ينوبه مكالمته. وفيها أن مسارقة النظر في الصلاة لا تقدح في صحتها. وإيثار طاعة الرسول على مودة القريب وخدمة المرأة زوجها والاحتياط لمجانبة ما يخشى الوقوع فيه. وجواز تحريق ما فيه اسم الله للمصلحة. وفيها مشروعية سجود الشكر. والاستباق إلى البشارة بالخير. وإعطاء البشير أنفس ما يحضر الذي يأتيه بالبشارة. وتهنئة من تجددت له نعمة والقيام إليه إذا أقبل. واجتماع الناس عند الإمام في الأمور المهمة. وسروره بما يسر أتباعه. ومشروعية العارية. ومصافحة القادم والقيام له. والتزام المداومة على الخير الذي ينتفع به. واستحباب الصدقة عند التوبة وأن من نذر الصدقة بكل ماله لم يلزمه إخراج جميعه. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8 /123- 125). ذكر ابن حجر فوائد لحديث أبي موسى الأشعري في حمل رسول الله لهم لعدم وجود الظهر معهم، وهي: استحباب حنث الحالف في يمينه إذا رأى غيرها خيرا منها. انعقاد اليمين في الغضب. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8 /112). ذكر ابن حجر فوائد لحديث نزول رسول الله وأصحابه الحجر من ديار ثمود، وهي: الحث على المراقبة. والزجر عن السكنى في ديار المعذبين. والإسراع عند المرور بها. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1 /531). ذكر ابن حجر فوائد لحديث دعاء رسول الله بزيادة الطعام، وهي: حسن خلق رسول الله . وإجابته إلى ما يلتمس منه أصحابه. وإجراؤهم على العادة البشرية في الاحتياج إلى الزاد في السفر. ومنقبة ظاهرة لعمر دالة على قوة يقينه بإجابة دعاء رسول الله . وعلى حسن نظره للمسلمين على أنه ليس في إجابة النبي لهم على نحر إبلهم ما يتحتم أنهم يبقون بلا ظهر، لاحتمال أن يبعث الله لهم ما يحملهم من غنيمة ونحوها، لكن أجاب عمر إلى ما أشار به لتعجيل المعجزة بالبركة التي حصلت في الطعام، قال ابن بطال: استنبط منه بعض الفقهاء أنه يجوز للإمام في الغلاء إلزام من عنده ما يفضل عن قوته أن يخرجه للبيع لما في ذلك من صلاح الناس. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6 /130). ذكر ابن القيم بعض ما تضمنته هذه الغزوة من الفقه والفوائد، منها: فمنها: جواز القتال في الشهر الحرام إن كان خروجه في رجب محفوظا على ما قاله ابن إسحاق. ومنها: تصريح الإمام للرعية وإعلامهم بالأمر الذي يضرهم ستره وإخفاؤه ; ليتأهبوا له ويعدوا له عدته، وجواز ستر غيره عنهم والكناية عنه للمصلحة. ومنها: أن الإمام إذا استنفر الجيش لزمهم النفير، ولم يجز لأحد التخلف إلا بإذنه، ولا يشترط في وجوب النفير تعيين كل واحد منهم بعينه. ومنها: وجوب الجهاد بالمال كما يجب بالنفس، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وهي الصواب الذي لا ريب فيه. ومنها: أن العاجز بماله لا يعذر حتى يبذل جهده ويتحقق عجزه. ومنها: استخلاف الإمام إذا سافر رجلا من الرعية على الضعفاء والمعذورين والنساء والذرية، ويكون نائبه من المجاهدين، وكانت خلافة عليّ خلافة خاصة على أهله ، وأما الاستخلاف العام فكان لمحمد بن مسلمة الأنصاري. ومنها: جواز الخرص للرطب على رءوس النخل، وأنه من الشرع، والعمل بقول الخارص. ومنها: أن الماء الذي بآبار ثمود لا يجوز شربه، ولا الطبخ منه، ولا العجين به، ولا الطهارة به، ويجوز أن يسقى البهائم إلا ما كان من بئر الناقة. ومنها: أن من مر بديار المغضوب عليهم والمعذبين لم ينبغ له أن يدخلها ولا يقيم بها، بل يسرع السير ويتقنع بثوبه حتى يجاوزها، ولا يدخل عليهم إلا باكيا معتبرا. ومنها: أن النبي كان يجمع بين الصلاتين في السفر. ومنها: أنه أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة، ولم يقل للأمة: لا يقصر الرجل الصلاة إذا أقام أكثر من ذلك، ولكن اتفقت إقامته هذه المدة، وهذه الإقامة إذا كان غير مستوطن ولا عازم على الإقامة بذلك الموضع. ومنها: قوله : «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم» قد يتعلق به الجبري، ولا متعلق له به، فإنه عبد الله ورسوله، إنما يتصرف بالأمر، فإذا أمره ربه بشيء نفذه، فالله هو المعطي والمانع والحامل، والرسول منفذ لما أمر به. ومنها: تركه قتل المنافقين، وقد بلغه عنهم الكفر الصريح. ومنها: أن أهل العهد والذمة إذا أحدث أحد منهم حدثا فيه ضرر على الإسلام انتقض عهده في ماله ونفسه، وأنه إذا لم يقدر عليه الإمام فدمه وماله هدر، وهو لمن أخذه، كما قال في صلح أهل أيلة: فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وهو لمن أخذه من الناس، وهذا لأنه بالأحداث صار محاربا حكمه حكم أهل الحرب. ومنها: جواز الدفن بالليل كما دفن رسول الله ذا البجادين ليلا. ومنها: قوله : «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم»، فهذه المعية هي بقلوبهم وهممهم، لا كما يظنه طائفة من الجهال أنهم معهم بأبدانهم، فهذا محال. ومنها: جواز إنشاد الشعر للقادم فرحا وسرورا به، ما لم يكن معه محرم من لهو كمزمار وشبابة وعود، ولم يكن غناء يتضمن رقية الفواحش وما حرم الله، فهذا لا يحرمه أحد، وتعلق أرباب السماع الفسقي به، كتعلق من يستحل شرب الخمر المسكر قياسا على أكل العنب وشرب العصير الذي لا يسكر، ونحو هذا من القياسات التي تشبه قياس الذين قالوا: ﴿إنما البيع مثل الربا﴾ [البقرة: 275] ومنها: استماع النبي مدح المادحين له وترك الإنكار عليهم، ولا يصح قياس غيره عليه في هذا، لما بين المادحين والممدوحين من الفروق، وقد قال: «احثوا في وجوه المداحين التراب». انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3 /488- 501). ذكر ابن القيم بعض ما اشتملت عليه قصة الثلاثة الذين خلفوا من الحكم والفوائد، منها: فمنها: جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره، وفي ذلك من التحذير والنصيحة وبيان طرق الخير والشر وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور. ومنها: جواز مدح الإنسان نفسه بما فيه من الخير إذا لم يكن على سبيل الفخر والترفع. ومنها: تسلية الإنسان نفسه عما لم يقدر له من الخير بما قدر له من نظيره أو خير منه. ومنها: أن بيعة العقبة كانت من أفضل مشاهد الصحابة، حتى إن كعبا كان لا يراها دون مشهد بدر. ومنها: أن الإمام إذا رأى المصلحة في أن يستر عن رعيته بعض ما يهم به ويقصده من العدو ويوري به عنه استحب له ذلك أو يتعين بحسب المصلحة. ومنها: أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز. ومنها: أن الجيش في حياة النبي لم يكن لهم ديوان وأول من دون الديوان عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربة والطاعة فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قلما ثبتت، والله سبحانه يعاقب من فتح له بابا من الخير فلم ينتهزه، بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ سورة الأنفال: 24. ومنها: أنه لم يكن يتخلف عن رسول الله إلا أحد رجال ثلاثة؛ إما مغموص عليه في النفاق، أو رجل من أهل الأعذار، أو من خلفه رسول الله واستعمله على المدينة، أو خلفه لمصلحة. ومنها: أن الإمام والمطاع لا ينبغي له أن يهمل من تخلف عنه في بعض الأمور، بل يذكّره ليراجع الطاعة ويتوب. ومنها: جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله، ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم. ومنها: جواز الرد على الطاعن إذا غلب على ظن الراد أنه وهم وغلط، كما قال معاذ للذي طعن في كعب: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا، ولم ينكر رسول الله على واحد منهما. ومنها: أن السنة للقادم من السفر أن يدخل البلد على وضوء وأن يبدأ ببيت الله قبل بيته، فيصلي فيه ركعتين ثم يجلس للمسلمين عليه ثم ينصرف إلى أهله. ومنها: أن رسول الله كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره. ومنها: ترك الإمام والحاكم رد السلام على من أحدث حدثا؛ تأديبا له وزجرا لغيره، فإنه لم ينقل أنه رد على كعب، بل قابل سلامه بتبسم المغضب. ومنها: أن التبسم قد يكون عن الغضب كما يكون عن التعجب والسرور، فإن كلا منهما يوجب انبساط دم القلب وثورانه، ولهذا تظهر حمرة الوجه لسرعة ثوران الدم فيه، فينشأ عن ذلك السرور، والغضب تعجب يتبعه ضحك وتبسم، فلا يغتر المغتر بضحك القادر عليه في وجهه، ولا سيما عند المعتبة كما قيل: إذا رأيت نيوب الليث بارزة. .. فلا تظنن أن الليث مبتسم. ومنها: معاتبة الإمام والمطاع أصحابه ومن يعز عليه ويكرم عليه، فإنه عاتب الثلاثة دون سائر من تخلف عنه. ومنها: توفيق الله لكعب وصاحبيه فيما جاءوا به من الصدق، ولم يخذلهم حتى كذبوا واعتذروا بغير الحق، فصلحت عاجلتهم وفسدت عاقبتهم كل الفساد، والصادقون تعبوا في العاجلة بعض التعب فأعقبهم صلاح العاقبة والفلاح كل الفلاح، وعلى هذا قامت الدنيا والآخرة. وفي نهي النبي عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق، ولا فائدة فيه. وفيه دليل أيضا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه، إذ المراد تأديبه لا إتلافه. ومنها: أن هلال بن أمية ومرارة قعدا في بيوتهما، وكانا يصليان في بيوتهما، ولا يحضران الجماعة، وهذا يدل على أن هجران المسلمين للرجل عذر يبيح له التخلف عن الجماعة، أو يقال: من تمام هجرانه أن لا يحضر جماعة المسلمين، لكن يقال: فكعب كان يحضر الجماعة ولم يمنعه النبي ، ولا عتب عليهما على التخلف، وعلى هذا فيقال: لما أمر المسلمون بهجرهم تركوا: لم يؤمروا ولم ينهوا ولم يكلموا، فكان من حضر منهم الجماعة لم يمنع، ومن تركها لم يكلم، أو يقال: لعلهما ضعفا وعجزا عن الخروج. وقوله: «وآتي رسول الله فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟»: فيه دليل على أن الرد على من يستحق الهجر غير واجب، إذ لو وجب الرد لم يكن بد من إسماعه. وقوله: «حتى إذا طال ذلك علي، تسورت جدار حائط أبي قتادة»: فيه دليل على دخول الإنسان دار صاحبه وجاره إذا علم رضاه بذلك وإن لم يستأذنه. وفي قول أبي قتادة له: «الله ورسوله أعلم»: دليل على أن هذا ليس بخطاب ولا كلام له، فلو حلف لا يكلمه فقال مثل هذا الكلام جوابا له لم يحنث، ولا سيما إذا لم ينو به مكالمته، وهو الظاهر من حال أبي قتادة. وفي إشارة الناس إلى النبطي الذي كان يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ دون نطقهم له تحقيق لمقصود الهجر، وإلا فلو قالوا له صريحا: ذاك كعب بن مالك، لم يكن ذلك كلاما له، فلا يكونون به مخالفين للنهي، ولكن لفرط تحريهم وتمسكهم بالأمر لم يذكروه له بصريح اسمه. وفي مكاتبة ملك غسان له بالمصير إليه: ابتلاء من الله تعالى وامتحان لإيمانه ومحبته لله ورسوله، وإظهار للصحابة أنه ليس ممن ضعف إيمانه بهجر النبي والمسلمين له، ولا هو ممن تحمله الرغبة في الجاه والملك مع هجران الرسول والمؤمنين له على مفارقة دينه، فهذا فيه من تبرئة الله له من النفاق وإظهار قوة إيمانه، وصدقه لرسوله وللمسلمين ما هو من تمام نعمة الله عليه، ولطفه به وجبره لكسره، وهذا البلاء يظهر لب الرجل وسره وما ينطوي عليه، فهو كالكير الذي يخرج الخبيث من الطيب. وقوله: «فتيممت بالصحيفة التنور»: فيه المبادرة إلى إتلاف ما يخشى منه الفساد والمضرة في الدين، وأن الحازم لا ينتظر به ولا يؤخره. وفي أمر رسول الله لهؤلاء الثلاثة أن يعتزلوا نساءهم لما مضى لهم أربعون ليلة كالبشارة بمقدمات الفرج والفتح من وجهين: أحدهما: كلامه لهم، وإرساله إليهم بعد أن كان لا يكلمهم بنفسه ولا برسوله. الثاني: من خصوصية أمرهم باعتزال النساء، وفيه تنبيه وإرشاد لهم إلى الجد والاجتهاد في العبادة، وشد المئزر، واعتزال محل اللهو واللذة والتعوض عنه بالإقبال على العبادة، وفي هذا إيذان بقرب الفرج، وأنه قد بقي من العتب أمر يسير. وقول كعب لامرأته: «الحقي بأهلك»: دليل على أنه لم يقع بهذه اللفظة وأمثالها طلاق ما لم ينوه. وفي سجود كعب حين سمع صوت المبشر دليل ظاهر أن تلك كانت عادة الصحابة، وهي سجود الشكر عند النعم المتجددة والنقم المندفعة، وقد سجد أبو بكر الصديق لما جاءه قتل مسيلمة الكذاب، وسجد علي بن أبي طالب لما وجد ذا الثدية مقتولا في الخوارج، وسجد رسول الله حين بشره جبريل أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا، وسجد حين شفع لأمته فشفعه الله فيهم ثلاث مرات، وقال أبو بكرة: «كان رسول الله إذا أتاه أمر يسره خر لله ساجدا»، وهي آثار صحيحة لا مطعن فيها. وفي استباق صاحب الفرس والراقي على سلع ليبشرا كعبا دليل على حرص القوم على الخير، واستباقهم إليه، وتنافسهم في مسرة بعضهم بعضا. وفي نزع كعب ثوبيه وإعطائهما للبشير، دليل على أن إعطاء المبشرين من مكارم الأخلاق والشيم وعادة الأشراف. وفيه دليل على جواز إعطاء البشير جميع ثيابه. وفيه دليل على استحباب تهنئة من تجددت له نعمة دينية، والقيام إليه إذا أقبل، ومصافحته، فهذه سنة مستحبة، وهو جائز لمن تجددت له نعمة دنيوية. وفيه دليل على أن خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبي : «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك». وفي سرور رسول الله بذلك وفرحه به واستنارة وجهه: دليل على ما جعل الله فيه من كمال الشفقة على الأمة والرحمة بهم والرأفة، حتى لعل فرحه كان أعظم من فرح كعب وصاحبيه. وقول كعب: «يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي»: دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال. وقول رسول الله : «أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك»: دليل على أن من نذر الصدقة بكل ماله، لم يلزمه إخراج جميعه، بل يجوز له أن يبقي له منه بقية. ومنها: عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ سورة التوبة: 119. وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ سورة التوبة: 117: هذا من أعظم ما يعرف العبد قدر التوبة وفضلها عند الله، وأنها غاية كمال المؤمن، فإنه سبحانه أعطاهم هذا الكمال بعد آخر الغزوات بعد أن قضوا نحبهم، وبذلوا نفوسهم وأموالهم وديارهم لله، وكان غاية أمرهم أن تاب عليهم، ولهذا جعل النبي يوم توبة كعب خير يوم مر عليه منذ ولدته أمه إلى ذلك اليوم وتأمل تكريره سبحانه توبته عليهم مرتين في أول الآية وآخرها، فإنه تاب عليهم أولا بتوفيقهم للتوبة، فلما تابوا تاب عليهم ثانيا بقبولها منهم، وهو الذي وفقهم لفعلها، وتفضل عليهم بقبولها، فالخير كله منه وبه وله وفي يديه، يعطيه من يشاء إحسانا وفضلا، ويحرمه من يشاء حكمة وعدلا. انظر: "زاد المعاد" لابن القيم (3 /502- 518). قال القرطبي معقبا على استخلاف رسول الله علي رضي الله عنه على المدينة: «وفي هذه الغزاة خلف عليا على المدينة فقال المنافقون: خلفه بغضا له، فخرج خلف النبي وأخبره فقال عليه السلام: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، وبين أن قعوده بأمره عليه السلام يوازي في الأجر خروجه معه لأن المدار على أمر الشارع». "تفسير القرطبي" (8 /280). قال القرطبي: «وإنما ضرب المثل بجيش العسرة لأن رسول الله لم يغز قبله في عدد مثله لأن أصحابه يوم بدر كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ويوم أحد سبعمائة ويوم خيبر ألفا وخمسمائة ويوم الفتح عشرة آلاف ويوم حنين اثني عشر ألفا وكان جيشه في غزوة تبوك ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه ». "تفسير القرطبي" (8 /280).